الثقافة، الهوية والسرد: قراءة في رواية “رسالة طويلة جدا” للسنغالية مريم با

بقلم الباحث: باي مود بجان
معهد الدوحة للدراسات العليا
05/09/2019

يتبوأ الإبداع الأدبي مكانته في إثبات الذات وتمثيل الهوية لدى السنغالي، ولم يكن الإبداع يلعب دور التسلية والإمتاع إبان الفترة التي تلت استقلال السنغال من الاستعمار الفرنسي وما يترتب عليه من محاولة طمس الثقافة ومحو الهوية. وكانت الرواية ـ ولا تزال ـ  تجسد جانبا من الأعراف والعادات والتقاليد. ويتجلى ذلك ـ على سبيل مثال ـ في روايات “عثمان سيمبن” و”مريم باه”، حيث تناولت هذه الأخيرة في روايتها “رسالة طويلة جدا” قضية المرأة السنغالية ومعاناتها من سطوة الرجل، ولكن الرواية تبرز في ثناياها الثقافة والهوية السنغالية مما جعلت هذه الدراسة تركز على هذا الجانب محاولة معالجة تجليات الثقافة والهوية في الرواية “رسالة طويلة جدا”، ومحاولة إجابة أسئلة منها:

كيف تشكلت الثقافة والهوية في رواية مريم با  “رسالة طويلة جدا” ؟

وما هي مظاهرهما وتجلياتهما في الرواية من خلال عناصرها ومكوناتها الأساسية؟ إلى أي مدى تدل تلك الرواية على دور السرد في إثبات الذات والهوية؟

وسنحاول مقاربة هذا الموضوع من الزاوية الوصفية التحليلية في المحاور الآتية:

1ـ الإطار النظري، وفيه تعريف صاحبة الرواية و ضبط المصطلحات الأساسية.

2ـ الجانب التحليلي ويتضمن الآتي:

ـ “رواية طويلة جدا والدفاع عن الهوية الوطنية.

ـ الشخصية الروائية وملامح الهوية السنغالية.

ـ الفضاء المكاني للرواية والهوية المحلية.

وحري بنا أن نعرف رواية “رسالة طويلة جدا” ونحدد المصطلحات الأساسية قبل الشروع في هذه الدراسة.

أولا – الإطار النظري

 1- نبذة قصيرة عن الرواية وصاحبتها     

صاحبة رواية “رسالة طويلة جدا هي الكاتبة مريم باه، أديبة سنغالية مبدعة  توفي 17 أوت  1981 في داكار العاصمة. وعرفت بدفاعها عن قضايا المرأة الإفريقية .

كتبت روايتها باللغة الفرنسية تحت عنوان: “Une si longue lettre ” صدرت سنة 1979 ضمن سلسلة “حوار الثقافات” لتكون رواية تعبر بكل صدق معانات المرأة السنغالية في مواجهة التخلف والرجعية الاجتماعية.وترجمها إلى العربية المغربية فاطمة الجامعي الحبابي.

2- ضبط المصطلحات الأساسية                                                                

ـ السرد                                                                                                                     

    إنه يمكن تعريف السرد في هذا السياق بأنه خطاب يقدم حدثا أو أكثر، إنه لا يكتفي بأن يعكس ما يحدث وإنما يكتشف ويقترح ما يمكن أن يحدث، ولا يقتصر على سرد تبدلات الحالة وإنما يشكلها ويؤولها بوصفها أجزاء دالة لكل دال، ويمكن للسرد أن يلقي الضوء على المصير الفردي، أو مجموعة من المصائر وعلى وحدة الذات أو طبيعة الجماعة. والسرد إجمالا يلقي الضوء على الزمن  والبشر كمخلوقات زمنية[1].                              

إن السرد هو “الطريقة التي يصف أو يصور بها الكاتب جزءا من الحديث، أو جانبا من جوانب الزمان أو المكان الذي يدور فيهما أو ملحما من الملامح الخارجية للشخصيات، أو قد يتوغل في الأعماق، فيصف عالمها الداخلي وما يدور فيه من خواطر نفسية، أو حديث خاص بالذات[2].                                                                                                       

بناء على ما سبق يمكن القول بأن السرد يمثل ركنا أساسيا للرواية بما فيها من حوار ووصف “يقابل الحكي، ويشكل معه حلقة تستوعب النص كله”[3]. فالأمم لن تزال بحاجة إلى السرد لإثبات ذاتها ووجودها وترسيخ جذور هويتها وثقافتها في ظل تجاذب الثقافات وصراع الحضارات.

