الذاكرة والعنف قراءة سيكوسوسيولوجية في الأشكال والأبعاد

شيخ سيسي


إذا تم الإضفاء على الظاهرة الدينية صفة الأنثروبولوجية على أساس أنها لازمت الوجود البشري في جميع مراحله وأشكاله، فإنه بالطريقة نفسها يمكن الإضفاء على ظاهرة العنف صفة الأنثروبولوجية. لأنها لازمت الوجود البشري في جميع مراحله، ولا يمكن خلال تاريخ هذا الوجود تحديد مجتمع بدون عنف بغض النظر عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الظاهرة بين مجتمع وآخر.
هذا بالإضافة على الكم الهائل من الأدبيات السابقة التي أجريت حول ظاهرة العنف في مجال العلوم الاجتماعية الانسانية، والاهتمام البالغ المتزايد الذي يعيره الباحثون في هذه المجالات للظاهرة. الأمر الذي أعقب ظهور فروع دراسية في كل من السوسيولوجيا والسيكولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها تهتم بدراسة الظاهرة ومحاولة فهمها وتفسيرها باعتبارها مهددا فعليا للوجود البشري.
وعلى هذا المنطق تأتي هذه الورقة كإسهام في محاولة فهم الظاهرة وتفسيرها، في ربطها بالذاكرة كمفهوم مركزي في الدراسات الاجتماعية الحديثة والكلاسيكية.
ولإنجاز هذه المهمة فإننا نتخذ كإشكالية للورقة، الذاكرة كأليات تمثل الماضي واستحضاره وتأثيرها في العنف. أو بعبارة أخرى إلى أي حد يمكن اعتبار الذاكرة كمؤثر من مؤثرات الوقوع الفعلي لظاهرة العنف.
وسنعتمد كلا من المقاربة السيكولوجية والسوسيولوجية لتفسير الظاهرة تفسيرا نظريا، قبل أن نحاول ملامستها من خلال بعض الأدبيات الانسانية والاجتماعية مثل نص الفيلسوفة الألمانية “حنه أرندت” في كتابها المعنون ب” في العنف”، وذلك بتفكيكها ومقاربتها مقاربة نقدية والتفاعل معها بمقابلتها مع بعض النصوص ممن كتبوا حول الموضوع.
1-المفهوم السوسيولوجي للذاكرة:
إن الحديث عن تحديد مفهوم الذاكرة تحديدا سوسيولوجيا يحيلنا إلى استحضار كتابات السوسيولوجي الفرنسي موريس هالبواش” الذي يعتبر من الأوائل الذين أنجزوا دراسات حول هذا المفهوم.”
وفي دراساته حول الذاكرة وبالتحديد في كتابه “الذاكرة الجمعية” قام هالبواش بربط الذاكرة بالجماعة، وأنه لا يمكن الحديث عن الذاكرة خارج الجماعة، وأن الفرد لا يتذكر إلا في إطار جماعي وفي سياق سوسيوثقافي معين. وذهب إلى أن الفرد حتى وإن انعزل وانغمس في بحر الذكريات بمفرده فإن استحضاره لبعض الشخصيات في سيناريو الذاكرة يجعله يعيش داخل الجماعة بشكل غير مباشر، وإن كان يعتقد أنه يتذكر بمعزل عن جماعته .
بل أكثر من ذلك فإن هالبواش يذهب إلى أن الجماعة تؤسس هويته من خلال عودتها إلى ماضيها وتذكرها لهذا الماضي. وبالرغم من الانتقادات التي وجهت إلى هالبواش، فإن الدراسات التي قدمها في هذا الجانب تحتل مكانة مرجعية مهمة في الدراسات السوسيولوجية الحديثة حول الذاكرة.
