مقاصد الشريعة بين انتظامية المؤسسين وفوضاوية المتسورين (الجزء الثاني)
(*) أحمد سنب جوب
مظاهر الانتظامية والانضباط عند مؤسسي علم المقاصد
سأحاول بشكل مختصر ذكر السمات العامة والمظاهر الأساسية التي تتضح منها مدى انضباط وواقعية أصحاب الدار، ومؤسسي بنيانها وحرصهم على رعاية قلعة الإسلام، وإعطاء تفسيرات وتعليلات مؤصَّلة لا انطباعات شخصية وتخَبُّطات توهُّمية، وإليكم بعض المظاهر والتجلّيات:
المظهر الأول- أن دعوى المقصدية عند المؤسسين يقوم على تحرّ وتتبُّع دقيقين، واستقرائي علمي واسع، وما كانوا ليدّعوا مقصدا من المقاصد سواء الجزئية منها أو العامة أو الخاصة، دون أي دليل ، ولقد تحدث الدكتور الريسوني في كتابه: » الفكر المقاصدي قواعده وفوائده » عن هذا الأمر، وذكر من بين قواعد المقاصد، قاعدة: (لا تقصيد إلا بدليل)، وشرح القاعدة بقوله: « مقاصد الشريعة سواء كانت عامة أو خاصة، كلية أو جزئية، لا يجوز القول بها ولا تحديدها، ولا إثباتها ولا نفيها إلا بدليل، فنسبة مقصد مّا إلى الشريعة هو كنسبة قول أو حكم إلى الله تعالى؛ لأن الشريعة شريعته، والقصد قصده، والقول بأن مقصود الشريعة كذا وكذا من غير إقامة الدليل على ذلك هو قول على الله بغير علم…. » .
وإلى دليل المقاصد العامة أشار شيخ المقاصد الإمام الشاطبي – رحمه الله –: » ودليل ذلك استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة، على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة علي رضي الله عنه، وما أشبه ذلك، فلم يعتمد لناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة، في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة » .
من خلال هذا النص الثمين لإمام المقاصد تلاحظ كيف أن دعوى المقصدية شاقة جدا وصعبة لا يطيقها إلا ذوو الرسوخ في علمي الأصول والفقه، مع زاد لا يستهان به من باقي العلوم الشرعية.
ولقائل أن يقول: إن الذي ذكره الشاطبي هو إثبات المقاصد العامة، وقد كفانا مؤنة البحث فيه، هذا صحيح لكن دعوى المقصدية سواء كانت عامة أو خاصة، كلها تثبت بهذه الطريقة، تعال بنا ننظر في طرق إثبات المقاصد، كما ذكره العلامة الطاهر بن عاشور واستفاض في ذكر تفاصليه، وسأذكره هنا على شكل رؤوس الأقلام، ومن يريد التفاصيل يراجع الكتاب.
لقد ذكر العلامة – رحمه الله – ثلاثة طرق من طرق إثبات المقاصد:
الطريق الأول: لإثبات المقاصد وهو أعظمها ويكون على نوعين:
الأول- استقراء الأحكام المعروف عللها، الآيل إلى استقراء تللك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة… وقد أورد أمثلة لذلك.
الثاني- استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع.
الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي تضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ظاهرها… وفي ذلك أمثلة ذكره رحمه الله.
الطريق الثالث: السنة المتواترة، وذلك في حالتين:
الحال الأول- المتواتر المعنوي، كالحال من مشاهدة عموم الصحابة عملا من النبي – صلى الله عليه وسلم – فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك…
الحال الثاني- تواتر عملي يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحيث يستخلص ممن مجموعها مقصدا شرعيا…
هذا مجمل ما قاله الطاهر في كتابه « مقاصد الشريعة الإسلامية من ص: 18 إلى 23.
لقد رأيت الأسس المعتمدة عند المقاصديين لاستنباط الحكَم واللّطائف التي يطلق عليه فيما بعد بـ »المقاصد » ورأيت المحطّات التي يمرُّون منها لإثبات مقصد من المقاصد، ومن رأى الإمام الشاطبي كيف يستفيض في ذكر الأدلة على تقصيد مقصد من المقاصد، يري جليّة ما أشير إليه.
المظهر الثاني- أنهم يضبطون المصطلحات التي تُعدُّ من صميم وأسس علم المقاصد كـ » المصلحة » و » المفسدة » و » المشقة » وغيرها وفق الأصول والضوابط التي تضمن سلامتها، والمثال على ذلك أن « المصلحة » لكي تعتبر حقيقية وشرعية لابد من توفر مجموعة من الضوابط ذكرها البوطي في كتابه: « ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية » وأكتفي هنا بإشارات خاطفة على هذه الضوابط:
الضابط الأول- اندراجها في مقاصد الشارع، بمعنى أن يتضمن حفظ الضروريات الخمسة فيعتبر مصلحة، وإلا فهي مفسدة.
الضابط الثاني- عدم معارضتها للكتاب، كتلك المصالح المتوهمة المعارضة للنص القطعي، أو الظاهر جليا كان أو غير جلي.
الضابط الثالث– عدم معارضتها للسنة مع التفصيل في ذلك كما ذكره -رحمه الله-.
الضابط الرابع- عدم معارضتها للقياس
الضابط الخامس- عدم تفويتها لمصلحة أهم منها .
وزبدة الكلام في هذا، أنّ لاعتبار المصلحة في الشريعة ضوابطَ وقواعدَ يجب اعتمادها ومراعاتها ونحن نبحث عن المصلحة الشرعية، وإلا يتحول البحث إلى المصلحة الشخصيّة، إذْ ليس كلما رآه الإنسان مصلحة فهو كذلك في نظر الشارع، وهذا جزء مما أريد البرهنة عليه وهو أن المصطلحات عندهم منضبطة ومحاطة بسياج من القيود.
