فلسفة القيادة عند الشيخ الخديم صناعة القدوة نموذجا
(*) الحاج مصطفى امباكي.
بين مطبات الحياة وشوارعها اللانهائية،وبين فوضويتها الجميلة وجديتها السميكة،وبين مزخرفاتها الوهمية ذات الطبيعة الخلابة المادية التي تتغشى أحيانا بلباس التقوى الذي يراد منه أن يكون مسكنا للنفس حينما يغشاها شيء من طبيعتها اللاهوتية التي تراودها بين الفينة والأخرى كأي فكرة ضلت طريقهاوتاهت بوصلتها فلم تعد عقارب ساعتها مجدولة تحت أي توقيت أرضي أو سماوي ، بين هذه وتلك تنحدر الأفكار الإنسانية وتتلبث ريثما يأتي عبقري يفك لغزها ويخرجها من دائرة المجهول إلى التقعيد الذي يجعله متاحا للجميع في ثوب قشيب،ومن تلك الأفكار التي تعد بسيطة في ماهيتها لكونها من صلب التجربة الإنسانيةوليست ذات طابع فلسفي قد يستغرق تقعيدها الكثير من الحبر_أو على الاقل ذاك هو المفترض _
فن القيادة.
وهو فن مارسه الإنسان منذ أن وطئت قدماه هذا الكون، وقبل أن يكون علما مؤصلا تدور حوله الكثير من النظريات واللغط الجدلي الذي يكتسى به، خاصة عند من يكتفون به عند ممر التنظير ولم يكتب القدر لهم يوما ما أن يكونوا تحت طائلة ممارسته.
إنه ركيزة لكل نجاح وعليه يترتب كل شيء، وهو الذي يتكفل للزعماء سيرورة العمل ونجاحه حال غيابهم مؤقتا أو نهائيا،وإلا فإن الأمور ستتأزم مع أول موجة من العواصف التي لا تذر رياحها أن تهب بين الفينة والأخرى كاختبار لمدى صلابة البنيان .
ومن أبرز أعمال القادة الحقيقيين إن لم يكن محورها الأساسي (فن صناعة القدوة)والذي في حد ذاتها كانت وظيفة المصلحين الأبديين،فالأسوة الحسنة شيء وصناعة القدوة شيء آخر،وإن كان بينهما تلاصق لا يفك أحدهما عن الآخر ،بل هو الذي يضمن النجاح لأي عمل جماعي حينما يصبح فرد مابحكم التقلبات الزمانيةقائدا على الجماعة،وبذلك ابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم في نظرته الوداعية التي أطل من حجرة عائشة على الصحابة وهم يصلون،فاستبشر خيرا وأيقن أن هذا الجمع الغفير لم يعودو متأسين فقط وإنما صارو قادرين على أن يصنعو من غيرهم قوادا، وبذلك طابت نفسه واستقرت سكينته،ولحق بالرفيق الأعلى وهو موقن أن الآلات المعنوية والمادية جاهزة لاستكمال المسيرة،واستلم المسيرة بعدهم مئات من الأشخاص الذين شاركو في دفع العجلة ومواصلة النسق مع تباين في الوسائل التي كانت غالبا ترتبط بالظروف والإمكانيات أكثر مما ترتبط بالأفكا،ر لأن الوسائل نابعة أساسا من وجود مناخ لها يلائمها ويحيطها برعايتها ويمدها بأكسيجين البقاء ونفَس النجاح،وكأي مصلح اجتماعي كان على الشيخ أحمد بامبا أن يواجه الحياة بكل ظروفها وأبعادها وتجلياتها ومئالاتها،بعدما قسى الزمان عليه كعادته مع المصلحين،ووضعه في مواجهة مكشوفة تنذر بحرب وجودية،وفي ظل تراكم المسئوليات وتضخم الواجبات، وخوفا من تلاشي الإرث الذي لم يكن أبدا هينا،ووفاء بذمة وضعها الدهر على رأسه،كان من الضروري توزيع الأدوار والمهام الموكلة إليه،لكن ما الملجأ لأربعيني تمكن منه أعدائه فنفوه وأصبح أهله بين حائر ينتظر عودته، وحاسد يشمت به،ومتربص ينتظر دورة