الشيخ محمد هاشم تال الفوتي : أحد أعلام المسجد النبوي

(*)  عمر عادل التركي

هو محمد هاشم بن أحمد الفوتي المالكي المدني المشهور بألفا هاشم تال
ولد ألفا هاشم عام 1283هـ ببلدة « حلوار » شمال السنغال في احدى مناطق فلاته في الصحراء الكبرى بإفريقيا.
كان رحمه الله طويل القامة، عريض الجبهة، واسع العينين، عظيم الأنف، خفيف اللحية، يرتدي عمامة بيضاء مهندمة، وعباءة سوداء وهو زي العلماء في ذلك العصر.
عندما أردت أن أكتب عن الشيخ الفاهاشم بحثت كثيراً عن ترجمة وافية له ولكن لم أجد إلا القليل فهو عالماً بمعنى الكلمة بلغ صيته الآفاق الإسلامية فقد كان رحمه الله دمث الأخلاق، غزير العلم، واسع الإطلاع، شديد الحفظ، لا تأخذه في الحق لومة لائم، لقب بشيخ مشايخ أهل العصر.

نشأته وتعليمه:
منذ صغره كان الطفل الأديب الذي يحب مجالسة العلماء ومناقشتهم فاهتم به والده وأنشأه نشأة صالحة، فهو من بيت علم وفضل ودين وله مكانة عالية بإفريقيا، فبدأ شيخنا الفاضل ينهل من بحار العلوم العذبة على يد أعمامه وأخواله وعلماء بلاده والبلاد المجاورة وكان أبواه يساعدانه على ذلك ويمدانه بالمال ليروه عالماً.
فحفظ القرآن المجيد على رواية ورش وبلغ من العلم مبلغاً عظيماً ومكاناً كريماً وأصبح عالماً منذ صغره مرجعاً لأهله ومواطنيه في التدريس والفتوى.
فتصدر للتدريس وهو يافع السن فكان العالم الجليل الذي يعطي العلم بكل الأساليب الجميلة في بلاده وبين أقرانه.
هجرته إلى الحجاز
ولما غزا الفرنسيون بلاده سنة 1320هـ وتصدى لهم في بداية الأمر ولكنه اضطر مكرهاً لمغادرة بلاده التي نشأ وترعرع فيها وتوجه إلى الحجاز حاجاً قاصداً بيت الله الحرام وكانت الرحلات في تلك الحقبة من الزمن صعبة إما مشياً على الأقدام أو ركوباً على الدواب فوصل إلى مكة المكرمة عام 1322هـ وأدى فريضة الحج وبها تعرف على جماعة من العلماء أكرموه وأحسنوا نزله وعرفوا مكانته من العلم وقدر الله له زيارة سيد الكونين صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى مكة المكرمة وتصدر للتدريس في المسجد الحرام حتى نهاية عام 1326هـ حيث عاد الشيخ إلى المدينة وجاور بها وبدأ يعرف بين أهلها ويشتهر بين طلابها.
دروسه العلمية
لم تمضي فترة طويلة حتى أصبح الشيخ ألفا هاشم أحد علماء المسجد النبوي الشريف وعقد حلقته بجانب الشيخ إبراهيم بري والشيخ حميدة الطيب والشيخ محمد العمري والشيخ عبد الفتاح أبو خضير والشيخ محمد الطيب الأنصاري.
فتصدر التدريس عام 1325هـ وكانت حلقته تعقد بعد صلاة المغرب من كل يوم خلف المكبرية من الجهة اليسرى قرب الروضة الشريفة بجانب حلقة الشيخ محمد الطيب الأنصاري والشيخ عبد الفتاح أبو خضير وكان الشيخ الفاهاشم عالماً متضلعاً متمكناً ماهراً بارعاً بحق في جميع العلوم والمعارف خاصة في الفقه وأصوله والحديث والبلاغة والنحو والتفسير وغيرها من العلوم الهامة – فهو على جانب كبير من سعة الإطلاع موسوعياً وقد وهبه الله تعالى الذكاء والنباهة والحذاقة والفطانة.
وكانت حلقته تمتلئ بكثير من الطلاب المدنيين والمهاجرين وله حلقة أخرى تعقد في بيته بعد صلاة العصر أو العشاء فيؤمها طالبوا العلم ليأخذوا منها، فكان بيته مفتوحاً لكل طالب علم في أمور دينه الحنيف.
