من وحي الثورة!!
عبد القادر عبد الرزاق انجاي
الجمعة 12 مارس 2021
من هنا كانت البداية: دعوى اغتصاب بطلتها السيدة “أجي صار” واحدة من ملايين الضحايا السنغاليين لحكم ماكي صال المشؤوم الذي ازدادت في ظله معدلات الفقر والبطالة والعيش التعيس نتيجة الفساد والفشل في إدارة شؤون الدولة؛ فدفعها الفقر إلى التآمر مع نظام ماكي صال. نعم، التآمر مع نظام ماكي صال وإن كان في البداية مبادرة من شخصيات معينة بدأت أسماءهم تتسرب في وسائل الإعلام لكن نظام ماكي صال رأى في القضية فرصة ذهبية لا تتكرر للتخلص من معارضه الأكثر راديكالية؛ فتبناه وسخر إعلامه الفاسد وبرلمانه الهابط وقضاءه المنبطح لإنهاء المهمة والهدف هو: تصفية الزعيم عثمان سونكو وتلطيخ صورته أمام الرأي العام السنغالي باتهامه بالاغتصاب المتكرر والتهديد بالقتل.
اتهامات سرعان ما تتبدد وتنهار يوما بعد يوم؛ فالشهود جميعا ينفون التهمة، ومحاضر التحقيق تكشف التناقضات والأكاذيب في ادعاءات “أجي صار”، والشهادة الطبية تنفي أي علاقة جنسية لصاحبة الدعوى خلال المدة التي ادعت أنها اغتصبت فيها. أدلة كافية لكي يحكم كل سنغالي على القضية في محكمة العقل والضمير: محكمة الشعب التي برأت الزعيم عثمان سونكو ورأت في هذه القضية تآمرا هابطا وسخيفا يستهدف الزعيم عثمان سونكو وما يحمله من مشروع لغد مشرق للشعب السنغالي فكانت الثورة: ثورة عارمة هزت أركان نظام المستبد ماكي صال وكان وقودها الشباب الذين أراد ماكي صال حرمانهم من كل شيء حتى الأمل الذي يعلقونه على الزعيم عثمان سونكو وهو أمل عزيز دونه النفوس النضرات. فقاوم الشباب نظام ماكي صال واضطرته للتراجع عن اعتقال الزعيم عثمان سونكو. ومن وحي هذه الثورة المباركة دروس وعبر منها:
العناية الإلهية:
إن الله عز وجل هو صاحب الكون الخالق المدبر الحي القيوم فلا يحدث فيه شيء إلا بإرادته ومشيئته، وليس هناك من يستطيع أن يضاد مشيئة الله عز وجل مهما أوتي من السلطة والمال. وهذا ما حدث جليا في هذه القضية؛ فلقد نصبوا الكمين وحركوا جهاز الدولة بكامله من مخابرات وشرطة وجيش وبرلمان وقضاء لتنفيذ خطتهم الخبيثة، لكن الله عز وجل قلب كل شيء فاختلطت الأوراق عليهم بل صاروا هم المتآمرون ضحايا الكمين الذي نصبوه بأيديهم، فبإرادة الله الحي القيوم وقدرته وفضله وستره يجمع الشهود جميعا على نفي التهمة على الرغم من الترغيب بالمال والتهديد بالإيذاء، وينفي الطبيب الشرعي أي علاقة جنسية لصاحبة الدعوى في المدة التي ادعت أنها اغتصبت فيها، وتنتشر محاضر التحقيق وتصل إلى كل سنغالي لترفع كل شك في براءة الزعيم عثمان سونكو من التهم الموجهة إليه، ويخرج معارف صاحبة الدعوى ومن آوتها في بيتها بتصريحات تفضح المؤامرة وترفع النقاب عن الخلفية المظلمة لبطلة المسرحية سيئة الصيت، ويتخلص قاضي التحقيق من الملف لكونه فارغا من أي مضمون، ثم يأتي دور الكابتن “طوري” الموكل بالتحقيق في القضية في قسم المباحث الذي قرر الاستقالة تنديدا بالتجاوزات في القضية مطالبا باستقالة المدعي العام ووزير العدل ووزير الداخلية. فليست كل هذه الأمور محض صدفة عمياء بل إرادة رب حكيم قدير أبطل عمل المفسدين وكيد الخائنين، والحمد لله رب العالمين.
السيادة والسلطة للشعب:
فلقد وضع الشعب السنغالي حدا لغطرسة ماكي صال الذي سرعان ما نسي أن الشعب صاحب السيادة والسلطة انتخبه كخادم لكي يسهر على خدمته والدفاع عن مصالحه وصار يعتبر نفسه ملكا مُتَوَّجا لا يُسأل عما يفعل والشعب عبيدا منبوذين أشقياء؛ يتنعم هو و أسرته بثروات الدولة وهم يموتون في أعماق المحيطات بحثا عن لقمة العيش، ويسلط سوط القضاء وأدواته القمعية على الشعب فيسجن المناضلين الأحرار الشرفاء بدون ذنب أو جريرة. لقد ثار الشعب ضد نظام ماكي صال ليعيد إليه رشده ويذكره بأنه مجرد خادم للشعب لا أكثر وأن الشعب هو صاحب السيادة والسلطة.