ولبيان أهمية البعد الجماعي في التحليل الهالبواشي للذاكرة فإننا نستحضر تعريف محمد جبيدة للذاكرة، حيث يقول هذا الأخير:
“يحيل مفهوم الذاكرة إلى آليات تمثل الماضي واستحضاره، ومسارات تشكل هذا التمثل من الناحية الاجتماعية والثقافية “
إن مسارات تشكل هذا التمثل من الناحية الاجتماعية والثقافية هي ما يقصده هالبواش في أنه لا ذاكرة للفرد خارج جماعته، وأن ذكرياته التي تمثل له الواقع ويعطيه انطباعات عن المستقبل مرتبطة بالجماعة وإن كانت بشكل خيالي غير فعلي.
ومن هنا يمكن القول بأن الذاكرة هي ما تستحضره جماعة ما من ماضيها من أحداث ورموز وشخصيات، لاتخاذ موقف آني أو صناعة قرار يخص مسارهم المستقبلي. وغالبا ما تكون الذاكرة مقدسة عند أصحابها خاصة تلك التي ترتبط بالشخصيات والرموز، بعبارة أخرى تلك التي تشكل هوية الجماعة.
2-المفهوم السوسيولوجي للعنف:
كما سبق وأن ذكرنا بأن العنف يعتبر من الظواهر السوسيوأنثروبولوجية التي نالت اهتمام الدارسين والباحثين في العلوم الاجتماعية الانسانية بصفة عامة والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بصفة خاصة.
فإن هذا الاهتمام المتزايد بظاهرة العنف من طرف سوسيولوجيين وسيكولوجيين وأنثروبولوجيين هو كل ما أعقب تعدد الاتجاهات والمنطلقات النظرية التي أسهموا بها في تفسير العنف.
فمن جهة، هناك من يعطي للعنف تفسيرا نفسيا كسلوك انساني مرتبط بالعدوانية الطبيعية عند الإنسان، ومن جهة أخرى، هناك من يربطه بالقوة الدفاعية الكامنة في النفس البشرية حيث أن كل انسان عنيف وذلك في سبيل الدفاع عن نفسه. وكل اتجاه من الاتجاهات يجد لنفسه مبررات للتفسير الذي يعطيه لظاهرة العنف، خاصة أنها تعتمد مقاربات منهجية ومنطلقات فكرية مختلفة.
بالرغم من هذه الاختلافات على مستوى الآراء والمقاربات المنهجية بين علماء الاجتماع والسيكولوجيين في تفسير أسباب ودوافع العنف وأهدافه وانتشاره في المجتمعات البشرية، فإنهم يكادون يتفقون على أنه أي العنف:” ظاهرة اجتماعية وأنه آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تواجه الإنسان من أجل البقاء والاستمرار في الحياة، وأن هذه الآلية الدفاعية هي إحدى الطاقات الغريزية الكامنة في الكائن الحي التي تستيقظ وتنشط في حالات دفاعية أو هجومية، يستوي فيها الانسان والحيوان على حد سواء.”
وحينما نحاول تفكيك تعريف الحيدري للعنف فيمكننا التركيز على بعدين سببيين لظاهرة العنف وهي:
أ-حالات دفاعية: حيث يشير إلى أن القوة الغريزية لسلوك العنف تستيقظ وتنشط في سبيل الدفاع عن الذات.
ب_ حالات هجومية: هنا يكون الأمر أقرب إلى أن العنف محاولة وسعي إلى إلحاق الضرر على الآخر، بهدف السيطرة والقضاء عليه لأسباب تختلف من سياق إلى آخر.
كما أن ظاهرة العنف تتخذ شكلا فرديا أو جماعيا في كلا البعدين، لأنه كما يتعرض الفرد للخطر والتهديد فيباشر الدفاع عن ذاته فإن الجماعة كذلك تتعرض لخطر ما يهدد مصلحتها ويهدف تمزيق وحدتها، فهنا يتخذ الدفاع عن الذات شكلا جماعيا فينتج عنفا جماعيا، وينطبق هذا الأمر على البعد الهجومي للظاهرة.
