مقاصد الشريعة بين انتظامية المؤسسين وفوضاوية المتسورين (الجزء الأول)

(*) أحمد سنب جوب

لقد تعرض الإسلام عبر تاريخه الممتدّ لأنواع من الهجمات الخارجية الشرسة، ممن يتوجسون خوفا ورهَبا من انتشاره وتمدّده، واتّخذت هذه الحروب أشكالا وصورا مختلفة، بدأوها بالمواجهة العسكرية، ولمّا لم تسعفهم هذه الوسيلة التجأوا إلى ما سماه البوطي بـ »بث الزيغ الفكري » والذي يريدون تحقيقَه بطريقة سلسة وسلمية، وكان من آثار هذه المخطّط أن برز من أكناف الإسلام ناسٌ يحاولون الانفلات من القيود الإسلامية تحت قناع خدمته وعصرنته، واختلط بذلك حابل المتمسك بحقائق الإسلام خدمة له بنابل الهادف لنسف الإسلام وإفراغه عن حقائقه بدعوى خدمته وتطويره وعصرنته.
ولعل أكثر الأبواب مرونة، وأسهل الظهور امتطاء في سبيل تحقيق هذا المخطط هو: ما يسمى بعلم مقاصد الشريعة المفترى عليه والمُساء استعماله، والذي استُغل ضد أهدافه السامية ومراميه النبيلة، فقد كان هذا العلم- عند المؤسسين- يعني مجموعة من الآليات التفسيرية والتعليلية والتوجيهية لخفايا وخبايا الأحكام الشرعية، دون اعتباره مصدرا من مصادر التشريع، فأصبح – لدى المتسورين – يعني آلية مطّاطيّة توظّف وفق مقاس رغبات وطمعات النّفْس البشري، ولخطورة هذا الأمر أردت معالجة هذه القضية، وارتأيت أن يكون العنوان على الشكل التالي:
« مقاصد الشريعة بين انتظامية المؤسسين وفوضاوية المتسورين ».
وستتم معالجة الموضوع في ثلاثة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول : تفكيك المصطلحات وضبط المفاهيم المكونة للعنوان.
المبحث الثاني: مظاهر الانتظام والانضباط لدى المؤسسين.
المبحث الثالث: مظاهر الفوضوية وعدم الانضباط لدى المتسورين.
خاتمة: بعض الخلاصات المهمة.
المبحث الأول: تفكيك المصطلحات.
أولا – مقاصد الشريعة:
بكل اختصار كما عرّفه الشيخ الطاهر بن عاشور:  » مقاصد الشريعة العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويدخل في هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها  » .
لقد اكتفيت بهذا التعريف حذرا من التطويل، علما بأن لها تعاريف كثيرة جدا، وإن اختلفت في ألفاظها، فهي متفقة في المعاني والمضامين، ولعل أثناء البحث سيزيد الأمر جلاء ووضوحا.
ثانيا- انتظامية المؤسسين.
أقصد بالانتظامية: تلك الطريقة المنتظمة والمنضبطة والمعتمدة على أسس علمية رصينة ومحكمة، وقصدي بالمؤسسين هم: رُوّاد وحاملي لواء هذا العلم بدءا من مؤسسه الفعلي، الذي سوّاه على سُوقه المعروف به الآن، والذي ارتبط اسمُه بهذا العلم ارتباطا وثيقا، ألا وهو شيخ المقاصد الإمام الشاطبي صاحب « الموافقات في أصول الشريعة » ثم الذي ساهم في اكتمال البنيان وترسيخ القواعد، الشيخ الطاهر بن عاشور صاحب كتاب « مقاصد الشريعة »، وانتهاء بحامل لواء المقاصد في هذا العصر الدكتور أحمد الريسوني.
فهؤلاء وغيرُهم ممّن تناوبت أيديهم في وضع البنات التي شُيّدت بها قلعة هذا العلم أقصد بقولي: « المؤسسين ».
ثالثا- فوضاوية المتسورين
1- الفوضوية نسبة إلى الفوضى، وهي عكس النظام والانتظام، والمقصود بها: ذلك المنهج الغير المنضبط وغير المُنْبَني على أي أسس علمية رصينة، حيث تقوم على التّشهّي والانجرار وراء إشارات الأهواء.
2- أما المتسورين جمع، مفرده التسوُّر، ومعناه: إتيان الدار عن طريق السور – أي الجدار – دون الباب، وهو كناية عن كل من يأتي الشيء دون وجهه الصحيح، وقصدي هنا: أولئك الذين يتَسَمُّون باسم « الباحثون المقاصديون » أو « المقاصديون » أو غيرها من الأسماء الفضفاضة الرّنّانة، ويحلّلون ثم يحللون، وينسخون حسب هوى لَيْلَاهم، دون الاحتكام بأبسط ضوابط هذا العلم، ولا يعرفون من الأصول والفقه غير اسميهما حيث تكُون أعمالهم كلها رجوما بالغيب وضروبا في تيه، فهؤلاء ومن ينهج منهجهم مَن أقصد بالمتسورين ».

(*)  كاتب وباحث في العلوم الشرعية بالمغرب

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.