ظاهرة التكفير ــ خلل في المناهج أم في المفاهيم:

(*) محمد مصطفى جالو

في ظل الظروف العصيبة التي يعيشها المسلمون، يسعى الناس بمختلف مكوناتهم وتخصصاتهم إلى معرفة مكامن الخلل ومواطن المشكلة التي حلت بالأمة، ويحاولون تشخيص الأمراض التي أنهكت جسم الأمة، ومن ثَمَّ وصف العلاج المناسب لها، حتى تستعيد الأمة عافيتها وتتمكن من القيام بالأعباء المنوطة بعاتقها، وتلتحق بركب الأمم المتقدمة في شتى مناحي الحياة.

والناس في البحث عن تلك المشاكل وتقديم المقترحات التي يرونها ضامنة للخروج بالأمة من هذه المآزق والويلات مختلفون، فمنهم من هو خالص النية حسن القصد ينظر الأمور بعين الإنصاف لا بعين الجور، ومنهم من يستغل هذه الفرصة لإثارة النعرات الطائفية، وتصفية الحسابات مع الجماعات التي لا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، حيث إن الناظر يجد أن أمثال هؤلاء يحمَّلون كل المشاكل التي نزلت بالمسلمين على جماعة محددة أو شخص معين، ولذا أحيانا تجدهم ينادون إلى محو تلك الجماعات، أو فكر ذلك الشخص في الوجود، أو مصادرة مؤلفاته التي يزعمون أنها سبب لشيوع ظاهرة التكفير في الوقت الراهن، وهذه الفئة من الناس ينطبق عليهم قول الشاعر:

طبيب يداوي الناس وهو عليل.

ولا شك أن النظرة الجزئية لمشكلة العالم الإسلامي لا تزيد العالم الإسلامي إلا تأخرا ورجعية وتشتتا، بل هذه النظرية ينبغي أن تعتبر جزءا من المشاكل العويصة التي ينبغي البحث لها عن علاج.

ومن بين مشاكل العالم الإسلامي التي يتعرض لذكرها كثير من طلبة علم الشريعة بمختلف مشاربهم مشكلة: ظاهرة التكفير، فكثيرمنهم حين يتناول هذه المشكلة بالدراسة، يتناولها بمنظار طائفي أو جماعاتي، الأمر الذي يؤدي به إلى التوصل إلى نتائج هي بذاتها تزيد المشاكل تعقيدا؛ لأنه بذلك يكون قد وضع شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي في نقطة سوداء، ونادرا أن تجد من ينظر مشكلة ظاهرة التكفير بمنظار كلي يجمع  أطراف الموضوع وعقباته ليخرج بنتائج نزيهة وبناءة تساعد المسلمين على الخروج من هذه الظاهرة.

 والمقال جاء محتويا على هذه النقاط:

النقطة الأولى: خطورة تكفير المسلم بدون بينة.

النقطة الثانية: التفريق بين الحكم على الفعل بالكفر وبين تكفير المعين.

النقطة الثالثة: الحكم على شخص معين أو منهج مَا بأنه سبب لظاهرة التكفير المعاصر يحتاج إلى عدة أمور.

النقطة الرابعة: بيان أن أكثر أسباب ظاهرة التكفير منذ فجر تاريخ الأمة يعود إلى خلل في فهم النصوص، وتناولٍ جزئيٍ لها.

النقطة الأولى: خطورة تكفير المسلم بدون بينة:

يترتب على تكفير المسلم أحكام في غاية الخطورة ومنتهاها منها:

استباحة دمه وماله وعرضه، والتفريق بينه وبين زوجه، وحرمانه من دفنه في قبور المسلمين، إضافة إلى ذلك حبوط جميع عمله، وتخليده في النار إذا مات على ذلك، وتصنيفه في معسكر أعداء رب العالمين، وحكمٌ بهذه الخطورة ينبغي أن يتأنى فيه ولا يستعجل، وأن يكون ذلك موكولا إلى أهل العلم الراسخين، لا إلى كل من هبَّ ودبَّ.

ولخطورة التكفير وعظم أمره، نجد أن العلماء حينما يسمعون كلاما محتمِلا للكفر وغيره، فإنهم يحملونه على المحمل الذي لا يؤدي إلى تكفير قائله مادم ذلك ممكنا، كل ذلك لمعرفتهم الأحكام الكبيرة والخطيرة المترتبة على تكفير المسلم.

 النقطة الثانية: التفريق بين الحكم على الفعل بالكفر وبين تكفير المعين:

 قبل الحكم على منهج شخص ما أو كتابٍ ما، أنه سبب لانتشار ظاهرة التكفير، ينبغي التفرقة بين الحكم على الفعل بأنه كفر وبين تكفير المعين، فإن بينهما فرقا كبيرا وبونا شاسعا.

