من أجل كرامة شعب 

(*)  د.هارون باه

 

كل الشعوب تستحق الكرامة، وهي ليست حكرا على أمة دون أخرى، و من حق أي مجتمع أن ينال قسطه من تلك القيمة التي تظل لصيقة بآدميته لا تنفك عنه طالما أنه محض آدمي، وإذا لم يجاهد الشعب في سبيل كرامته فلا مناص من الاستخفاف به وإهانته، فهما طريقان للحياة لا ثالث لهما، والشعوب هي التي تحدد مصيرها بنضالها ومقاومتها لكل أنواع الإذلال والطغيان، لكن يبقى السؤال ما هو حظنا منها؟

وللإجابة على هذه الإشكالية لابد من رصد بعض المستويات للوقوف على حقيقتها و أبعادها في حياة الناس، على مستوى المرجعية والسياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والعلاقة مع الآخر.

وإذا كان الشعب السنغالي قد عاش حقبة من الظلام و السيطرة باحتلال أرضه ونهب خيراته وتهميش ثقافته، إلا أنه استقل بعد ذلك، وها هو الآن في العقد السادس من خروج الإدارة الفرنسية من البلاد، ما يدفعنا للتساؤل ألم تكن هذه العقود كافية لتشق السنغال ـ وغيرها من البلدان المستضعفة ـ طريقها إلى النهضة والتقدم؟ وأكثر من ذلك القضاء على الظواهر المشينة والمسيئة المتفشية في البلاد، و التي لا تتلاءم مع روح العصر ولا مع مبادئ الدين.

        على أن أول الطرق لمعانقة الكرامة إزالة كل العوائق التي تحول دون الوصول إليها من جهل وفقر ومرض، إذ في ظل استحواذ هذه العقبات الثلاثة لا يمكن الحديث عن شرف إنسان وكريم عيش، لكن من يتتبع الحقائق الاجتماعية في هذا القطر يدرك أن الأمور لا تزال دون المأمول.

فعلى مستوى المرجعية لا تزال الطبقة السياسية بعيدة كل البعد عن أشواق الشعب الروحية والحضارية، ولا تزال نظرتها للدين نظرة ارتياب وتهميش، وإن رضيت به ففي حدودٍ ولحاجةٍ في نفس يعقوب، ولا تؤمن بأن الدين منهاج حياة يرشد خطى الإنسان ويهديه الطريق السوي في رحلة العمر، وخير شاهد على ذلك غياب أي استرشاد بالدين عند وضع الخطط الاستراتيجية والمشاريع الكبرى في السياسات العمومية، ولم تدرك بعد الأهمية العظمى والضرورة الملحة والامكانيات الروحية للدين في بناء العمران الحضاري بحكم تشبعها بالرؤية العلمانية الفرنسية، وهو ما يوسع الفجوة بين المجتمع و أطره الفكرية والمرجعية التي تنبثق منها رؤيته للحياة و للنظام الاجتماعي والسياسي، ويكفي برهانا على ذلك إدراج النظام السياسي الحاكم مع آخر استفتاء حول الدستور 2016 مبدأ تحصين العلمانية ضمن التعديلات حتى لا يطالها أي تغيير أو تبديل، لكن موقف المجلس الدستوري منع من عرض الاقتراح على الشعب، وإلى جانب ما ذكر اغتصاب القرار السياسي من أهله ما يجعل البلاد في كف عصابة من البشر لا يأتمرون إلا بأوامر ساكني القصر الفرنسي، فهل يليق بكرامه شعب أن يفصل بينه وبين مرجعيته وقراره السيادي على النحو المذكور؟

و على مستوى الدستور لا يزال السياسيون أنفسهم يعترفون بأن الوثيقة الدستورية في السنغال على مقاس الدستور الفرنسي، ولا تخرج عن روحه ولبه، وهذا يتناقض بطبيعته مع كرامة الشعب، بل هو استخفاف به وبنهجه في الحياة؛ وبتراثه السياسي والاجتماعي الذي راكمه عبر قرون من الزمان في مسيرته الحياتية.