المصداقية ركن القيادة:
القيادة هي القدرة على تحريك الناس نحو الهدف وأهم ركيزة لها هي المصداقية، وهي صفة تحلى بها الزعيم عثمان سونكو فنجح في تحريك السنغاليين للمقاومة ليس لشخصيته المجردة وإنما لما يمثله من مشروع التحرر والاستقلال والنهضة المهدد بالتصفية؛ فلبوا نداء المقاومة وضحوا بالنفس والنفيس من أجل الحفاظ على الديمقراطية السنغالية والمشروع الوطني الذي يبشر به؛ لأنه كسب ثقتهم وأقنعهم بمسيرته المهنية الصافية الخالية من كل ما يشين الشرف قبل خطابه القوي البليغ وأدائه السياسي الصارم الفريد.
قوة الشخصيات المستقلة:
لقد ساهم في إشعال الثورة الحضور القوي لشخصيات مستقلة صحفيين وناشطين ونقابيين وفنانين ورجال دين من أمثال السادة: باب علي انيانغ، مصطفى جوب، باب جبريل فال، أحمد حيدرة، بابكر طوري، دام امبوج، عبد الكريم غي، غوي مريس سانيا، كلدور سين، حسن جوف، مور تال غي، شيخ عمر جانج، الإمام علي اندو…للدفاع عن الزعيم عثمان سونكو لما يملكه هؤلاء من صوت مسموع خصوصا في أوساط الشباب وما يتمتعون به من المصداقية بحكم كونهم خارج دائرة المنافسة السياسية فلا يتهمون بالتطلع إلى مناصب أو مزايا سياسية، بل هم أصحاب أصوات حرة و مواقف متجردة لا تنحاز إلا إلى الشعب. وهذا ما جعل موقفهم الداعم لمشروع المقاومة ضد استبداد ماكي صال حاسما في إشعال الثورة.
رجال الدين دعائم للاستقرار:
لقد كان دور رجال الدين على المستوى المطلوب فتحملوا مسئوليتهم في حفظ السلام والاستقرار لوطننا وتحركوا من أجل تهدئة الوضع؛ فطلبوا من الزعيم عثمان سونكو المثول أمام القضاء فلبى نداءهم احتراما لهم وحرصا على استقرار وطننا، كما طلبوا من ماكي صال تهدئة الوضع لكنه لم يستمع إليهم بل رفض وعاند ولم يتراجع إلا عندما اشتد عليه الضغط الشعبي.
إن عقولنا جميعا تتجه إلى رجال الدين حين تشتد الأزمات أملا في انفراجها بصفتهم مصلحين اجتماعيين يتصفون بالتجرد والحياد ويحتضنون الجميع سلطة ومعارضة ولهم كلمة مسموعة وتأثير كبير في الشعب السنغالي. فهم دعائم للاستقرار يحتاج المجتمع إليهم سواء في أوقات السلم أو الأزمة.
النضال هو سبيل الحرية:
وحده النضال هو سبيل الحرية، والحقوق تنتزع ولا توهب. فمن المؤكد أن ماكي صال لم يكن ليتراجع عن سعيه لاعتقال الزعيم عثمان سونكو وتعبيد الطريق أمامه إلى تتويج نفسه ملكا على السنغاليين مدى الحياة لولا المقاومة الشعبية التي عرقلت مساعيه وحطمت آماله، فلو استسلم الشعب لكان الزعيم عثمان سونكو في هذا الوقت خلف القضبان وصارت الديمقراطية السنغالية طي الرمال يعلوه النسيان. إنه لا سبيل إلى الحرية إلا النضال والمقاومة.
هل نجحت الثورة ؟
نعم، نجحت الثورة لأنها حققت هدفا مرحليا وأنجزت نصرا جزئيا لكنه رمزي بإخلاء سبيل الزعيم عثمان سونكو وإجبار ماكي صال المعروف بعناده وتكبره وغطرسته على التراجع رغم أنفه، إلا أن الثورة لم تنته بعد بل هي في بدايتها؛ فهناك مطالب أساسية لم تتحقق بعد ومنها: تحقيق العدالة في الشهداء ومحاكمة المجرمين من القوى الأمنية والبلاطجة الذين تورطوا في قتلهم، وحسم جدل الولاية الثالثة، واحترام مواعيد الانتخابات، وإصلاح النظام الانتخابي…وغيرها من المطالب التي لم تتحقق بعد، ولذلك فالثورة مستمرة والمقاومة مستمرة..
رسالة الثورة:
إن الشعب السنغالي الحر الأبي قال كلمته التي يجب أن تسمعها السلطة والمعارضة والعالم أجمع، وأرسل رسالة يجب أن يصغى إليها الجميع مفادها: أن العهد الذي يستبد فيه الحاكم في السنغال ويدوس على الحقوق والحريات قد ولى بدون رجعة، وأن كل من ينتهج الديكتاتورية سبيلا في حكم البلاد حتى ولو كان الزعيم عثمان سونكو الذي يناصره اليوم سيقف الشعب في وجهه ويعيده إلى رشده. وأن عهد الاستعمار والامبريالية قد ولى بدون رجعة؛ فالعهود والمواثيق والعلاقات الاقتصادية وغيرها يجب أن تقوم على أساس احترام سيادة الشعب والربح العادل للطرفين، وأن كل تعامل من شأنه انتهاك سيادة الشعب والإضرار بمصالحه سيقف الشعب في وجهه ويعيد الأمور إلى نصابها.
فهذه هي الثورة، وهذه رسالتها، عاشت الثورة ! و عاشت السنغال !