ليس الحكم حين تقول: من ترك الصلاة فهو كافر، كالحكم على شخص معين تاركٍ للصلاة بأنه كافر، فالأول عام ينصب على الفعل لا على شخص بعينه، بينما الثاني خاص ينصب على شخص معين، وعليه فحينما تجد في منهج شخص أو كتاب له لفظ الكفر أو الشرك فيجب عليك قبل الحكم عليه أن تضع هذه التفرقة نصب عينيك، حتى يكون حكمك أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الجور والظلم.

وللتفرقة بين الحكم على الفعل، وبين الحكم على الشخص صاغ العلماء قاعدة: ليس كل من وقع في الكفر، وقع الكفر عليه.

فقد يقع الشخص في الكفر، ويُحكم على الفعل بأنه كفر، لكنه لا يلزم من ذلك تكفيره، لوجود موانع التكفير.

وغالب من ينتقد مناهجَ بعض الجماعات الإسلامية، أو كتبَ بعض المؤلفين بأنها سبب لظاهرة التكفير يعود إلى هذا النوع، حيث إنهم يجدون كلاما في الكفر عاما فيحملونه على أنه تكفير لمعينين.

النقطة الثالثة: الحكم على شخص معين أو منهج مَا بأنه سبب لظاهرة التكفير المعاصر يحتاج إلى أمور:

كثير ممن يحكم على شخص معين، أو منهج مَا بأنه سبب لظاهرة التكفير يظن أنه بمجرد أن يتعرف على شيئ يسير من منهج جماعة ما، أو يمر مرورا عابرا على كتاب شخص معين أن ذلك يكفي في الحكم على ذلك المنهج أو ذلك الشخص بأنه أمُّ ظاهرة التكفير، ويزيد الطين بلة، والطنبور نغمة إذا كان يأخذ ذلك الحكم من عدو لذك المنهج والشخص.

وحتى يكون الحكم على منهج ما أو شخص معين بأنه سبب لذيوع ظاهرة التكفير حقا فإننا نحتاج إلى عدة أمور منها:

ــ الابتعاد عن الطائفية:

حين يكون الحاكم طرفا في النزاع فغالبا ما لا يصل إلى حكم عادل ومنصف، وهكذا شأن الطائفيين الذين يوزعون على من لا يعجبهم أحكاما مجانية، فالذي عنده مرض الطائفية لا يتورع حين يصدر الحكم، ولا يتقيد بالموضوعية فينظر الأمور بحيادية ليصل إلى نتيجة صحيحة، وفي طريقه للحكم على منهج معين، أو شخص معين بأنه أصل لظاهرة التكفير يجمع بين الغث والأغث، وبين المحتمل والمستحيل.

ومما يدل على أن للطائفية نصيب الأسد في بيان أسباب انتشار ظاهرة التكفير، أنك تجد في بلد ما كتب شخص معين محذرة فيه بحجة أنها سبب للتكفير، وفي بلد آخر تجد الكتب نفسها تعتبر رمزا للوسطية والاعتدال.

الالتزام بالقواعد التي تعصم الباحث من الوقوع في الخطأ:

وذلك بالرجوع إلى منهج الشخص ومؤلفاته كلها، والمقارنة بينها، ورد المحتمل إلى البين الذي لا يحتمل، كذلك عدم اعتبار الدلالة في مقابلة التصريح، ولا بد من الرجوع إلى أتباع ذلك المنهج أو الشخص، فإنهم أعرف بمنهجهم والشخص الذي ينتسبون إليه، كما لا ينبغي الحكم عليه بأنه سبب لاتنشار ظاهرة التكفير بناء على خطأ بعض أتباعه، وهل نحكم على القرآن ــ والعياذ بالله ـ بأنه سبب للتكفير بسبب سوء فهم الخوارج له كلا ثم كلا.

فلا ينقضي عجبي ممن يحكم على كتاب معين، أو شخص ما بأنه سبب لانتشار ظاهرة التكفير بناء على تصرفات بعض من يزعم أنه ينتسب إليه، في الوقت الذي يرى الأغلبية ممن قرأوا ذلك الكتاب، أو ينتسبون إلى ذلك الشخص ليسوا كذلك.

عدم الاكتفاء بنقولات المعادين لذلك المنهج أو الشخص:

إن كثيرا ممن يتناول مسألة ظاهرة التكفير والحكم على منهج معين، أو شخص معين بأنه مصدر التكفير تجدهم يكتفون في نقل الحكم بأقوال أشخاص معادين للمنهج أو الشخص، دون الرجوع إلى المنهج ذاته، أوالمؤلفات التي تعرضت لبيان ذلك المنهج أو فكر ذلك الشخص، وهذا حاجز كبير عن الوصول إلى الحقيقة.

فحين تتهم دعوة الشيخ محمد بن الوهاب رحمه الله مثلا على أنها مصدر التكفير معتمدا في ذلك على أقوال معاديه، ومتجاهلا أقوال من أثنوا على دعوته خيرا تكون قد أبعدت النجعة، واتخذت لنفسك طريقا في النقد معوجة لا توصلك إلى نتيجة منصفة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ويصدق هذا المثال أيضا على صاحب كتاب الظلال رحمه الله.