وما قيل في مصطلح « المصلحة » وانضباطها، يقال في مصطلح « المشقة » حيث أنهم يفرقون بين مشقة ومشقة، بين ما توجب للتخفيف وما لا توجبه، ولقد أطال الحديثَ عنها شيخ المقاصد في « الموافقات » وسأذكر تقسيمها على شكل رؤوس أقلام، مع الإحالة لمن يريد مزيدا من الاطلاع والتفصيل، وهي ما يلي:
لقد قسم الشاطبي المشقة إلى أربعة أقسام:
أحدها- أن يكون عاما في المقدور عليه وغيره، فتكليف ما لا يطاق يسمى مشقة…
ثانيها- أن يكون خاصا بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال العادية…
ثالثها- أن يكون خاصا بالمقدور عليه وليس فيه من التأثير في تعب النفس خروج عن المعتاد في الأعمال العادية…
رابعها- أن يكون خاصا بما يلزم عما قبله…
هذه بكل اختصار هي أقسام المشقة، ومنها ما هي معتبرة شرعا، ومنها ما هي غير معتبرة وملغية، وغير موجبة للتخفيف.
لعلي طوّلت كثيرا بخصوص هذا الأمر، لكن قصدي هو بيان مدى دقة وواقعية مؤسسي المقاصدي مع المصطلحات المقاصدية التي صيغت صياغة محكمة ومضبوطة، لتكون خادمة للشريعة الإسلامية لا هادمة كما يريد لها البعض ويوظفها لذلك.
المظهر الثالث- أنهم يأخذون علم المقاصد على أنه آلية فهم وتفسير للأحكام المقررة، ووسيلة استبيان اللطائف والحكَم، لا مصدرا من مصادر التشريع، أو دليلا مستقلا كالقرآن والسنة والإجماع والقياس.
وعليه فالمقاصد – في نظرهم – ليست مخوّلة لها التمرّد على ظواهر النصوص، وإحداث أحكام جديدة ومخالفة، بل إن أية قاعدة مقاصدية مخالفة لمقتضيات الأدلة المعتبرة فمقصديتها متوهمة كما سبق الذكر في « المصلحة ».
كما أن الهدف من وراء بحثهم في المقاصد هو البناء لا الهدم، ولذا لا تراهم يضربون صفحا عن النصوص الشرعية، ويتمرّدون على دلالاتها بدعوى المقصدية الزائفة، هذه الظاهرة الخطرة التي بدأت تشق طريقها، وتفرض وجودها في هذا العلم عن طريق من أسميهم بـ » المتسورين » الذين بدعوى المقاصد يتلاعبون بدلالات النصوص، فأصبحت المقاصد عندهم مصدرا من مصادر التشريع، بل المصدر التشريعي الرئيسي الذي به يحللون ويحرمون كل ما تاقت لها نفوسهم، ولي وفقه مع هؤلاء في السطور القادمة.
وفي هذا السياق يحدثنا مقاصديُّ هذا العصر الدكتور الريسوني ويقول: » فالفكر المقاصدي ليس هو ذلك الفكر الذي تحرر من الظواهر والأشكال، وتمرد على الضوابط المنهجية والقواعد اللغوية، وبدأ يكثر من ذكر المقاصد ومن تحديدها وتكييفها حسب رأيه ونظره، وأخذ يعتمد على المقاصد لتسويق آرائه وتحسينها…وصاحب هذا النمط من الفكر ومن الإنتاج الفكري، إما أنه فهم المقاصد سطحيا مبتسرا فهو أشبه بالهواة المبتدئين منه بالعلماء الراسخين، وإما أنه يستغلها لحاجة في نفسه ومسلمات مستقرة في فكره، حيث وجد في المقاصد مرونة ورحابة فاتخذها مطية ومعبرا، أي اتخذ المقاصد وسائل… » .
المظهر الرابع- أنهم لم يسلكوها متسَورين، بل خاضوا غمارها بعد تسلُّحهم بالعُدّة الكافية من علمي الأصول والفقه، اللذان هما مادتا الخام اللذان تستمد المقاصد منهما وجودها، فلا حديث عن المقاصد في غيابهما؛ إذ إن الأخيرة إن هي إلا أثرا من آثارهما وثمرا من ثمارهما، فكانوا فقهاء أصوليين، ومن ثَمَّ أتوا المقاصد على وجهها، فكان تعاملهم معها بنّاءً وهادفا وخادما للشريعة الإسلامية، وليس عاديّا أن يعتبر الشاطبي فهمَ مقاصد الشريعة شرطا من شروط الاجتهاد، حيث اختزل -رحمه الله – شروط الاجتهاد في أمرين:
أحدهما- فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
ثانيهما- التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
هل يتصور أن الشاطبي تَعمَّد مخالفة العلماء في وضع شروط الاجتهاد، لا، بل لعلمه أنه لا يتحقق هذا الأمر إلا بتحقق تلك الشروط المذكورة؛ لأنه لا يطلع على خبايا مقاصد الشريعة إلا من له رسوخ قدم في الأصول، علما أن منه استمدّ هذا العلم.
هذا ما يتعلق ببعض مظاهر انضباط العلماء المؤسسين وواقعيتهم، وهم يرسون قواعد هذا العلم، وما من تصنيف من تصانيفهم فيه إلا وترى لهذه الأمور حضورا قويا، هم رواد علم المقاصد وإليهم يرجع في معالجة قضاياها، وهم المقاصديون الحقيقيون.
(*) كاتب وباحث في العلوم الشرعية بالمغرب