ـ الهوية:

    توزع مصطلح الهوية على حقول معرفية متنوعة كعلم النفس والسياسة والاجتماع والأنثربولوجيا، وهذا التجاذب المفهومية الدلالية المتنوعة تكسب المصطلح دلالات متعددة وتصورات مختلفة.

 ويرى المفكر محمد عمارة الهوية أن “هوية الإنسان أو الثقافة أو الحضارة هي جوهرها وحقيقتها… هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد  ولا تتغير…كالبصمة بالنسبة للإنسان، تتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الغبار وعوامل الطمس والحجب، دون أن تخلي مكانها ومكانتها لغيرها من البصمات[4].                                                           

   إن هذا التصور للهوية يعطيها طابع الثبوت والاستمرارية، بخلاف تصور آخر يرى أن الهوية “كيان يصير، يتطور، وليست معطى جاهزا ونهائيا، هي تصير وتتطور، إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تتغني بتجارب أهلها ومعاناتهم، انتصاراتهم وتطلعاتهم، وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوع ما”[5].

ثانيا- الجانب التحليلي

1- رواية “رسالة طويلة جدا” والدفاع عن الهوية الوطنية:

   تعكس رواية “رسالة طويلة جدا” صورة حية للمجتمع السنغالي، تمثل الواقع وتعطي نموذجا للعادات والتقاليد امتدت جذورها في أعماق تاريخ السنغال، من خلال رسالة بعثتها “رحمة الله” إلى صديقتها “أيستو”. فحرصت الرواية على سرد قضايا مجتمعية عاشتها المرأة السنغالية.

  وتفضح الرواية التأثر السلبي من سلوك المستعمر المختلف عنا ثقافة وهوية فتنطلق في نقد ذاتي وتكشف اللثام عن مشروع “الآخر” المستعمر الذي يعترض تشكل الهوية السنغالية، ونقرأ في الرواية على لسان “رحمة الله: “كان حلم المستعمر هو أن يذيب فكرنا ونمط حياتنا في بوتقته هو… أخذنا نرتدي سراويل تعلوا الساقين وفساتين قصيرة تكشف عن الركبتين فجأة “[6]                                                                                                                 

وأمام الاحتكاك الحضاري وتثاقف الثقافات ” يتجاذب مجتمعنا اليوم [كما تقول بطلة الرواية] إغراءات سلبيات الحضارة المستوردة والمقاومة الشديدة للحفاظ على مكتسباته ومزاياه القديمة”[7].                                                                                       

 وترفع الراوية صوتها لتوجه نقدها إلى الآباء الذين ينظرون إلى الرقي المجتمعي في زاوية ضيقة فهم “يحفزون أبناءهم على المزيد من الحصول على الدبلومات المتعددة أكثر مما يعملون على توجيه سلوكهم وتربيتهم تربية حسنة”[8] التي تصمد بها الهوية السنغالية التي تتطلب ـ لكي تتشكل وتتجسد ـ غرسها وتقويتها في الناشئين من الشباب فلا يكونون نُسخا من “الغير”. إن عدم قيام الآباء بدورهم في التربية وكرس القيم النبيلة في نفوس أبناءهم جعل الراوية تنظر إلى الشباب فلا ترى فيهم “الأنفة وعلو الهمة اللتين كانتا تقود الضمير نحو الهمة”9.

