هو طالب علم

محمد مصطفى جالو

خرج الطالب كعادته في الصباح الباكر، وركب سيارته قاصدا الجامعة التي يدرس فيها، وينهل من معين أساتذتها الصافي، كان من عادة الطالب احترام قوانين السير، وعدم مجاوزة السرعة المسموحة في قانون القيادة، بل كان يعتبر اختراق ذلك القانون نوعا من الجنون الذي لا يقبله العقل السليم ولا الشرع القويم.

انطلق الطالب بسيارته جامعا بين مراعاة قوانين السياقة المرسومة، وبين الإيمان بأن الحذر لا ينجي من القدَر، وموقنا بأن أخذ أسباب النجاة مع الإيمان الجازم بأن المقدر لا محالة واقع حصن حصين يحول دونه الجزع، ويبعث في نفس المؤمن الأمل، ويخفف عليه الآلام التي تصيبه في هذه الدنيا.

وفي طريقه إلى الجامعة حدث ما لم يكن في الحسبان، وما لم يخططه في برنامجه اليومي، حدث أن ضربت سيارته فجأة مركبة كانت أمامه، تعجب الطالب كيف وقعت الحادثة وكيف كانت في سرعة لم يستطع أثناءها التحكم على سيارته للحيلولة دون وقوع الحادثة، لكن سرعان ما تذكر أن القدر إذا جاء حال دونه البصر.

نزل الطالب ليرى حجم الضرر الذي ألحقته سيارته على المركبة التي كانت أمامه، أما سيارته فلم يكن مهتما بتأثرها؛ لأنها ملكه، فإذا لم يجد مالا يصلحها به، فسيعرضها للبيع بثمن بخس دراهم معدودة وينتهي الأمر.

أكثر الطالب من التفكر في السيارة التي ضربها، لأنه رآها جديدة نوعا ما، ولأنه كان يسمع أن الخبراء في تقدير أرش حوادث السير لا يفرقون بين الغني والفقير، ولا بين ميسور الحال ومعسورها، فإنهم يقدرون التعويضات دون اعتبار أحوال الناس.

كل ما سبق ذكره أخذ مساحة كبيرة في ذهن الطالب، وبينا هو كذلك إذ جاءه الرجل صاحب السيارة التي ضربها، فألقى عليه بتأن وهدوء تحية الإسلام، فسأله أ أنت من طلاب الجامعة؟.

أجاب الطالب: نعم أنا من طلاب الجامعة.

صاحب السيارة: مرحبا بك يا من ترك الأوطان والخلان لطلب العلم الشرعي في مدينة المصطفى مأرز الإيمان، أنا كذلك طالب في الجامعة في السنة الثانية في كلية الشريعة.

الطالب: ما شاء الله!!! وفقنا الله لما يحبه ويرضاه.

صاحب السيارة: أخي الكريم، هذه الحادثة التي وقعت لا نملك جميعا دفعها، وأنى لنا ذلك وقد كتب علينا قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

كان الشارع مزدحما بالسيارات، وقد زادته الحادثة ازدحاما، ما جعل العسكري الذي كان يرتب سير السيارات يتجه إلى الطالب وصاحبه مباشرة، فأمرهما بتحريك السيارتين وإيقافهما جنبا علَّ ذلك يخفف الزحام الشديد.

طلب العسكري من الطالب وصاحبه أن يخرجا الأوراق اللازمة، حتى يسجل مكان وقوع الحادثة ووقته، ويتمكن من إحالتهما إلى أقرب مركز الشرطة ليتابعا قضيتهما هنالك.

تضررت سيارة الطالب ضررا بالغا، حيث أصبح لا يستطيع قيادتها في هذه الحالة التي هي عليها، أما سيارة الرجل فقد تأثرت أيضا إلا أنه لما كانت الضربة من خلفها، فإن ذلك لم يؤثر في المكينة، ولا في صلاحيتها للقيادة، ولما كان الطالب والرجل كلاهما ابنا الجامعة رافقا في سيارة الأخير إلى الجامعة، وقبل أن يفترقا ضربا موعدا يلتقيان فيه ويذهبان معا إلى مركز الشرطة.

حان الموعد المضروب وجاء وقت الذهاب إلى المركز المهيب فاتصل الرجل بالطالب سائلا له: أين أنت الآن حتى آتيك لنمشي إلى مركز الشرطة.

أجاب الطالب: أنا في المكان الفلاني داخل الجامعة وفي انتظارك حتى ننطلق.

وصل الرجل صاحب السيارة، فركب الطالب معه ويمما إلى المركز.

وفور وصولهما إلى المركز أعطيا الشرطي المحقق رقم ملف الحادثة، وبعد النظر فيها طلعت النتيجة التي لم تكن مفاجئة، وأسفرت عن أن الطالب هو المتسبب في الحادثة بنسبة مائة في المائة، هكذا قال  لهما الشرطي.

الشرطي: هذا الذي أظهرته التحقيقات، وقد عرفتما الآن الظالم والمظلوم، وليس أمامكما إلا صلح والصلح خير، أو تعويض الملظوم، وقد اتفق العقل والشرع على أن ذلك من الأخلاق الفاضلة.

هنا تمنى الطالب أن لو اختار الرجل صاحب السيارة الصلح، فإنه أفضل من الأرش، وأسرع في طي صفحة القضية؛ إلا أنه آثر أن يترك الخيرة لهذا الرجل الطيب الذي كان يعامله بالحسنى منذ وقوع الحادثة حتى الآن.

