محطات في حياة يتيم ، قراءة في دلالة التقنيات

متحليا بكثير من الشوق والحنين للماضي، ودافعًا للاستكشاف، وحبا للإطلاع، ويقينًا بأن التجربة عصارة الحياة وخير ما يمد بها الحاضر والماضي للمستقبل ، ندخل غمار كتب السير الذاتية غالباونحن نهدف إلى شيئين :

١- إلى الاستمتاع بأدبية فنه وبغض الطرف عن ماهية الأدبية فإن أقل ما تتحقق الأدبية من خلالها ، تكون على مستوى الأسلوب والصور أو الشكل والبنية والمضمون
٢- نعرج من خلالها عن البحث عن مخرج يكون غنيمة قراءتنا للكتاب، ومنطلقًا لفهم أحداث قد غابت عنا بعض تفاصيلها التي كانت جذرية في تشكلها وتشكيلها.

ولذلك صار فنًا رائجًا منذ أن أصدر جان جاك روسو كتابه (اعترافات) وصولًا إلى دخوله الأدب العربي بشكل واضح على يد طه حسين في رائعته الخالدة (الأيام)، ويكفي للدلالة على رواجها أنها أكثر الكتب رواجًا وشراء في العالم الغربي حاليا، إلا أن ذلك يوقعنا في حيرة حينما نكتشف أنه فن مهمل بغرابة في أوساطنا السنغالية، بل يكاد ينعدم وجودها باستثناء كتاب الدكتور خادم امباكي – حفظه الله – (من وحي السبعين )، ولعل ذلك راجع إلى ظروف البيئة التي لاترحم الماضي ولا تحبذ النبش فيه ولو كان بغرض التعليم والتعلم – وللناس فيما يعشقون مذاهب -، وتلك الندرة التي تبلغ حد الشح هي ما تضفي قيمة إضافية على كتاب (محطات في حياة يتيم ) خاصة عندما يصدر عن كاتب بقيمة الدكتور محمد أحمد لوح وما يمثله من قيمة معرفية وفكرية في الوسط العلمي للسنغالي والعالمي، وعراقة في النسب والمحتد، وتتضاعف أهميته عند شخص طوبوي مثلي، إذ يسرد له مغامرات علمية خاضها جيل تحدوا الصعاب، وركبوا المخاطر في سبيل تحقيق التعلم، وهي مغامرة يجب أن تُثَبّتَ في أذهان الشباب علّ ذلك يزيدهم بريقا وهمة نحو الصعود إلى مراقي المجد واستكمال ما سعى إليه الآباء فصدهم عنها قلة اليد وضعف الإمكانيات. فضلا عن تصويره الحياة الطوبوية البسيطة في بداية الستينات، وتزداد عندي – شخصيا – أهمية إضافية، إذ من النادر أن يلقى الإنسان حكايات تخص أباه، وجده من جهة الأب ومن جهة الأم معا ( الشيخ مصطفى مصمب والد الوالد والشاعر شيخ مختار بوصو والد الوالدة ) في كتاب واحد، ولكل ذلك وأكثر، تكون القراءة النقدية لمثل هذا الكتاب دفعا لعجلة العلم نحو الأمام، وفي قراءتي هذه سأعتمد على دراسة التقنيات البنائية الأكثر بروزًا في الكتاب، اعتقادًا مني بأن كل تقنية تكمن وراءها كومة من المعاني والدلالات …

وحينما أكون إزاء دراسة أي نص أدبي فإنني على قناعة أن قراءتنا
تستند على ذواتنا الداخلية ومكنوننا الثقافي المسبق، والأخذ بعين الاعتبار أيضا الفرق الدقيق والجوهري بين النص والعمل حيث الأول استهلاكي والثاني استنتاجي (على رأي ما بعد البنيويين ) أو بين اللغة والكلام حسب تعبير دوسوسير_مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين المنطلقين.،
إذا منذ الإعلان الجنائزي الشهير لرولان بارت بموت المؤلف وميلاد القارئ نجد أنفسنا مكلفين باستنطاق النص، مستندًا على الدوال التعبيرية وما يتوفر لدينا من أدوات ولذلك فإن أية قراءة تختلف عن نظيرتها، أو بعبارة أحدٍ النقاد: ( كل قراءة تمثل نصًا موازيًا والقراءة إنشاء لنص مستقل )، والاستنطاق الذي أحب أن أمارسه يعتمد على البنى الدالة والبنية التعبيرية، وسأكتفي بثلاث تقنية أرجو أن تشمل حيزًا واسعًا من الكتاب وهي :