الزمان ليعلن موقفه حتى لا يكون عنوانا للتناقض،لكنه القدر واليقين في أكبر تجلياتها والعبقرية في أسمى ظروفها،حيث الوضع كارثي بكل المقاييس،والحلول منعدمة والظروف غير مواتية،ومجرد الرجوع خطوة إلى الوراء يعني خيانة قضية بأكملها،بل هو بمثابة دق الإسفين الأخير على نعش فلسفة المقاومة التي كانت تحتضر يومها،والمواصلة على نفس النسق أشبه بمن يقود نفسه إلى حبل المشنقة فهو سباحة عكس التيار قد تصل إلى حد المجازفة في مجهول لا يعلم مكامنه وما يخبئه بين دفتي غيبه، ومن هنا كان على العملية التربوية أن تأخذ منحى آخر،ولا بد من الأدوار من أن توزع،فلم يعد اليوم كالأمس،والغد مجهول إلى حد لا يمكن أن يتصور ملامحه،فليست ثمت حلول كثيرة يمكن الاختيار منها كمايشتهي،بل هي منعدمة في الأساس يجب أن تُعتصر من رحيق التاريخ،ومن هنا أحس الشيخ الأربعيني بالخطر الداهم الذي يجتاح مدينته،والخطر ليس ماديا أبدا بل هو خطر معنوي يتمنى لو استئصل هذا الدين من أساسه،وهذه الفلسفة المتجددة التي ظنو أنهم دفنوها،وهكذا تأخذ الأمور وتيرة أخرى،وبما أن المنفى كان وشيكا اقتصر النصيحة الوحيدة في تلك اللحظة العصيبة على أن يتكفل أخوه الأصغر السيد مام اتيرنو إبراهيم فاط امباكي (1) بالمهمات الضرورية ريثما يرجع، وهناك تحضر درسين لاتقل أحدهما أهمية عن الآخر ألا وهما:
١المغزى الدلالي للفظ(حتى أرجع)وهي جملة تتحدى كل الظنون والتاريخ،وينبئ عن نتيجة لم يكن أكثر المتفائلين يتمناها،لأنها تمثل استثناء مقارنة بتجارب مرت،خاصة أن وقيعة ساموري توري ومصير لتجور _رحمة الله عليهما كانتا ماثلة في الأذهان،لكن..التسليم للأسباب جزء من الجهل برب الأسباب ،كما أن اللفظ يشي بصناعة ما يسمى عند القادة بثقافة الانتصار الذي يحارب تكريس نفسية الهزيمة التي تؤدي إلى التراخي،وهو ما منينا به اليوم،حيث يجعل المرء في حالة دفاع سيظل يقبع فيها.
التمكين التام لمام اتيرنو بحيث خول له استعمال كل الوسائل المتاحة مادام أنه هو الذي سيباشر المهمة التي لم تكن أبدا سهلة،حيث كانت المأمورية معقدة وتتمثل في الحفاظ على شعلة من الدين والتدريس ستبقى تضيء ولو بضوء خافت،وفي تلك الكلمة في حد ذاتها إشارة واسعة وصريحة إلى طبيعة المرحلة التالية بأنها لن تكون أبدا كسابقها في حكم الوسائل المستخدمة، لأن الظروف تغيرت وأصبحت ذات طابع قاس يستلزم استنزاف الطاقات البدنية والعقلية،حيث إنه مع كل هذه العقبات فإن المأمورية لم ولن تتغير، لأنها عمل ليس مرتبطا بأية عقبات،ولن يعفي الإنسان منها تغير الحالات أو قصر اليد أو العجز المفتعل أو الاقتصار على هامش القضية والحوم حولها،إلا أن هذه الحالات في حد ذاتها جميلة ومفيدة لأنها تساعد الإنسان على تنمية عبقريته التي لن تزيدها الحالات الطبيعية إلا ركودا وخمودا،حيث سيقود الإنسان بحكم طبيعته الجانحة إلى الراحة إلى استعمال الحلول التقليدية فيما هذه الحالات تتطلب جهدا عقليا واستفراغا لكل طاقة العقل لإفراز الحل المناسب الذي يكون أحيانا أشبه بولادة قيصرية تعاند دوامة الزمان وتحاول أن توجه الأمواج عكس تيارها المعتاد .
