تنسيقية الجمعيات والحركات الإسلامية في السنغال……. معالمٌ وآفاقٌ (الجزء الثاني)
(*) محمد بشير جوب
نشأة تنسيقية الجمعيات والحركات الإسلامية وآليات عملها.
كانت أولى إرهاصات التنسيقة على صورة برامج مشتركةٍ بين الحركات الأربعة التي شكلتها اليوم، فكان لقاؤهم الأول في ميدان “آمدُ بارِي” حضره جمهورٌ غفيرٌ، تبعه لقاء آخر في جامعة “شيخ أنت جوب” بدكار استحسنه كثيرٌ من الناس، وفي تاريخ 06-01-2013 بالذات أصدرت التنسيقية نظامها الأساسي الذي فصل فيه رؤيتها ورسالتها وآليات عملها، فعرفت نفسها في المادة الثالثة من النظام الأساسي بأنها “هيئةٌ تنسيقيةٌ إسلاميةٌ، دعويةٌ تربوبةٌ ثقافيةٌ، تعمل وفق منهج أهل السنة والجماعة في الاعتقاد والتلقِّي والعبادة والمعاملات”.
ويمكن اعتبار تاريخ 29 أغسطس 2015 الانطلاقة الحقيقية للتنسيقية، حيث في هذا التاريخ اجتمع الأعضاء المؤسسون للتنسيقية في “انغابو” لاختيار مكتبٍ رسمّيٍ لها، فتم اختيار سرين بابو أميرُ جماعة عباد الرحمن رئيساً للتنسيقية لمدة ثلاث سنوات، وفي هذا الاجتماع تم تبني اسم تنسيقية الجمعيات والحركات الإسلامية في السنغال بشكل رسميٍّ.
جعلت التنسيقية هدفها الأساسي توحيد جهود الجمعيات المنضوية تحتها، وتوحيد المواقف في القضايا العامة ذات الاهتمام المشترك، وفتحت أبوابها لعضوية كل الجمعيات الإسلامية، للوصول إلى بناء قاعدةٍ صلبةٍ تحقق الوحدة الكاملة لهذه الجماعات على المدى البعيد، وقد تم النصّ على هذه المبادئ المذكورة في النظام الأساسي للتنسيقية، يوجد بعضها في السياسات العامة وبعضها الآخر في الأهداف والوسائل.
يتكون الهيكل التنظيمي للتنسيقية من هيئتين هما مجلس القيادة والمكتب التنفيذي، حيث يتكون مجلس القيادة من رؤساء الجمعيات الأعضاء، ويعتبر أعلى السلطة في التنسيقية، والمرجعية العليا لها، وتكون لها سلطة اتخاذ القرارات النهائية فيما يعرض للتنسيقية، ويتم اختيار الرئيس بالتناوب بين رؤساء الجمعيات الأعضاء، فيما يكون الآخرون نواباً له، بينما يتكون المكتب التنفيذي من أمين عام ومساعدين ورؤساء اللجان، ويكون عليه مهمة تنفيذ القرارات التي تأتي من السلطة العليا للتنسيقية، كما يتضلع بكل الأعمال التنفيذية ذات الطابع الإداري.
وحصرت التنسيقية وسائل عملها في ثنتي عشرة فقرة في النظام الأساسي، وتتوزَّع هذه الوسائل فيما بين وسائل تربوية وثقافية واقتصادية وإعلامية وتدريبية وغيرها، وتميَّز توزيع الوسائل بالمرونة التي تساعد التنسيقية إلى تنويع برامجها، ولكن ماعدا البيانات التي تصدرها التنسيقية بين الفينة والأخرى، فإن التنسيقية لم تستغل بعد المساحة المتوفرة لها في الساحة السنغالية، ولعل السبب الرئيسي في ذلك عدم توازن في الأهداف والوسائل المعلنة مع الأجهزة الفرعية التنفيذية الحالية، ويجب أن يكون ذلك في اعتبار التنسيقية عند إعادة هَيْكلة التنسيقية.
مستقبل التنسيقية مع الواقع السنغالي الراهن.
يفهم مما سبق أنه رغم المخاض العسير الذي مرت عليه التنسيقية، حاول مؤسسوها الانطلاقة من عملٍ مؤسسيٍّ يُراعى فيه جميع الجوانب الموضوعية والشكلية الضرورية، ولكن كأي عملٍ بشريٍّ؛ قد يعتري التنسيقية ما يعتري كل الجماعات الدعوية العاملة، فيحتاج الأمر في كل مرةٍ إلى إعادة تقييم من أجل التطوير إذا أريد لها تحقيق أهدافها في المستقبل العاجل أو الآجل.
ونرى بأن مستقبل التنسيقية تتأرجح بين القدرة على استغلال الفرص الموجودة لها في الساحة وتوظيفها لصالحها، وبين القضاء على التحديات والعوائق الماثلة أمامها، وسوف نسرد هنا جملة من الثغرات التي قد تشكل عائقاً للتنسيقية، بعضها شكليةٌ وبعضها الآخر موضوعيةٌ.
