أزمة الكسل الحقيقي والجهد الافتراضي

قد نتكاسل عن الكتابة للشك في أهميتها وما تأخذ منا الكتابة من وقت، مقابل قلة نسبة القراء بلغة القرآن التي بها نكتب أو نخربش، لنعبّر عن لواعجنا وأفكارنا، إن كانت لنا أفكار ولواعج في الصدور… ومع قلة المولعين بالقراءة في السنغال، وقلة نسبة المستفيدين مما نكتب بالحروف العربية، وقلة المتجاوبين مع ما يقرأون، تعليقا أو تعقيبا.. إضافة إلى ضعف أثر ناتج القراءة في المجتمع السنغالي، ولدى المثقفين منهم بلغة الضاد…
ودليل ذلك أنّ كثيرا ما يعلق فلان وعلّان كما يلي: أووهْ لو كُتب هذا المقال أو الخاطرة بلغة لاتينية، أو تُرجم إليها، لأهمية ما تناوله الكاتب من مسائل، وروعة طريقة طرحه! حتّى تنتبهَ ساسة السنغال أن لبعض المستعربين عقولا تفكّر وتُنتج!
كل هذا وغيره يجعلني ـ تارة ـ أوثر القراءة على الكتابة. ويردني السؤال الملحّ: ماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ حتّى أواكب العصر ومستجداته؟ فأفتح الواتساب لأقرأ التعليقات عن الأحداث المفجعة والمخزية من ساسة وشيوخ وكوادر وشباب وكهول؛ وأجد النقاش ساخنا في مدافن الديموقراطية السنغالية، فهل دفنت قبل قتل لتجور جوب أم بعده؟ وكيف نبشت أجداثها بعد الاستقلال؟ وما عن الذين حملوا رفاتها مع أحداث ممد جه وسنغور؟ وعن عصور الدكتاتوريات المغلّفة بعدها والمتّسمة بقوانين مزيفة، وتشريعات مفخّخة؟!
ثم أغلق هذا التطبيق لأفتح تلغرام لأجدها خاملة لم تستطع أن تجاري الواتساب في نشاطها وسخونتها، وإن كانت أوفى منها في حفظ الوثائق لا المواثيق.. ثم أتوجه إلى تيك توك لأقرأ المقاطع الجدية والهزلية والملغومة والهادفة؛ وأستهلك الرصيد في جميع الأحوال كما أستهلك الوقت الكثير والثمين في تصفح أوراق تلك العوالم الوهمية، بحثا عن ماذا أقرأ؟ وما الخيار الأصلح لاستفادة مُثلى بالوقت المسموح الغالي من تجارب الآخرين؟ ثم أهاجر هجرة أحسبها شرعية إلى يوتوب أو فيسبوك وأجد حالهما كسابقاتهما، من حيث الإلهاء والإغفال والألغام والآلام.
وقد أودّ أن أُنزل أو أحمّل كتابا إلكترونيا، وأقرأ في تخصصي الذي هو التربية فصلا أو فصلين. لكن تأتيني إعلانات مشتتة تصرفني عن سؤالي المطروح قريبا بـ ماذا ولماذا..
هكذا أمضي وأضيع وقتا طويلا في الشبكات العنكبوتية وبين التطبيقات المجانية ـ إن كان هناك مجان ـ حاملا أسئلتي دون أجوبة مقنعة؛ وأتفلسف مخادعا: “الأسئلة أهم من الأجوبة في دنيا الفلاسفة..” وعلى ذلك، واصل ـ يا هذا ـ في تصفّح المنصات الحديثة حتى لا يفوتك قطار الحداثة ولا طابور المعاصرة، وتقدر على مشاركة الخلان في معالجة.. لا بل في مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية والرياضية… نعم مجرد مناقشة يتبعها منافرة الطباع لا معاملة القضايا بواقعية مجدية! نعم ـ لا مشكلة ـ لأنه عصر النقاش الافتراضي، والمهم ألا يفوتك قطار الحوادث المحكية في تلك المنصات…
أظن أنني أكاد أكون نسخة متكررة في منهجيات التعامل مع الشبكات التواصلية، إن لم أكن كذلك…
ومن هنا ألا ينبغي أو يجب أن نخطط بصرامة لجدول استعمال الزمن المصروف في الهاتف ونبرمج الحصة المقدرة لكل تطبيق، أو منصة.. ألم تحتج القضية أن نبحث عن خبراء في مجال التخطيط التربوي ليجتمعوا في مؤتمرات دولية وإقليمية ومحلية، ويقترحوا أهدافا عامة وإجرائية وخطوات ومراحل مُبرّرَة، لتحسين الاستفادة من الوقت والمحتوى والوسائل والأدوات المتاحة في هذا العالم الافتراضي الذي غزا العالم الحقيقي وسيطر عليه، وفرض علينا أحكامه وتصرفاته، بكل كفاءة ولباقة، بواسطة ذكائه الاصطناعي العبقري.
إنه عهد التكنولوجيا التواصلية الحديثة، وعهد الخواء الروحي والانفلات المعلوماتي والتفكك الأسري، والمعضلات النفسية، والخدع القانونية والفكاهات التشريعية، والتورية الديموقراطية أو الديموقراطية الموتورة.. إنه دهشة بل حيرة أو كلّ ما يتوفّر في ذهنك من أوصاف محيرة.. لم يعد للكاتب حبر ولا مكتبة، ولم يعد للكتاب المطبوع سمعة ولا قيمة.. إنه ثورة رقمية عارمة وغالبة مسيطرة.
والسؤال الملحّ: كيف نستغل العالم الرقمي بكل حزم وعزم لضمان الإنتاجية التربوية، في ظل أمن روحي، ونقاء اجتماعي؟ أما أنا فكم أتعاهد نفسي لترتيب جواب يقنعني في هذا وأنسى قبل إبرامه، وأتذكر قوله سبحان من لا ينسى “ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما”
أنسى عهدي وأتكاسل عن الكتابة لقلة أهميتها ـ حاليا ـ وما تتطلّبه الكتابة من عزم…

أحمد جه.
٤ فبراير ٢٠٢٤م

تعليق 1
  1. محمد ويلان يقول

    أغوص النص وأجد مشاعري بين سطوره كأني الكاتب بأفكاري وما كتبته أحسن وأجمل مما في صدري حتى أصبح إرشادا لي في كيفية المعاملة مع الشبكات التواصلية فجزاك الله خيرا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.