3-الذاكرة والعنف:
إن من يقرأ بعض الأدبيات التي أنجزت حول ظاهرة العنف بمختلف أشكالها يدرك بشكل مباشر أو غير مباشر وجود ارتباط بين العنف والذاكرة، بل أكثر من ذلك فإن ملاحظة ظاهرة العنف في بعض المجتمعات البشرية بغض النظر عن نوع العنف (سياسي، عرقي، ديني،) تؤدي إلى ملامسة هذا الارتباط، وأن استرجاع الذاكرة يكون سببا فعليا في حدوث العنف في بعض الأحيان.
وسنحاول في هذا الجزء من ورقتنا ملامسة هذا الارتباط من خلال نص للفيلسوفة الألمانية “حنه أرندت” في كتابها ” في العنف”، قبل أن ننتقل إلى مراجعة بعض الأدبيات التي أنجزت حول الموضوع وقراءتها قراءات تفكيكية نقدية لإثبات موقفنا على وجود ترابط بين العنف والذاكرة.
تقول الكاتبة الألمانية ” حنه أرندت” في كتابها ” في العنف” ترجمة ابراهيم العريس: “منذا الذي، يا ترى، شكك يوما في أن الذي تعرض للعنف يحلم بالعنف، وأن المضطهد إنما يحلم بأن يجلس ولو ليوم واحد مكان ذاك الذي اضطهده، وأن الفقير يحلم بتملك ما لدى الغني، وأن المقموع يحلم بأن يلعب دور الصياد بدلا من أن يلعب دور الطريدة”
إن العنف الذي اشتغلت عليه الكاتبة الألمانية في كتابها هذا هو العنف السياسي بالدرجة الأولى، إلا أن تفكيك النص يؤدي إلى إثبات البعد التذكاري من أسباب العنف .
ولقراءة النص وإثبات هذا البعد المتعلق على الذاكرة من أسباب العنف نقدم مدخلين من المداخل التي يمكن من خلالها تفكيك النص والدخول فيه وهما، المدخل السيكولوجي والمدخل السوسيولوجي:
أ-المدخل السيكولوجي: إن في نص حنة بعد سيكولوجي يمكن ربطه بالأدبيات السيكولوجية في دراسة الانتقام وأسبابه، ونحن إذ نشير إلى ذلك على وعي تام بأن الانتقام ليس بالضرورة مؤديا إلى العنف، بل إن استرجاع الذاكرة واتخاذ موقف عنيف من خلالها يمكن تصنيفه من أشكال الانتقام. وهنا تظهر علاقة غير مباشرة بين العنف المنتج من الذاكرة والانتقام.
إن الانتقام كرغبة نفسية في مكافئة الآخر على ما سبق تلقيه من الأضرار نتاج التفاعل معه، أو ما سبق تلقيه من ظلم واضطهاد من الآخر، يتطلب على الدوام استحضار الذاكرة التي تتضمن هذا الجانب من الماضي. وبالتالي السعي إلى الحاق أضرار من نفس نوع ما تم تلقيه سابقا أو أكثر خطورة.
أضف إلى ذلك أن مفهوم الكبت السيكولوجي كمرض نفسي في أدبيات علم النفس يحيل إلى جوانب لا تبتعد كثيرا عمًا ذكرنا في الانتقام وما يترتب إليه من عنف، غير أن الكبت كمحاولة ابعاد النوع المؤلم من الذكريات أحيانا ينتج منه نوع آخر من العنف وهو العنف المبني على تعذيب الذات. ويفشل الفرد في ابعاد هذه الحوادث فيُحتمل أن يتخذ تعذيبه على ذاته نوعا آخر من العنف وهو الانتقام العنيف على محيطه.
ب-المدخل السوسيولوجي: إن منطق العلاقات الاجتماعية يحيل إلى وجود علاقة صراع مستمر بين المضطهد والمضطهَد، بين الذي مورس عليه العنف والذي مارس عليه العنف إلى غير ذلك من علاقات ديالكتيكية بين الأفراد والجماعات إثر تفاعلاتها العنيفة منها وغيرها.