 إلا أن الهوية السنغالية ـ كما يراها الراوية ـ تزلزلت جذورها عن مكانها لكن سرعان ما عادت الجذور واستقرت في مكانها, تقول الرواية: “وعي جيلنا بكامله المهزلة التي أراد المستعمر أن يجعلنا أبطالها والمكيدة التي كان يضمرها”[9].                                                          

2ـ الشخصية الروائية وملامح الهوية السنغالية

   لا يخفي على الراوية دور الشخصية في كشف الهوية، وكذلك “دور المكان في تكوين حاضنة تنمو عبرها الشخصية، فكأنما المكان هنا يلد النموذج ويرعاه دون فصل بينهما[10]

وأثر البيئة في بناء الشخصية يتجلى في الرواية من خلال استخدام الروائية أسماء محلية نورد بعضا منها: أيستو، مود فال، ماود به، تمسير، بنتو، فاربا ضيوف … ولم ترد هذه الأسماء في الرواية عشوائيا وعفويا، بل جاءت عن قصد لتدل على علاقة الرواية ببيئتها، فالاسم أو المدلول اللفظي الدال على الشخص يعد من أهم الوسائل التي يتوسل بها الكاتب إلى القارئ لإيهامه بمدى مطابقة النموذج الشخصي في الرواية للواقع[11]، وإذ يذكر قارئ الرواية الأسماء فلا يستحضر شخصيات الرواية فحسب، وإنما يستحضر أيضا عن الذات الثقافية السنغالية بما فيها اللهجات المحلية التي صاغت هذه الأسماء.

أما الأزياء وأنواع الأطعمة وأدواتها التي ذكرت خلال عرض الشخصيات فإنها تظهر ملامح الشخصية السنغالية وتفسر جانبا من ازدواج المجتمع السنغالي في ذلك. إنه وعلى الرغم من الانفتاح والمرونة والتأثر من الثقافة الأوربية في طريقة اللباس واستعمال الأدوات  فمازال هناك من يرتبط ببيئته المحلية يستمسك باللباس والأطعمة والأشياء المحلية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ويمكن أن نقف في الرواية على الأمثلة الآتية:

تقول “رحمة الله” لصديقتها “أيستو” “سأراك غدا، ولست أدري؟ هل سترتدين بذلة أوروبية أم لباسا تقليديا؟ … سترغبين في استعمال الطاولة والصحن والكرسي والشوكة، ستتعين أنها أنسب. لكن لن أفعل مثلك، سأفرش لك حصيرة وأقدم لك فوقها قِدرا ساخنا يتصاعد منه البخار، وستتحملين الأكل منه مباشرة مع أياد أخرى تغمس فيه”[12].

الفضاء المكاني للرواية والهوية المحلية

   تتحدد قيمة الفضاء في السردية الروائية من حيث هو معطى جغرافي طوبوغرافي، ومن حيث هو معطى إنساني، وذلك في علاقته بالإنسان المتفاعل معه ومع أشيائه ثانيا[13].

وتمثل الرواية أماكن معروفة ومألوفة في السنغال، لها حضورها الفعلي في ذاكرة ووجدان كل سنغالي يعتزّ بالانتماء إلى وطنه.                                                            

 ويأتي في الرواية وصف أماكن ممتزجا بالسرد مما يضفي عليها حركة وديناميكية، ومن الصور المكانية التي تحمل أسماء مدن وقرى في السنغال ” أذكر ذلك القطار الذي أقلنا أول مرة صبيحة يوم باكر إلى “بونتي فيل” مدينة طلاب المعلمين في “سيبيكوتان “. “بونتي فيل” تلك القرية التي كانت تشع خضرة من تهاطل الأمطار”[14]

    ويتجلى أثر البيئة في الرواية ليمتد إلى أعماق وجدان السنغالي كلما كانت أسماء الأماكن أكثر شهرة وأعمق تاريخا فيبدو أثرها أكثر فعالا في نفسيته “تتفرع طريق روفيسك عند ملتقى ديمنيادو إلى اتجاهين: تؤدي الطريق الرسمية رقم1 الواقعة يمينا إلى “سين سالم” بعد “امبور” بينما تقع الطريق الرسمية رقم 2 “تيس” و “تيواوون” وتمتد إلى “سان لوي”[15]    وهكذا، تميزت “الفضاءات بأبعاد جعلت لكثير من مظاهر المعمار دلالات بسيكولوجية واجتماعية وأبعادا تاريخية، وهو الدليل على أن الفضاء يحضر في الروايات خليطا من الخصوصيات الهندسية والجغرافية والحضارية “[16]       

خاتمة

  لا يخفى أن السردية/ الرواية تعد من أقدر الفنون على كشف الهوية والثقافة وتجسيدها، وهذا ما دفعنا إلى البحث عن إشكالية الثقافة والهوية السنغالية في رواية “رسالة طويلة جدا” للكاتبة مريم با. وبعد دراسة الرواية دراسة وصفية تحليلية تضمنت شقي نظري وتطبيقي توصلت إلى النتائج الآتية:

ـ تتعدد أبعاد خطاب الهوية في “رواية رسالة طويلة جدا” إلى البعد الاجتماعي والثقافي.