وكم حدثت بواسطته الفائدة لكثير من طلاب العلم الإسلامي عن طريق الإجازة.
الشيخ الفاهاشم عضو مجلس الشورى
عين الشيخ الفاهاشم عضو مجلس الشورى وكان نظام المجلس يقضي أن تمثل كل مدينة أو أكثر في المجلس وكان يتم اختيار العضو بالانتخاب وأول من مثل المدينة المنورة هو الشيخ سعود دشيشة الرجل المحنك وعين الشيخ الفاهاشم من ضمن العلماء التي ترجع إليهم الدولة في أمورها الشرعية وكان الملك عبد العزيز يأخذ بفتواه دائماً ويقدمها على الفتاوى الأخرى فالرجل شيخ مشايخ العصر وكانت له مكانة كبيرة في نفس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه.
الشيخ الفاهاشم والفتوى
لقد برع واشتهر في المدينة المنورة فكان من علمائها الأفاضل متضلعاً في المذاهب الأربعة وخاصة في المذهب المالكي ويتميز الفاهاشم بسعة الإطلاع وغزارة الحفظ فإذا أتته الفتوى فإنه يقول لأحد طلابه: افتح الكتاب كذا صفحة كذا في السطر رقم كذا واقرأ فإذا هي إجابة السائل.
وكانت تأتيه الفتاوى والأسئلة من شتى البلاد الإسلامية فيجيب عنها إما في وقتها وإما خلال موسم الحج من كل عام وكانت داره بحارة الأغوات تمتلئ في موسم الحج بالعلماء من العالم الإسلامي، ويأتيه دائما علماء إفريقيا ليلتقوا به ويحصلوا منه بفائدة.
تلاميذ الفا هاشم
إن من الصعب علينا أن نحصي تلاميذ هذا العالم الفاضل فهم يعدون بالألوف فمنهم في إفريقيا ومنهم في المدينة المنورة ومنهم من الأقطار الإسلامية الأخرى، فتذكر منهم على سبيل المثال وهذا ما استطعت أن أتحصل عليه من الأسماء الشيخ سعيد بن صديق الفوتي المدرس بالمسجد النبوي الشريف المتوفى سنة 1353هـ والشيخ العلامة المتفنن عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي المدرس بالمسجد النبوي الشريف المتوفى سنة 1377هـ والأستاذ الأديب المرحوم محمد حسين زيدان والشيخ عمر عادل التركي مؤسس مدرسة النجاح بالمدينة المنورة وهو على قيد الحياة والشيخ حسن المشاط المدرس بالمسجد الحرام المتوفى سنة 1399هـ والشيخ حسين باسلامه المكي المتوفى سنة 1359هـ والشيخ محمد السالك بن الخرش المتوفى سنة 1408هـ والشيخ سيدي أحمد بن أدة وغيرهم.
شخصية محبوبة
لقد عاش الشيخ الفاهاشم في زمن كانت تنعم فيه المدينة النبوية ببحور من العلم والعلماء فقد كانوا يجتمعون على الاجتهاد والتفقه في هذا الدين الحنيف ويعتبر الفاهاشم أحد هؤلاء البحور.
فهو شخصية مبوبة جعلت الناس يلتفون حوله لطيب قلبه فكان محباً للعلم وطلابه وخادميه فمن أصدقائه:
الشيخ إبراهيم بري مفتي المدينة وقاضيها.
الشيخ حميدة الطيب المدرس بالمسجد النبوي.
الشيخ أحمد بساطي المدرس بالمسجد النبوي.
الشيخ المعمر حسن الشاعر شيخ القراء بالمدينة المنورة.
الشيخ عبد الرؤوف عبد الباقي المدرس بالمسجد النبوي.
الشيخ محمد العائش المدرس بالمسجد النبوي.
الشيخ محمد الطيب الأنصاري المدرس بالمسجد النبوي.
الشيخ ملا سفر الكولابي المدرس بالمسجد النبوي.
وغيرهم من علماء المسجد النبوي الشريف فرحمة الله عليهم جميعاً.
قصص لألفاهاشم