وهذا ما يظهر في نص الفيلسوفة حيث تثبت على أن المتعرض للعنف يحلم بتعنيف الذي عنَفه وهنا تتشكل بينه وبين هذا الآخر علاقة جدلية تؤدي أحيانا إلى إعادة إنتاج سلوك العنف.
وغالبا ما تتخذ نوعية العلاقات الاجتماعية شكل السياق الذي بنيت هذه العلاقات فيه.
وفي دينامية هذا النوع من العلاقات استحضار واسترجاع لحوادث مضت وتشكلت ذاكرة تاريخية للفرد أو الجماعة، ويكون هذا الاستحضار والاسترجاع إما بهدف إعادة انتاج الحدث التاريخي بشكل أفضل للفرد أو الجماعة، أو بهدف استخلاص مواقف وقرارات تخص لحظة التذكر أو المستقبل. وتسفر هذه الدينامية العلائقية بالضرورة مظاهر عنيفة في المجتمع. بناء على قاعدة ” لئن كان الرابح هذا الطرف أو ذاك، فإن الصراع سيسفر عن نهاية الإثنين”
ويمكن تعزيز الموقف بما جاء في كتاب حميد بوزأرسلان، (قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط، ترجمة هدى مقنص، 2015،ص35) “لو أن الانسان فقط يتذكر ما حدث لما قامت حروب أخرى”
فكأن الكاتب هنا يشير إلى أن للذاكرة قوة مرغمة على إعادة إنتاج العنف، حيث يمكن الاستدلال على ما قاله من أن الذاكرة ليست فقط عملية تذكر ما حدث بل تشمل التفكير فيه والسعي إلى خلق طرق أخرى لإعادة إنتاج هذا الماضي المؤلم بشكل يرتاح له البال. ويمكن إلحاق هذا إلى العنف المضاد، إذ أن هذا النوع من العنف نتاج لعنف قبله بصرف النظر عن المدة الزمنية التي تفصل بين الحدث الأول وإعادة إنتاجه.

خاتمة
إن ارتباط العنف بالذاكرة في بعض الأحيان يحيل بشكل مباشر إلى كون هذا النوع من العنف عنفا مضادا، يكون نتاج عنف مسبق أو ضرر تم الحاقه على الفرد أو الجماعة مسبقا. كما أنه لا يمكن الحديث عن ترابط ظاهرة العنف بالذاكرة إلا بالإشارة إلى البعد السيكولوجي حيث أن الذي مورس عليه العنف يبقى مرتبطا سيكولوجيا بحدث يرغب في إعادة انتاجه بشكل أفضل مما حدث عليه مسبقا.
وفي ربط رغبته بإعادة انتاج الحدث الاجتماعي العنيف بشكل أفضل، إحالة إلى البعد السوسيولوجي، إذ أن الفرد أو الجماعة يسعى أو تسعى وراء استبدال الحدث التاريخي بشيء يخلق له ولجماعته مكانة اجتماعية يتميز فيها بشعوره داخل جماعته الاجتماعية بالقيمة والتمايز. وهنا يكمن ترابط آخر بين الانتقام كمفهوم سيكولوجي وبين العنف الناتج عن الذاكرة كآلية استحضار الماضي وتمثله.

المصادر والمراجع:
الحيدري إبراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، (بيروت، دار الساقي)،2015.
بوزأرسلان حميد، قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط، ترجمة هدى مقنص،(بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2015)
أرندت حنة، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، (بيروت، دار الساقي،2015).
مجلة يتفكرون، العدد (4) (صيف 2014).
هالبواش موريس، الذاكرة الجمعية، ترجمة د.نسرين الزهر،(دمشق، بيت المواطن للنشر والتوزيع، 2016).
حميد بوزأرسلان، (قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط، ترجمة هدى مقنص، 2015

تعليق 1
  1. Mouhamadou fadal dramé يقول

    ما شاء الله صديقي بالتوفيق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.