الثغرات الموضوعية: وأقصد بها الموضوعات الجوهرية التي أعتبر أن نجاح التنسيقية في المستقبل مرهونٌ بحسمها قبل كل شيءٍ، وإلا فكلُّ خطوة تقوم بها التنسيقية قد تكون لها انعكاساتٌ سلبيةٌ تضر الأعضاء المنضوية تحت لواء التنسيقية قبل غيرهم، وتجلَّت هذه الثغرات الموضوعية واضحة من خلال ردود الأفعال التي شهدناها بعد برنامج الزيارة إلى إحدى البيوت الدينية التي نظمتها التنسيقية قبل أيام، ونورد هذه الثغرات على النحو الآتي:
أزمة القناعة الجمعية أو (الإجماع في القناعات):
يُتصور أن الجماعات التي شكَّلت التنسيقية لم تتقدم إلى هذه الخطوة الجريئة إلا بعد دراسةٍ عميقةٍ أوصلتها إلى قناعة إنشاء التنسيقية، والمنطق يقودنا بعد ذلك إلى أن كل عملٍ تقوم بها التنسيقية بعد إنشائها سينبثق حتماً من هذه القناعة المسبقة، ولكن قد يظهر للبعض من خلال بعض ردود الأفعال أن هذه القناعة لم تحظ بالإجماع لدى مكونات التنسيقية، أو أن هذه القناعة تحولت إلى مجرد استيراجية، وسوف يحاول هؤلاء تفسير ذلك ببعض الاعتراضات التي صدرت من بعض القيادات في الصفوف الأول لبعض الحركات المكونة للتنسيقية، تنال بالنقد المباشر لبعض جوانب الزيارة علناً، مع أن هذه الزيارة تم ترتيبها مسبقاً والاتفاق عليها في اجتماع رسميٍّ للتنسيقية.
فقدان الجاهزية لتقديم بعض تنازلات:
الهدف الأساسي للتنسيقية هي تقوية الروابط الأخوية، وتقريب الحركات والجمعيات، وجمع كلمة المسلمين في السنغال، وهي أهدافٌ نبيلةٌ ومقدسةٌ، ولكن لا يتوقع أن يتحقق هذه الأهداف إلى بتقديم تنازلات متبادلةٍ، وإذا كانت التنسيقية غير مستعدة لتقديم أي تنازل فإنشاؤها قد يكون مجرد لغوٍ ونفخٍ في رماد، وتكرارٍ للأخطاء السابقة، وليس القصد هنا أن يتم التنازل في المبادئ والمناهج، وإنما في الأمور التي يمكن التنازل فيها، ويبقى ذلك تحت تقييم من يعنيهم الأمر في التنسيقية.
عدم الاستعداد لدفع الثمن:
من أجل النجاح في تحقيق رسالة التنسيقية وأهدافها يلزم على القائمين بأمرها الاستعداد لدفع ثمنٍ باهظٍ، وأقل ما يمكن تصوره من هذا الثمن الواجب دفعه هو الانتقادات اللاذعة التي تأتي في الغالب من أصحاب خلفياتٍ مختلفةٍ، وأغلبها تأتي من الشباب المتحمّسين، الذين لم يحرقهم بعد حرارة الشمس من أجل الدعوة، ناهيك من تقديم أي تضحيةٍ في سبيلها، فلا يجب أن تنال التراهات التي يهذي بها بعض الأفراد إلى تراجع التنسيقية عن المضي قدماً لإنجاح برامج التنسيقية وأهدافها، بل ينتظر منها أن تكون ثابتة في منهجها، وصارمة لتجاوز العقبات الماثلة أمامها.
تقديم العربة على الحمار:
مضى عن عمر التنسيقية خمس سنوات أوعلى الأقل ثلاث سنوات ولا يعرفها كثيرٌ من الناشطين في الحركات الأعضاء داخل التنسيقية، ناهيك عن الحركات الأخرى و بعض الشخصيات المستقلة والجمهور، والسبب في كون بعض ردود الأفعال تجاه التنسيقية سلبية وحادّة أحيانا يرجع إلى أن القواعد الشعبية للعمل الإسلامي لاتعرف الكثير عن التنسيقية، ولذا يأتي بعض الأمور غريبة بالنسبة لهم، لأنهم يرون العوارض دون معرفة الأسباب والمسببات، فكان الأولى البداية بتعريف التنسيقية وفق برامج محددة لدى الجمهور والقواعد الشعبية قبل الإقدام إلى البرامج المهمة كالزيارة الأخيرة التي حصلت وأحدثت ضجةً كبيرةً في الساحة السنغالية، ويمكن ربط هذه الثغرة بأحد المشاكل الأساسية التي طال ما عانى منها العمل الأسلامي، وهي الهوة الموجودة بين القمة والقاعدة بسبب ضعف التواصل بين الطرفين، حيث يجد العمل الحركي في السنغال صعوبةً في التفريق بين سرية العمل الإسلامي وتأمين العمل الإسلامي، يجعله ذلك يُحرم وصولَ بعض المعلومات الأساسية لقاعدتها الشعبية بدعوى وجوب السرية في العمل الإسلامي، وهو إسقاطٌ غير صحيح في جميع الحالات ولا مجال للتفصيل في ذلك في هذا المقام.