١- الخواص الأسلوبية ذات المنحى الشكلي وهناك نلتقي بسمتين هما: التجريد والتكرار، إذ لعلهما أبرز سمتين أسلوبيتين في الكتاب وقد أزعم أنهما يصلحان لقراءة خاصة لا تتسع لها الصفحات هذه، وهما سمتان تعبيريتان ذاع استعمالهما في الشعر المعاصر أكثر من الشعر القديم، ودلالة التجريد التي تجعل الكاتب منفصلًا عن تاريخه الشخصي ويضعها كحاك لا كفاعل ، انحراف لغوي مقصود، إذ لا يمكن أن يكون الانزياح في النص عشوائيًا خاصة حينما يبنى عليها المعنى كليًا، وأزعم أن التجريد هنا وظف كي يكون الكاتب على قدر من الحرية والتوسع فيما يخص المدح والذم، خاصة إذا كان الأمر متعلقا بشخص الكاتب نفسه.
أما التكرار، والذي أقصد به هنا تعريف السجلماسي للتكرار وهو:( إعادة اللفظ الواحد بالعدد أو النوع، أو المعنى الواحد بالعدد أو النوع، في القول مرتين فصاعدا ) أما عن وظيفته الجمالية الأعلى فسأكتفي بقول موسى ربابعة في ( التكرار في الشعر الجاهلي ) إذ يقول: ( والتكرار لايقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس الملتقى ) وعودا على بدء فإن كلمة اليتيم فضلًا عن وجودها في العنوان فإنها الكلمة الأكثر حضورا بشكل لايخدم النسق العام أحيانًا وأرى أن لتكرار الكلمة دلالة مهمة وهي:

١- أن الكاتب يربط كل ما حدث له في حياته بعد المولى – سبحانه طبعًا – بيتمه، وكأن اليتم هو العنصر الرئيسي الذي لاحقه في حياته، ولازمه في حله وترحاله ،وتركه نقوشه على كل جدران تجاربه، ففي كل شيء في حياته يظهر آثار ذلك اليتم، وفي كل نجاح جديد يكتسبه يتذكره، وعلاقة ذلك النجاح بذلك اليتم، ولا أدل على ذلك أن الكلمة الأكثر حضورا في ذهنه هو قول أمه له( Sabaay Kuko Masa Jam Doonani )… وهذه الحكاية جاءت نتيجة يتمه، لأنه لو عاشر أباه قد لا يعايشه بالقدر الملائم الذي يتكفل له باستنتاج تلك الجملة من حياته ، وهو ما يندرج تحت ما يسمى بالوظيفة التأكيدية للتكرار، لكن الإشكالية أن هذا التكرار بقدر ما أنتج الوظيفة التي سيقت من أجلها، فإنها أربك الإيقاع الصوتي وذلك للكثرة المفرطة، ولعل الكاتب كان سيستغني عنه بالضمير ليكون أكثر ملائمة للموسيقى التعبيرية وسلاسة العبارات لولا ما أصدرته من غرض قد يبرره.