وكان الطالب يتوقع أن يختار الرجل صاحب السيارة الصلح، خصوصا أن الرجل كريم وطيب؛ لكن كانت المفاجأة أن اختار تقدير الأرش على الصلح.

تفاجأ الطالب بهذا الاختيار، وبدأ يتفكر في كم سيكون التقدير، وخاف أن لا يكون كبيرا؛ فإنه طالب علم، وليس موظفا حتى يتمكن من دفع المبلغ، لو ظهر كبيرا.

وكان مما ضاعف خوف الطالب أن الشرطي قال له:

 يا فلان، ليكن في بالك أن عليك دفع المبلغ الذي يقدره الخبراء في المجال قل ذلك أو كثر إلا أن يتنازل صاحب الحق عن حقه.

سلَّم الشرطي إلى صاحب السيارة الورقة التي يُكتب فيها المبلغ المقدر، على أن يأتي بها في اليوم الثاني صباحا.

الشرطي: ماذا نفعل بالطالب هل نوقفه لحين معرفة المبلغ المقدر في الأرش، ثم إذا دفعه نطلق سراحه، أو نكتفي بتسجيل معلوماته فقط، فالأمر إليك فانظر ماذا ترى؟.

الرجل: خلوه يمضي في سبيله؛ فهو طالب علم أخذ حظا وافرا من ميراث النبوة، يكفي لأن أثق فيه أنه منتسب إلى العلم وطلابه.

عاد الطالب إلى بيته مهموما؛ إذ لا يعرف كم سيكون مقدار الأرش، ثم أين يجد المبلغ المقدر إن كان كبيرا…

لما وصل إلى المنزل عرض على زوجه تفاصيل ما جرى من وقت الحادثة إلى حين التفرق بينه وبين صاحب السيارة.

قالت الزوج: احمد الله أنك بخير وعافية وسلام، احمد الله على أنك لم تصب في الحادثة نفسا، احمد ربك على أنك لم تصب فيها، أما مبلغ الأرش الذي تجهل مقداره حاليا، فاطمئن ولا تعط ذلك هما، فاتق الله فإنه يرزقك من حيث لا تحتسب.

كان لهذه الكلمات الإيمانية الصادقة أثر كبير في نفس الطالب، أذهبت همومه وغمومه، وقوت إيمانه وجددت توكله على ربه الكريم.

كان صاحب السيارة وعد الرجل أنه سيتصل به بعيد المغرب ليخبره مقدار المبلغ الذي تم تقديره من قبل الخبراء في المجال.

حان صلاة المغرب، فرفعت الآذان في المساجد، وبعد بضع دقائق صلى الناس الفريضة، وتنفل منهم من يتنفل.

انتظر الطالب بعد ذلك خمس دقائق يقول في نفسه لعله يتصل الآن، زاد عليها خمسا أخرى لكن دون جدوى، فحدثته نفسه قائلة له:

اطمئن يا رجل، لعل صاحبك صلى في مسجد يطيل إمامه الصلاة، ورربما صادف أن قرأ إمامهم في صلاته سورة الأعراف، أو الطور، أو المرسلات؛ اقتضاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ما جعلهم يتأخرون عن الانتهاء منها.

على كل استبطأ الطالب اتصال الرجل، وفكر في المبادرة بالاتصال حتى يعرف مقدار مبلغ الأرش.

اتصل الطالب بالرجل: كيف حالك يا فلان، أنا صاحبك في الحادثة اليوم، هل ذهبت إلى الخبير الذي يقدر مبلغ التعويض؟.

الرجل: مرحبا بالأخ الفاضل، نعم ذهبت كما وعدتك وقد تم فعلا تقدير المبلغ فذكره ــ وكان مبلغا كبيرا نوعا ما على الطالب ــ.

قال الرجل: لا تقلق ولا يهمك كثيرا أمر المبلغ، وسيكون بيننا تواصل بعد العشاء.

اتصل الرجل بعد العشاء بنصف ساعة كما وعد.

الرجل: أخي الكريم، علمت أني طالب علم مثلك فلست موظفا حتى آخذ من راتبي ما أصلح به سيارتي، ومع ذلك فإن الوالدين رغباني في التنازل عن حقي لوجه الله، وأكدا لي أنهما لا يرضيان مني أن آخذ منك قرشا واحدا، خصوصا أنك طالب علم  وضيف علينا في بلدنا.

أخي طالب العلم، عفوت عنك، وتنازلت عن حقي رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى.

بيننا موعد في الساعة الحادية عشرة صباحا نمشي معا للتنازل عن حقي وإغلاق الملف.

الطالب: أخي العزيز، عظيم أخلاقك، وكريم أصلك، أسأل الله لك ولوالديك أن يعيذكم من كل سوء ومكروه، وأن يجزيكم جزاء من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا.

موعدنا في الوقت الذي حددتَه لنطوي هذه الصفحة التي أظهرت لي حسن خصالك وطيبة أصلك.

قلت: هذه القصة تبين لنا مكانة طالب علم الشريعة عند الناس، وأنه محل ثقتهم، فحاول يا طالب العلم أن تكون قدوة في أخلاقك وتصرفاتك وتعاملك مع الناس.

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.