النقطة الرابعة: بيان أن أكثر أسباب ظاهرة التكفير منذ فجر تاريخ الأمة إلى هذا العصر يعود إلى خلل في فهم النصوص، وتناولٍ جزئيٍ لها:

لا يخفى على مسلم أن الجيل الذي يضرب به المثل في التدين وفهم الدين هو جيل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم خريجوا مدرسة أفضل المعلمين، وأحسن المربين صلى الله عليه وسلم، فهم الذين رووا عنه صلى الله عليه وسلم تلك الأدلة التي تحذر من تكفير المسلم بغير بينة، وعلى ذلك ربوا أبناءهم وطلابهم من التابعين، فحذوا حذوهم واقتفوا أثرهم، إلا أنه مع ذلك الفضل والفقه الدقيق لمسائل الدين، فقد وُجد في عصرهم من حاد عن طريقهم وتنكب عنها، واتخذ لنفسه منهجا في فهم الدين عليلا، بل انحرف انحرافا أدى به إلى تكفير الصحابة رضي الله عنهم، حيث إنه لم يسلم منهم كبار الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل الجنة.

ومن بين أولئك الذين انتهجوا منهج التكفير، والحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر الخوارجُ الذين نشأ منهجهم في عصر الصحابة رضي الله عنهم، والسؤال الذي يطرح نفسه هل الخوارج كانوا ضحية لمنهج يشجع على التكفير، أم كان عندهم خلل في فهم النصوص، بحيث يأخذونها أخذا جزئيا بعيدا عن ردها إلى الكليات.

هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال قصتهم مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، حين قبل تحكيم بعض الرجال في النزاع الذي كان بينه وبين خصومه؛ حقنا للدماء وحفاظا على وحدة جيشه.

 لما قبل علي رضي الله عنه ذلك التحكيم، ظهر الخوارج الذين كانوا في جيشه، ورموه بالخروج من الدين؛ رافعين كلمتهم المشهورة: لا حكم إلا لله، استدلالا بالآية ( إن الحكم إلا لله).

وقد ناقشهم ابن عباس رضي الله عنهما وحاجهم بما في كتاب الله من صور التحكيم؛ كالتحكيم بين الزوجين، وفي جزاء الصيد.

يرى المتأمل أن الخوارج في هذه القصة كفَّروا عليا رضي الله عنه، الذي يعتبر متربيا تحت كنف النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها، مستدلين على تكفيره بآية في كتاب الله عز وجل.

فإما أن يقال بأن سبب ذلك هو خلل في طريقة تناول القرآن للمسائل، أو يقال بأن عليا رضي الله عنه رباهم على منهج تكفيري، فلقي جزاء ذلك لما كفروه، وإما أن يقال بأن عند الخوارج خللا في فهم النصوص، وطريقة خاصة في تطبيقها أدى بهم إلى تكفير أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

أما الاحتمال الأول فلا يشك مسلم أنه غير صحيح، بل تصور ذلك يعتبر من الطعن في القرآن الذي يعتبر كفرا، أما الثاني فمستحيل أيضا؛ لأن عليا رضي الله عنه كان معروفا بدقة الفهم وسعة العقل، فكيف يربيهم على الكفر! وهو من تربية مَن حذر تكفير المسلم، فلم يبق من الاحتمالات الثلاثة إلا الأخير الذي يعود إلى أن سبب انتهاج الخوارج  منهج التكفير هو خلل يعود إلى سوء الفهم، وتناول جزئي للنصوص دون ردها إلى الكليات، واتباع للمتشابهات وترك للمحكمات.

ولله  در ابن عبد الله إذ يقول حفظه الله:

( فمن لم يحسن الفهم عن الله ورسوله فيما جاء من آيات أو من أحاديث، ولم يقف طويلا عندها دارسا فاحصا، متأملا متفقها، جامعا بين أولها وآخرها، وموفقا بين مثبتها ونافيها، ومقارنا بين خاصها وعامها، أو بين مطلقها ومقيدها، مؤمنا بها كلها، محسنا الظن بها جميعا، من لم يفعل ذلك فما أسرع ما تضل راحلته، ويعمي عليه طريقه، وتضيع منه غايته، فيشرق مرة ويغرب أخرى على غير بصيرة، ويخبط خبط عشواء في ليلة مظلمة.

وهذا هو الذي وقع فيه دعاة التكفير حديثا، ووقع فيه الخوارج قديما).

وخلاصة الأمر: فالنظرة الجزئية لأسباب ظاهرة التكفير، والبحث عنها من خلال منظار طائفي كثيرا ما يحول دون الوصول إلى نتائج دقيقة وحلول كفيلة لاستئصال هذا المرض الذي يعاني منه عالمنا الإسلامي، بل هذا المنهج المعوج والجائر يزيد العالم الإسلامي تشتتا وتفرقا.

والأسعد في تناول هذه الظاهرة بالدراسة والبحث عن حلول لها هو من تسلح بسلاح العدل والإنصاف، إضافة إلى ذلك تتبع تاريخ ظاهرة التكفير من قديم الزمان إلى الوقت الحاضر.

 

(*) باحث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.