ذكر الأستاذ محمد سعيد دفتردار قصة تدل على عفة الشيخ وهي أن أحد الأثرياء الأتراك جاء إلى المدينة المنورة وكان يعطي كل عالم منديلاً به « مائة ريال مجيدي » فعندما وصل إلى الشيخ الفاهاشم وهو بين تلاميذه قدم له المنديل فاعتذر الشيخ عن القبول بأنه لا حاجة له بالمال فسأله الرجل الثري عن السبب فقال: إنه لا يأخذ الزكاة ولا الصدقة فقال له: إن هذه المنحة من زكاة مالي ولكن سأعطيكها كهدية تساعد بها تلاميذك فعندما اتضح الأمر في نظر الشيخ على أنها هدية أخذها ووزعها فوراً على التلاميذ فسر الرجل الثري بأسلوب الشيخ الفاهاشم وعزة نفسه.
الزيدان وذكرياته مع الفاهاشم
قرأت في كتاب العهود الثلاثة للأستاذ محمد حسين زيدان رحمه الله قصة جميلة يقول فيها الزيدان: (كنت في رواق باب الرحمة قبل صلاة المغرب، وساعة الآذان فإذا الشيخ الألفاهاشم يقف على رأسي « زيدان قم » وأخذ بيدي لأسير بجانبه إلى الروضة الشريفة وتعال شوف الناس تصل بالخبر إلى والد الزيدان.
الشيخ الفاهاشم ومعه ولد يصلي في الروضة أكبروا ذلك وكبر الأصدقاء وبعد صلاة المغرب: بسط الشيخ المحفظة فأخرج الدواة وقلم البوص وورقة مسطرة أمسكت بالقلم وأخذ يملي علي هكذا: « يا زيدان يامن يزينه العلم يزدان… يازيدان إن المفرد العلم مزيدان له مثنى زيد لقد دانا… يازيدان أضفتك إلى نفسي لأنك محبوبي من العلم دان » وسبب ذلك أن أساتذة الزيدان اختلفوا في إعراب اسم الزيدان فحقق الفاهاشم أعرابه أعراب المفرد لا إعراب المثنى: ويكمل الزيدان حديثه قائلاً كان الشيخ الفاهاشم يلقي دروسه في الضحى وفي شهر رمضان وقفت أستمع وأنا ذاهب إلى المدرس وإذا هو يفسر قوله تعالى: « وللآخرة خير لك من الأولى » القى التفسير المجمع عليه الآخرة يوم القيامة…. والأولى الحياة الدنيا ثم أردف ذلك وبلهجته المالية الإفريقية قائلاً « وقال بعضهم الآخرة « المدينة » خير لك من الأولى « مكة » وانصرفت ألقيها بهجته الضاد ظاء حتى قلت: إفريقي مغربي يحافظ على مذهب مالك وهو بعد مديني يحب مدينته رحمه الله.
مؤلفات ومكتبة الفاهاشم
لقد صنف الشيخ الفاهاشم كتباً كثيرة ونافعة متنوعة في كثير من العلوم مثل الفقه والحديث وكانت هذه المؤلفات موجودة عند أحد تلاميذه فعندما توفي الشيخ الفاهاشم جاء أحد الرجال الأفاضل من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وهو الشيخ علي كتبي وبحث عن تلك المؤلفات حتى وجدها عند ذلك التلميذ فتسلمها منه ليطبعها على حسابه الخاص بمصر ولكن المنية وافت الشيخ علي في القاهرة قبل تهيئها للطبع وبوفاة هذا الرجل فقدت تلك المؤلفات وجهل مصيرها إلى يومنا هذا فيا حسرة على هذه المؤلفات النافعة التي كانت ستملئ بها المكتبات الإسلامية وينتفع بها.
وله مؤلف مشترك مع السيد شطا المكي اسمه: رسالة في حكمة أوراق النقود وقد طبع في المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
وقد جمع الشيخ الفاهاشم مكتبة قيمة تحوي على نفائس الكتب والمخطوطات النادرة وبعد وفاته نقلت هذه المكتبة إلى إحدى الأربطة ثم بيعت الكتب والمخطوطات وبذلك تكون فقدت المكتبة وسبب ذلك أن الشيخ لم يرزق بولد يحمل اسمه ويحافظ على ما أثراه وإنما رزق ببنات لم يستطيعوا المحافظة على آثار والدهم لصغر سنهم حين وفاته.