إذن كما أسلفت ذكره بضرورة تغيير النمط استجابة للظروف كان لا بد من سلاح جديد يُتقوى به،ولم يكن ذاك السلاح الجميل الذي لم يكن أبدا خشنا بقدر ما هي آلة استغفال للطرف المتعدي إلا ما يعرف عند التربويين بفن صناعة القدوة أو عند القياديين بفن تمكين الآخرين،وهو شيء بغض الطرف عن نبله وأهميته كان ضروريا في تلك المرحلة التي كان التجمهر فيها يكاد يكون شيئا محظورا حيث الجواسيس منتشرة شرقا وغربا،وفضلا عن أداء مهمتها فإنها تختلق أحداثاوهمية بغية مزيد من الحظوة والنفوذ لدى الإدارة الإمبريالية التي جثمت يومها على صدر البلاد،ولعل من فائدة الأزمات أنها تعري الوجوه الزائفة وتجبر المتربصين على فضح أنفسهموكان الشيخ الخديم في ممارسته لذاك الفن الجميل فاهما ومتفهما الظروف ومحيطا بالجو العام الذي الذي كان سائدا،لأن أي خطأ في التقدير سيفرز أخطاء مشوهة لصيرورة العمل، وبما أن العمل كذلك اعتمد رضوان الله عليه على على ثلاثة ركائز:
1: الإهتمام بالجانب التثقيفي لأولئك الذين ينتظر منهم أن يكونو ربان السفينة غدا،ليقينه بأن العملية التعليمية هي الأساس الذي يجب أن يبنى عليها ماعداها،وأن كل مادونها لا يعدو أن تكون محاولة لذر الرماد في العيون،بل ذهب إلى تعريتهم ونزع كل صفات المهابة والإجلال عنهم متى ما أصبحو عوائق في سبيل المد العلمي وذلك حينما قال:
ومن نهاكم عن التعلم $فهو خليفة اللعين المجرم
والعلم كما هو معلوم جزء كبير من الكفاءة التي يجب أن يتحلى بها كل قائد إذ بدونه سيكون المرء عاجزا عن استثمار القدارات والمؤهلات التي تتوفر عند ذويه.
2: التنسك:كان من الركائز الأساسية التي لم تتوان الشيخ الخديم عند من كان يعدهم لتقلد المأمورية الاهتمام بالجانب العباداتي ومنحه وإيلاءه مساحة غير قليلة في سبيل التكوين التأهيلي،لأنه الزاد لكل معلم وكل قائد،لأنه مصدر الفتوحات والفيوضات الإلهية،وهو الذي يحول العلم إلى ذا طعم لا يؤول بصاحبه إلى أودية الهلاك،وإنه الرافد الأساسي لكل مصلح،لأن القرب من الله هو الذي يضفي على الإنسان الجلال والوقار ،وينزع عن قلبه ضعف الإنسان وركونه إلى شهوات النفس واستجابته لنوازع الهوى،وينظف قلبه من حطام الدنيا وحظوظ النفس التي طالما آلت بأهلها إلى أودية السحيق،والعياذ بالله كما أنه يجلي عن المرء غبار الخوف والتقهقر حينما يصل إلى تلك المنزلة التي عبر عنها الشيخ الخديم بقوله:
وحيثما تخف إلهك الأحد $ يخفك من خوفكه كل أحد
ولهذا كله كان للعبادة دور محوري في تكوين أولئك حتى كان قيام الليل شبه محتم عليهم،وكان لأكثرهم ورد معروف من الليل لا يحيد عنه مهما غلبه ظروف الدهر ومكامنه.ويحسن هنا أن أورد كلاما جميلا للبوطي لخص فيه أهمية العلم والعبادة في الجانب التربوي وهو:(ألا وإن الوصول إلى مرضاة الله لا يكون إلا بمصباح العلم ثم إن العلم هو الذي يهدي إلى العمل والعمل المنضبط بهداية العلم هو الذي يورث الخشية والحب ومن زعم أنه وصل إلى كل منهما من دون علم فهو كاذب ودجال).
3: الاستقلالية الجزئية أو الانعزال والذهاب إلى مكان غير بعيد ولا قريب،يكون صالحا لبداية التطبيق الفعلي لما سبق تعلمه،حيث يصبح المرء مسئولا عن أفراد يلزم عليه أن يواصل المسيرة معهم ليخفف عن القيادة المركزية مأموريتها،وليحقق نموا جغرافيا يكون له تبعاته الإيجابية من حيث التوسع وغيره،كما أن هذا الانعزال الذي كان يتم في قرى لا تكون بعيدة بقدر يصعب الوصول إلى الشيخ إذا استلزم الأمر ذلك كما أنه لا يكون قريبا بقدر يتيح رفع كل شاردة وواردة،وبين هذين تنتج الظروف عقلية تتناغم مع الأحداث وتتفاعل معها ببصيرة القائد والمتعلم معا لأن الدنيا لا تعدو أن تكون كما يقول العلماء(الطبيعة تنجب الإنسان والمجتمع هو من ينميه ويكونه).
الخاتمة: تلك إذن باختصار بعض الملامح التي حاولنا تلمسها واستخلاصها من تلك الظروف التي لم تكن أبدا عادية بل كانت لحظات مفصلية أثرت في عقارب الساعة واتجاهها إلى يومنا هذا وما أشبه الليلة بالبارحة حينما كان الشيخ الخديم يقول:
إن لم تلاق مصلحا فلتكف$ بما به نص خيار السلف.
(1) مام اتيرنو إبراهيم امباكي أخ الشيخ الخديم من جهة الأب من مواليد ١٨٦٣ وكان العضد الأيمن للشيخ الخديم وتوفي عام ١٩٤٣