ـ تكشف الرواية جانبا في نقد الذات والدفاع عن الهوية السنغالية حفاظا على استمراريتها وترسخها في الأجيال المتعاقبة .

ـ تتجلى مظاهر الهوية في جميع خصائص الرواية ومكوناتها الأساسية، سواء على مستوى شخصياتها أو فضاءاتها المكانية .

قائمة المصادر والمراجع

  • الكردي عبد الكريم، السرد في الرواية المعاصرة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2006.   
  • الجابري محمد عابد ، العرب والعولمة، بيروت، مركز الدراسات الوحدة العربية، 1998، الطبعة الثانية.
  • با مريم ، رسالة طويلة جدا، ترجمة فاطمة الجامعي الحبابي،الدار البيضاء، دار الفنك للنشر،2002 .
  • برنس جيرالد، قاموس السرديات، ترجمة سيد إمام، القاهرة، ميريت للنشر والمعلومات ، 2003.
  • جوادي هنية، السرد وتشكل الهوية:قراءة في رواية “البحث عن العظام“، مجلة المخبر، العدد 13،2017.
  • عبد السلام فاتح، تزييف السرد(خطاب الشخصية الريفية في الآداب)، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر2007.
  • عمارة محمد ، أزمة الفكر الإسلامي، القاهرة، دار الشرق الأوسط للنشر، 1990.
  • نجوى الرياحي القسنطيني، الوصف في الرواية العربية الحديثة،تونس، كلية العلوم الإنسانية، 2007، الطبعة الثانية.
  • وادي طه، دراسات في نقد الرواية، القاهرة، دار المعارف، 1994، الطبعة الثالثة.

[1] ـ جيرالد برنس، قاموس السرديات، ترجمة سيد إمام، القاهرة، ميريت للنشر والمعلومات ، 2003، ص122 ـ ص 126.

[2] ـ طه وادي، دراساتفي نقد الرواية، القاهرة، دار المعارف، 1994، الطبعة الثالثة، ص 40.

[3] ـ عبد الكريم الكردي، السرد في الرواية المعاصرة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2006، ص 103.

[4] ـ محمد عمارة، أزمة الفكر الإسلامي، القاهرة، دار الشرق الأوسط للنشر، 1990، ص24

[5] ـ محمد عابد الجابري، العرب والعولمة، بيروت، مركز الدراسات الوحدة العربية، 1998، الطبعة الثانية، ص 298.

[6] الجامعي الحبابي،الدار البيضاء، دار الفنك للنشر،2002، ص 62.ـ مريم با، رسالة طويلة جدا، ترجمة فاطمة

[7] ـ  نفسه، ص 144

[8] ـ نفسه، ص 144

[9] ـ  ـ مريم با، رسالة طويلة جدا، ترجمة فاطمة الجامعي الحبابي،الدار البيضاء، دار الفنك للنشر،2002  ، ص62

[10] ـ فاتح عبد السلام، تزييف السرد(خطاب الشخصية الريفية في الآداب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر2007، ص156.

[11] ـ هنية جوادي، السرد وتشكل الهوية:قراءة في رواية “البحث عن العظام”، مجلة المخبر، العدد 13،2017، ص 95.

[12] ـ مريم با مذكور، ص175.

[13] ـ نجوى الرياحي القسنطيني، الوصف في الرواية العربية الحديثة،تونس، كلية العلوم الإنسانية، 2007، ط2، ص 437.

[14] ـ مريم با، رسالة طويلة جدا، ترجمة فاطمة الجامعي الحبابي،الدار البيضاء، دار الفنك للنشر،2002  ص 43.

[15] ـ نفسه، ص 66.

[16] ـ نجوى الرياحي القسنطيني، الوصف في الرواية العربية الحديثة، مذكور، ص 458.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.