قصة وفاة الشيخ الفاهاشم رحمه الله
وفي آخر حياته دب فيه المرض فأصبح لا يستطيع الخروج من البيت وحينما يأتي إليه الأطباء يقول:
مــــاذا يبغي الحكمــــاء منـــي
وقــــد دنــــا من السبعـــــين سني
وفي يوم وفاته جاء رجلان من ينبع إلى دار الشيخ الفاهاشم يسألانه عن فتاوى فسمعها منهم وقال لخادمه: افتح الكتاب كذا صفحة كذا وافت لهم فحدث وأفتاهم وخرج الرجلان من عنده مسرورين وبعد خروجهما بدقائق خرج الخادم يقول: إن الشيخ فارق الحياة وكان ذلك عام 1349هـ وكانت لوفاته رنة حزن في المدينة المنورة وخرجت المدينة على بكرة أبيها لتشيعه وعلى رأسهم أمير المدينة المنورة فرحمة الله عليه فقد كان الرجل محبوباً لكل الطبقات.

وصيته قبل وفاته
لقد أوصى من حوله قبل وفاته بعدة أيام وهو على فراش الموت قال إذا مت وذهبتم بي إلى المسجد النبوي الشريف وصليتم علي فلا ترفعوني على أعناقكم ولا تمروا بي أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل اذهبوا بي إلى جهة المنبر ثم إلى باب جبريل.

بكاء أمير المدينة على الفاهاشم
حدثني الأستاذ الفاضل عمر عادل التركي حفظه الله أنه رأى يوم وفاة الشيخ الفاهاشم أمير المدينة المنورة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم في المسجد النبوي الشريف وهو يبكي ويقول ماتت المدينة اليوم – ماتت المدينة اليوم.
رحمك الله يا شيخنا الفاضل وأسكنك فسيح جناته وجعلك في منزلة الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أقول هذا ما استطعت الحصول عليه في ترجمة الشيخ الفاهاشم رحمه الله والحق أقول أنني لم أوفه حقه فهو أحق من هذه السطور بكثير.
ما كتب عن الشيخ الفاهاشم
كنت طلبت من الأستاذ عمر عادل التركي أحد تلاميذ الشيخ الفاهاشم أن يكتب لي ما يعرفه عن الشيخ فكتب لي هذه السطور. ووضعتها كما أعطاني إياها.

ذكرى مع العالم الجليل الفاهاشم
رحمـة الله عليه
في عام 1347هـ هاجرت من تركيا إلى المدينة المنورة وكان عمري إحدى وثلاثين أصبت بمرض عجيب هو أن حصل في بطني دود الشريطي وكان تسقط مني أوصال صغار جداً وطبعاً أنا حنفي المذهب بتنقض الوضوء ولم أستطع دخول الحرم الشريف ماذا أعمل فسألت العلماء قالوا لا يمكن يعتبر صاحب عذر لأن وقت خروج أوصال الدود غير معلومة أحياناً يوماً كاملاً لا يوجد وأحياناً في اليوم مرات عديدة فذهبت إلى العالم الجليل الفاهاشم رحمة الله عليه فقال لي أدخل الحرم وصلي مع الإمام لأن الإمام مالك يقول إنما ينتقض الوضوء بما خرج من السبيلين عادة وهذه الحالة ليست بعادة، فبدأت أصلي ثم استعملت أدوية فزال مني هذا المرض الحمد لله.
ثم عزمت الشيخ الفاضل الفاهاشم إلى داري لإكرامه والشكر له لهذه الفتوى ولما دخل بيتنا وخلع عبائته رأيت على ظهر العباءة نقشاً على شكل الصليب وأخبرته وقال هذه جاءت هدية لي من إفريقيا وأراد أن يشق العباءة فأخذتها منه وأعطيتها لوالدتي وهي فكت الشكل الصليبي وعملت محله نقشاً جميلاً وفرح الشيخ ودعا لنا.
وبعد ذلك بدأت أواظب مجلسه كل يوم لأستفيد من علمه ثم مرض الشيخ وكنا نزوره إلى أن توفي رحمة الله عليه.

 

(*) الأستاذ المربي مؤسس مدرسة النجاح

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.