الثغرات الشكلية: وأقصد بها الجوانب الشكلية والإجرائية، كالهيكل التنظيمي، واللائحة الداخلية، وهي مهمة للغاية حيث تشكل العمود الفقري لأي عمل جماعي، ولقد وضعت التنسيقية نظامها الأساسي منذ عام 2013، وعرض النظام للنقاش في عام 2015 خضع خلاله لبعض تعديلاتٍ طفيفةٍ، إلا أن أكبر ثغرةٍ للجانب الشكلي للتنسيقية هو عدم وجود لائحةٍ داخليةٍ لها حتى اللحظة، مع وجود بعض موضوعاتٍ أساسيةٍ لم يتم التعرض لها في النظام الأساسي، وهي إن كانت تركت للنظام الداخلي فيحتِّم ذلك ضرورة الإسراع إلى وضع لائحةٍ داخليةٍ لها من أجل ضمانة سلامة القرارات وسلاستها.
وبجانب هذه الثغرات الموضوعية والشكلية، توجد مهدداتٌ إذا لم يتم أخذها في الاعتبار قد تنسف جهود التنسيقية، ومن هذه المهددات مايمكن أن نعتبرها طبيعية، وهي تلك التي تصدر من الأطراف المناوئة للمشروع الإصلاحي الذي يعتبر العمل الإسلامي الدعوي خطاًّ دفاعياًّ مهما له، فمن الطبيعي أن لايرتاح هذه الأطراف لوجود أي تقارب بين أبناء الحركات والتجمعات الإسلامية، وسينزعجون أكبر عندما يرون مشروعاً يهدف إلى التقريب بين تلك الحركات والتجمعات بالقوى الإسلامية الأخرى، وبما أن هذه المهددات طبيعية فمن الوارد أن القائمين بأمر التنسيقية سيضعونها في حساباتهم، للتعامل معها بالشكل المناسب.
إلا أن المحكَّ الأكبر للتنسيقية يكمن في المهددات غير الطبيعية التي ستواجهها حتماً، ويخشى منها أن تقضي على جملة من الأهداف النبيلة التي تسعى التنسيقية جادَّةً لتحقيقها، وتتمثل هذه المهددات غير الطبيعية في التدافع الذي غالباً مايكون محتدماً في داخل القوى الإسلامية بنفسها، سواء الحركات أو التجمعات أو الطرق الصوفية، والفاعلون الأساسيون في هذه المعركة هم الحمائم والصقور، فحين يحرص الحمائم في كلا الطرفين إلى ما يَجمعُ ويقرِّبُ ويُقوِّي، يقابلهم الصقور دائماً بسدّ الحبل إلى الاتجاه المعاكس وتكون مواقفهم العلنية مخالفة لقناعاتهم، فهو ضعفٌ في النفس يبتلي به الله بعض الناس-عافانا الله جميعا- ويكون تأثيره السلبي أشد عندما يكون لصاحب هذه الصفة نفوذا في الحركة أو الجمعية أو الطريقة، فالأمر ليس إلا خوفا من فوات المصلحة الشخصية أو الجهوية من أجل مصلحة أعم منها.
وتزول هذه المهددات عندما يدرك الذين في زعامة هذه الجمعيات والطرق كلٌّ على حدةٍ مسؤوليته ويقوم بتفويت الفرص لهذه الشريحة، ويرسخ في قناعة الجميع أن أهداف التنسيقية هي في المرتبة الأولى مقارنة بالأهداف الأخرى، ويتضح ذلك إذا أمعنا النظر في مبررات إنشاء التنسيقية وقد سبق ذكرها.
الخاتمة:
“تحقيقا للمقاصد الإسلامية في وجوب الاجتماع والائتلاف وجمع كلمة المسلمين تسعي التنسيقية جاهدة وبخطى حثيثة إلى تحقيق مبدأ الأخوة الإسلامية في بلادنا، بعد أن أمدها الله بالوسائل المعينة على ذلك، فقامت برسم صورة للخطة التي تراها ملائمة للوفاق والتآلف والتعاون على البر والتقوى” تلك الفقرة هي نهاية ديباجة النظام الأساسي للتنسيقية، وهي لاتحمل معانٍ حكيمة رُوعيت في صياغتها فحسب، ولكنها أيضاً تعكس مدى عظم المسؤولية التي أنيطت على عاتق التنسيقية، ولا يراد لهذه التجربة أن تكون على غرار التجارب التي مرت وفشلت وأصبحت حديث التاريخ، وإنما الأمل هو أن تكون التتنسيقية على مستوى التحدي الموجود، من خلال فرض وجودها في الساحة السنغالية، ليشرق فجرٌ جديدٌ للدعوة الإصلاحية، فصعود السلم يبدأ بدرجة، وبناء الناطحة الشاهقة يبدأ بغرس القاعدة، ولا يكون الربيع بزهرة ولكن كل ربيع يبدأ بزهرة.