كما يلاحظ غياب السلطة بمعناها التنظيمي والخدماتي، حتى ترسخ في أذهان شريحة عريضة من المواطنين أن السلطة موازية للقهر والقوة فحسب وليس لها علاقة بالإصلاح والتنظيم بالمعنى الشمولي، وترتب على ذلك فوضى عارمة لا تخطئها عين المرء أينما حل، حتى غدا في الأقاليم مناطق شبه سائبة وعدالة مفقودة، وهنا تصبح القاعدة هي تدبير الفوضى في ظل فقدان النظام، وهو ما تجيده بامتياز كل الدول المتخلفة.

فالكرامة سياسيا لا تتأتى إلا بإيمان الفرد بأفكاره وتشبثه بمواقفه ودعوته إلى تطبيقها بحرية ومشاركته في الحكم والشورى من غير قهر ولا استبداد، فالكرامة روح الإبداع وجوهره؛ فلا إبداع في ظل الأسر والقهر أيا كان شكله ونوعه ماديا أو معنويا.

 الجانب الاقتصادي:

لا تزال فرنسا هي الممسكة بمفاصل الثروة في البلاد ابتداء باسم العملة ” الفرنك الفرنسي ” مع الدلالة السافرة للاسم على التبعية الاقتصادية، إذ أن كل عملة ترمز لسيادة دولة وإلى شعب معين بحيث يصبحان وجهان لعملة واحدة، فالشعب هو صاحب العملة والعملة ثروة الشعب، خذ لك مثلا: الدرهم والريال والدولار والين في نسبة تلك العملات إلى شعوب بعينها، وإضافة لذلك فهي تملك شركات الاتصال وتوتال وغيرهما ولها يد في كل صغيرة وكبيرة.

ثم إن إغراق السوق المحلية بالبضائع أو على الأصح الأغراض المستعملة التي تفرغها الحاويات القادمة من شمال البحر الأبيض المتوسط في منظر أشبه بتفريغ نفايات تملأ شوارع العاصمة في أحيائها الفقيرة، يجعل المرء يتساءل أين هي حماية السلطة للاقتصاد والحرص على ثروات الشعب وممتلكاته ودعم صغار المقاولين وكذا الصناعات التقليدية؟ وكل تقصير وإهمال وعدم مبالاة من المسؤولين مما يعود  بالضرر العاجل والآجل على الصناعات المحلية، ويزهد الناس في العمل اليدوي ويرفع من نسبة البطالة لدى فئة الشباب. 

وقد تولد عن سوء الأوضاع الاقتصادية توالي هجرات الشباب مع ما يصاحب رحلاتهم من مآسي الغرق والضياع في الصحارى والمعاناة الشاقة لمن وصل إلى ما يحسبه الفردوس المفقود .

وكذا انعدام بنية تحتية تساير تطور المجتمع والزيادة السكانية من جامعات ومدارس عليا ومستشفيات ومصانع وطرق سيارة وضمان كهرباء ومياه، وفك العزلة عن الأرياف النائية وتخطيط محكم للمجال الترابي الحضري من طرق وشوارع ومحلات سكنية وعمارات، على عكس ما نشاهده اليوم من أحياء عشوائية تشوه العمران وتنافي كل الأذواق السليمة، وكذا العجز عن توفير الحد الأدنى من الكفاف للعائلة السنغالية إلى غير ذلك من حاجيات المجتمع.

وقد نتج عن انعدام البنية التحتية حرمان الشعب من فرص ثمينة لتخفيف حدة الفقر المدقع الذي يعيشه غالبية السكان وصيانة الخزينة الوطنية من الاستنزاف باسم الديون، فبدلا من التعويل على الجبهة الداخلية يممت الدولة وجهها شطر البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية، حتى إن المرء ليصل إلى قناعة بأن الدولة لا تمول مشروعا بمفردها إلا بمساعدة ودعم جهة أجنبية.

وهل يليق بشرف شعب وكرامته أن تتوفر لديه مياه ـ أنهار وعيون وديان شواطئ ـ تحيط به من كل الجهات، و لديه أراضي زراعية شاسعة في طول البلاد وعرضها يعاني من سوء تغذية وانعدام أمن غدائي، في الوقت الذي تتساقط فيه بعض المحاصيل وتتعفن بسبب فقدان وسائل نقلها.