٢- إشكالية اللغة والنص:
حينما نتحقق من أدبية أي نص فإننا ملزمون بفحص الشكل البنائي، وحتى لا أدخل في صلب التخصص فأربك القارئ فإن المقصود بالأدبية هنا هو ( الشيء الذي يجعل النص أدبًا أو القدر الذي يتحقق به الأدبية ) وهو كما أسلفنا يتحقق في الشكل والمضمون وحينما نتحدث عن جماليات اللغة المكتوبة بها، فلا أظن أن أحدًا ينازع في أنها لا ترقى إلى لغة طه السلسة أو عفوية أحمد أمين أو شاعرية الرافعي في سيرهم الذاتية، ولم يكن ذلك أيضا منتظرا استنادًا إلى طبيعة الكاتب وتخصصه العلمي، حيث إن قراءات الإنسان هي ما تنعكس على لغة كتابته لكنها حتما أيضا ليست لغة سبهللا، وتبعد عن الركاكة، وإشكالية اللغة في الكتاب حسب رأيي نابعة من أن معظم الأحداث والحوارات دارت باللغة الولفية مما يجعل الباب مواربًا أمام وجود صيغة قد تكون أنسب وأليق وأضبط، وهذه الترجمة – والترجمة خيانة للمعنى – أرى أنها أربك اللغة وجعلها – في بعض الأحيان – دون المستوى الأدبي للكاتب، ويضعنا في فلك ما يطلق عليه الأسلوبيون بالاستبدال والاختيار، وجعلها أشبه بالشارح إلا في صدد الحديث عن التحول المنهجي فإن نسق اللغة في تلك الصفحات ارتفع وغدا بشكلٍ أكثر حماسية وسرعة في حركة إيقاع البنية التحتية للكلمات، بشكلٍ يلائم ذلك القلق النفسي المصاحب لتلك اللحظات الحرجة…، لكن كل ذلك توضع في كفة ويوضع الجانب الوصفي الأخاذ في كفة أخرى، حيث إن الوصف وجودته عالية بشكل لايتصور في الكتاب، حتى نبدو أحيانا كأمام لوحة فنية يفصل لنا تعابيرها ولا نراها

٣- غائية الكتاب أو الغاية الوظيفية :
بالاستناد على التقاسيم المعروفة للسير الذاتية فإننا أمام سيرة ذاتية وظيفية تهدف إلى إبراز شخصية الدكتور العلمية أكثر من بقية جوانبه الأخرى ، وفضلًا عن أن الحاكي هو الشخصية الرئيسية – ككل السير الذاتية – فإن كل الأحداث المساقة من ماقبل ولادة الكاتب وأصول أسرته وصولًا إلى تخرجه لأحداث تدور كلها في فلك واحد وهو التكوين العلمي الذي تلقاه الكاتب، مما قد يجعل القارئ يتساءل عن أحداث كان سيحضر في الكتاب خاصة فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية أو طوبى وعيد التعظيم وتطوره، أو غير ذلك من أشياء أخرى …، وفضلًا عن أن السير الذاتية انتقائية إلى حد بعيد، يختار فيها الكاتب مايشاء وفق الغاية الكبرى التي ينشدها، فإن توطئة الكتاب وعنوانه دليل على ما ذكرت، والعناوين هي العتبات الرئيسية للنصوص فمحطات عنوان ذو طبيعة اختيارية، يلمح منذ الوهلة الأولى أنه عتبات ليست بالضرورة أن تكون متتابعة، ولعل ذلك قد يعفي الكاتب من تبعة القفز على بعض المحطات وإيثارها على غيرها ” ولعل هذه الوظيفية هي التي حالت دون أن يكون الحس الفكاهي حاضرا في الكتاب ” كغالب السير الذاتية، وهذه الوظيفية أيضا تتجلى خاصة في المحطات التي دارت أحداثها في المدينة المنورة حيث لاذِكر تقريبًا لما يدور خارج المنظومة التعليمية خاصة في بيته المعمور والذي لاشك أن ثمت أحداثًا مضحكة وجدية ذات مغزى احتوت عليها، لكن يبدو أن تلك الغاية التي أراها بادية في كل شيء حرمتنا من جوانب يتوفر عليها شخصية الدكتور الواسعة الجوانب والتجارب، ولا أدل على تلك الغائية من خواتم المحطات التي غالبا ماتكون عبارة عن أهداف مستنتجة في شكل أقرب إلى الوعظية، على غير المعهود لدى كتاب السير الذاتية، ولعل الجزء الثاني من الكتاب والذي نأمل أن يصدر قريبا ستكشف لنا اللثام عن تلك الجوانب التي لم يبرز بشكل جلي في شخصية الدكتور ، والتي بلا شك كانت ستضيف إثارة وأهمية الكتاب، فالكاتب رجل خبر الحياة وخبرته، وتجارب السابقين خير مايهتدي به
اللاحقون!.

✍️:الحاج مصطفى امباكي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.