الحاج مصطفى امبكي يكتب.. الدارات والحالات الراهنة قراءة في جدلية الخوف

الحاج مصطفى امباكي

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يامربع
لعله لم يشع اللغط والجدل في تاريخ الدستور السنغالي كما يكثر حينما يكون القانون متعلقًا بجوهر الدين ، ولعله لم يكثر الجدال والمراء الذي يحكمه الأيديولوجيا المسبق كما حدثت وتحدث فيما يتعلق بالحوار الدائر حول المدارس القرآنية، مما يخيل للمتابع أن حالتها صاعدة إلى الانهيار ، مع أنه رغم إمكانياته الضئيلة تبقى واحدة من أكثر القطاع حيوية ونجاحًا في هذا الوطن الجريح المتهاوي على كافة الأصعدة مؤسسات وقطاعات، وتمتاح إشكالية الحوار الذي يدور حول المدارس القرآنية من جذور تاريخية وعقائدية شديدة التعقيد واللبس، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فهم هذا اللغط دون استحضار لذلك العنصرين، إذ هما متلاصقان به تلاصق اللازم بالملزوم, وأضيف إلى تلك الحالة المناخ الجيوسياسي الذي يتحكم في كل شاردة واردة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الحكومات في دولنا الضعيفة هذه، ومدى التبعية المطلقة لدى زعمائها للقوى الإمبريالية الكبرى التي تحكم العالم ، ويبدو أن خوفنا نحن أبناء المدارس القرآنية خوف مشروع مقارنة بالجدل الذي رافق قضية سرج خادم غي لأنها كشفت عن تهديد جدي وبغض شديد للدارات عامة ويمكن إرجاع ذلك الخوف المشروع والتوجس من القانون إلى أسباب منها :
١- التهديد التاريخي: لم يبرح المستعمر منذ أحكم قبضته على السنغال في القرن السادس عشر على العمل على محو المدارس القرآنية من ظهر البسيطة، وما ذلك لأنه كان يوقن أن وجود مثل هذه الدارات يمثل تهديدًا وجوديا له، وأن مجرد تواجدها ينذر بعاصفة قد تحول هناءه إلى نصب في أي لحظة، ولم يكن ذلك انطلاقًا من رغبة إشاعة الجهل في المجتمع وإنما لتحويل دفة التعليم إلى النمط الذي يهواه ويرضاه وما أشبه الليلة بالبارحة ،وإلا فأي علة يتلمسها الإنسان في الإحراق المشين الذي مارسه الاستعمار على جامعة بير العريقة وتحويلها إلى أثر بعد عين ؟ أليس ذلك نقيضًا للتنوير الذي يدّعون أنهم جاءو من أجله ؟ لا ليس نقيضًا لأن استمرارية تلك الجامعة ستكون سببًا في إجلائهم ولو على المدى البعيد ، وحينما نتكلم عن المستعمر فإنما نستحضر أذياله الذين تعلقوا به وتربوا على يديه وعمدهم بطريقته الخاصة فهم والمستعمر سواء.
٢- طبيعة الخائضين :إذا أردت أن ترى الحقد مجسمًا على هيئته التي خلقه الله عليها ، فلك أن تلاحظ عيون المغسولة أدمغتهم وزينت لهم غيهم وزخارفهم وهم يتكلمون عن الدارات، خاصة عند من جعلوا أنفسهم المدافعين الأساسيين عن حقول الإنسان ،إذ ترمي وجوههم شرارة وعيونهم ضراوة لا تخطئها العين، وكأنما يريدون الانقضاض على المدارس القرآنية لتحويله رمادا بعد عين، ومما يندى له الجبين أن الإنسان يحاول جاهدًا أن يبحث عن مسوغ رئيسي لهذا الحقد فلا يجده، فيفتش أروقة التاريخ فتلوح له الآثار المتخفية ثم يعلل فعلتهم بمهنتهم التي يقتاتون منها، لكنه يحتار من أمرهم مرة أخرى حينما يكتشف أنهم لم يحثوا الحكومة يوما على إيفاء تلك الطبقة المظلمة حقوقها، ليجد بعده أنهم يتزعمون بمبادئ ليبرالية هم أبعد الناس عن فلسفتها، وأنهم لا يتكلمون إلا لتأليب الرأي العام على فئة رأوها باغية ظلامية.
أما فيما يتعلق بالقانون فيمكن إدراجها في ثلاث نقاط هي :
١- القاضي متهم: من الجميل أن نرى خطوة مبادرة كهذه، فلقد طال انتظارها، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون المرء مطمئنًا على أي قانون تسوقها الحكومة لتنظيم الدارات، وليست ذلك اتهامًا لرجالها لكن تاريخها وتاريخ سيدها الأكبر كفيل بتغليب الظن السيىء على الحسن ولو احتاطت له من القدر اللازم ما يكفي، وأنى للإنسان أن ينظم شيئًا يرى في صميم نفسه أنه من ضروب التخلف وعوائق التقدم!
مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا
وهذا الظن الذي يتلبس به الطبقة المثقفة باللغة الفرنسية ليس بخاف على أحد، يراه القاصي والداني، ولك أن تجرب اللباس الديني حسب ما اصطلح عليه عند بعض الدوائر الحكومية لترى كيف ترمقك تلك الأبصار الزائغة، وكيف تسفه عقليتك، مع أن هذا اللباس ليس إلا ثمرة لاعتزاز المتخرجين من المدارس القرآنية بهويتهم، فكيف بمعاداتهم لأصلها؟!
٢- الفلسفة المادية الطاغية: كنت أتسائل وأنا أقرأ القانون, هل كاتبه فعلا جرب الدارة ؟ بروح من كتبت هذه البنود ؟ولتقويم ماذا صاغوا هذه الفقرات المتهالكة الغامضة المعقدة ؟
قرأته وأنا أرى الفلسفة المادية الحاكمة للعالم تقطر من ثناياها قطرة لا تخطئها العين حتى يبدوا أن القانون ما وضع إلا لتحسين الظروف المادية التي تحكم المدارس القرآنية، وكأنما المدارس القرآنية وصلت إلى فقر مدقع تدفعها إلى المساومة على مبادئها الأصلية مع أي تحسن مادي، وهذا استنتاج خاطئ ومتوقع، فمحاولة فهم الروح التي تتشرب دارس القرآن ومعلمها بقياسه بغيره تقود إلى نتائج خاطئة، لأنهما مختلفان تمامًا في الغايات والأهداف، والظن بأن الشهادات تغري آباء ومعلمي الولدان القرآن ينبئ عن عدم فهم النيات المسبقة والمؤسسة للعملية التربوية تلك، وإلا فبم يفسرون إذا إحجام ذلك الوالد عن إدخال ابنه المدارس الفرنسية مع مجانيتها وتكلفتها الأقل ومستقبلها الأكثر إشراقا حسب زعمهم ثم إن ذلك الذي رضي بالتعليم الموازي(التعليم العمومي ) لن يقوده إصلاح الأحوال إلى تغيير قناعاته التربوية لأن مشكلته ليست مع المنهج المطبق في العملية وإنما مع العملية نفسها.
٣- أحادية المناهج وإشكالية الفوارق: من البنود الأكثر غموضا وجدلا في القانون صياغة المنهج على شكل يكون موحدا، كما يكون قريبا من المنهج المتبع في المدارس العمومية من حيث الأهداف، وهذا ذكرني بنظرية أفلاطون في الجمهورية ورأيه عن ضرورية بناء المجتمعات بصورة تعتمد على الطبقات لا على الفردية، وفضلًا عن استحالة ذلك فإن المنطلق في تحفيظ القرآن وتدريسه يخالف تمامًا ما عهده صائغو هذه القوانين، فالساكن في دكار قد يذهب بابنه إلى طوبى أو اندر نظرًا لأن المنهج المتبع والكيفية التربوية هما المرغب عنده وأكثر ملائمة لفلسفته في الحياة ، ثم إن ذلك مخالف تمامًا لأبسط القواعد المعروفة في المدارس القرآنية والتي تعتمد بالأساس على عقل الطفل وذكائه،وأي منهج موحد يقدر على مراعاة الفروق بين طفل حفظ القرآن في سنتين وآخر في ١٠سنوات ؟ بل إن محاولة ذلك ضرب من العبث وفن من الهراء يعري المتكلم به وضعفه في فهم روح ومنهج المدارس القرآنية.
الخاتمة : في خضم هذا الجدل وهذا القانون الذي بدا ملامحه حالكة وضبابية، حتى إن كثيرا من تفاصيله لم يعرف بعد لأنه سيحدد بمرسوم رئاسي، فإن على المشتغلين بالمدارس القرآنية أن يضعوا نصب عينهم مسئوليتهم أمام الله والتاريخ، وأن لا تغريهم المناصب الموعودة والتحسينات المادية الموعودة التي ضررها أكثر من كثير من نفعها، ولتكن مواقفهم مبنية على أسس علمية واستراتيجية واضحة، لأن عواقب أي خطأ أو تقدير ستكون وخيمة ومكلفة، وليعلموا بأنها حرب وجودية، وسيخيب ظن من يرجو أن بإمكانه الحصول على قارب النجاة دون بقية إخوانه وإنما هو الطوفان وما أدراكم هو !؟

✍:الحاج مصطفى امباكي

Laisser un commentaire

Votre adresse email ne sera pas publiée.

Ce site utilise Akismet pour réduire les indésirables. En savoir plus sur comment les données de vos commentaires sont utilisées.