الجانب الاجتماعي:

بحكم أن الإنسان مدني بطبعة ولا بد له من جماعة يعيش بينها، فإن ذلك يقتضي وجود نظام يحفظ لكل حقه، ومن تلك الحقوق الاعتناء بالمحيط الاجتماعي والتخطيط الاستراتيجي للمدن وساحاتها وشوارعها والحفظ على نظافتها والقضاء على كل الروائح الكريهة والمناظر القبيحة، وهو ما يُمّكن للمدن أن تكون عونا على الصحة النفسية للمواطنين، ومحاربة كل أشكال الفوضى من الصخب والضجيج حتى ينعم الجميع بالأمن والراحة في بيوتهم وفي أماكنهم العمومية، وتسخير كل الطاقات لحفظ أرواح الناس وممتلكاتهم، وتتبع أوكار الفساد واقتلاعها من جذورها سعيا نحو التكريم تعاملا بالعدل والإحسان بين الناس.

لكن حصد أرواح لا حصر لها من النفوس البشرية على الطرقات “حرب الطرقات” بفعل حوادث السير الناتجة عن العجرفة في السياقة وقلة احترام الركاب، وما يصاحب قطاع النقل من تخبط وعشوائية يعيشها كل من يستقل النقل سواء الحضري أو بين المدن، كل ذلك مما ينافي الحفاظ على كرامة الآدميين.

الجانب الثقافي:

يكاد الشأن الثقافي أن يكون مقصورا على كل ما هو أجنبي، وحتى ما لدى المجتمع من موروث ثقافي ينظر إليه على أنه فولكلور شعبي لا يرقى إلى مستوى المنافسة والتسابق على الحلبات الدولية، وإنما يقدم للتسلية والترفيه فقط، أما طرح رؤى وتقديم بدائل فذلك ليس إلى الثقافات المحلية ولا من شغلها، كما يلاحظ هنا تهميش دور اللهجات الوطنية واستبدالها بلغة المستعمر، وطمس معالم اللغة العربية وكأنها لم تكن يوما الذاكرة الحية لهذا الشعب المجيد.

ناهيك عن التضليل الإعلامي الذي يتفنن في تزييف الأرقام وتلبيس الحقائق، وإغلاق القنوات الإعلامية أمام كل صوت لا يسبح بحمد السلطة والنظام الحاكم، كما هو واضح في النشرات الإخبارية الرسمية.

العلاقة مع الآخر:

هل يليق بدولة تؤدي دورا ملحوظا في حفظ السلم الدولي والإقليمي الاعتماد على التصنيع العسكري الخارجي من غير أن تزود نفسها بأدنى احتياجاتها العسكرية، بل هي مدعوة مثل غيرها من الأمم أن تجتهد في ميدان التنافس على الخير والعمل في كل الميادين.

لن تتحقق كرامة الآدمي إلا في ظل قيم حضارية تؤمن بتميز الإنسان وآدميته، من منطلق أنه مخلوق مكرم من الكريم وبناء عليه فهو يستحق كل مكرمة، وقدر الشعوب أن تتحرر من كل القيود، وكل ما عليها هو العمل من أجل أن تتأهل للتكريم: علما وأخلاقا وسلوكا، كما تقتضي كرامة الشعوب بناء عقول شبابها وتقوية السواعد ورعاية المواهب وتطوير المهارات وزرع الثقة وفسح المجال أمام الجميع، وتثمين المبادرات وتفجير الطاقات واستثمارها وتمجيد كل الأعمال الصالحة وتخليدها اعترافا بها، على أن تهميش الأمم وتجاهل قدراتها بل و محوها من الوجود بالتنكر لماضيها ولأعلامها ومواهبها هو نفسه الإذلال و الإهانة.

فإحياء قيم الكرامة ذاتها في كل زاوية وركن ابتداء بالنفس والجار وصولا إلى أعلى سلطة  بالبلاد، هو السبيل إلى النهضة والعمران، وتبقى كرامة الشعوب مسألة أخلاقية بمعناها الواسع رؤيتها للنور رهينة بعودة الأخلاق و النظام إلى الفضاء العمومي.

فكل سفينة بحاجة إلى ربان يقودها إلى بر الأمان وينجو بها وبركابها من أمواج البحر العاتية، فهل من ربان يتولى تلك المهمة مدركا أخطارها وعواقبها؟

(*) باحث في العلوم السياسية.

تعليق 1
  1. غير معروف يقول

    ما شاء الله، مقال جميل جزى الله خيرا الكاتب دكتور هارون باه على المقالة الجميلة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.