الخطاب الدينيّ السنغاليّ.. المسؤوليّة الضائعة

محمد بشير جوب

يمكن اعتبار الخطاب في عمومه بمثابة وعاءٍ يحوي المرتكزات الأساسية والثانوية لمقتضيات فكرٍأو قضيّةٍ معيّنةٍ، وهو -الخطاب- يُعبّر عن الملامح الكلية والجزئية للفكر أو القضية المحتضَنة. ويحاول تحويل الفكر إلى همٍّ مُغيّىً بغاية محددةٍ؛ بقصد التأثير في سلوك المتلقي. ولا يخلو أيُّ مجتمع من وجود خطاباتٍ ذات مرجعياتٍ مختلفةٍ، تتوزّع في المجالات الأكثر حيوية في حركة المجتمع، أو تتوزّع حسب التوزع النخبوي المجتمعي.

 فنجد مثلا الخطاب السياسي لأصحاب الميولات السياسية، والخطاب الديني للمهتمين بالقضايا الدينية – وهو موضوع حديثنا هنا- أو خطاباتٍ تخصّ مجالات أخرى تُصنّف حسب المرجعية أوالمرسِل.

يخصنا في هذا المقام الخطاب الديني السنغالي – وبالأحرى الدين الإسلامي- نظراً لأمرين مهمين. أولهما: خطورة الدين في حياة كل المجتمعات. ثانيهما: المكانة التي يحظى بها الدين وأهله في حياة المجتمع السنغالي منذ تاريخ طويل.

السياق والدواعي

كل مجتمعٍ بشريٍّ عرضةٌ لتقلّباتٍ بعضها قسريٌّ تستوجبه سنة الحياة وبعضها كسبيٌّ يكون نتيجة تدخّلٍ بشريٍّ، ولا يختلف اثنان في أن المجتمع السنغالي مر على مراحل حاسمةٍ في تاريخه، وفي كل مرحلةٍ من تلك المراحل يكون للدين دور حاسمٌ فيها.

وبعد أن تلقت فطرة الشعب السنغالي –بأغلبيته- الدين الإسلامي بالقبول، أتبع ذلك بتخصيص حيِّزٍ كبيرٍ له في حياته العامة. ومنذ ذلك الحين حظي الخطاب الديني قداسةً نسبيةً من المتلقي؛ ما أكسبه مصداقية فرضت على عموم أفراد الشعب الإذعان له.

وفي وقت تعجُّ فيه الأسماعَ أمثالٌ شعبيةٌ تصنّف الخطاب فاقد القيمة بـ “الكلام السياسي” ويرميه في سلة المهملات، يجد فيه حامل لقب “الأستاذ” او “إمام الحي” أو “الشيخ” درجةً قصوى من الاحترام والتبجيل من شتى أطياف المجتمع، وذلك بفضل الملمح الديني الذي يتقمَّصُه حامل ذاك اللّقب.

يفرض هذا الإذعان والقبول الذي اكتسبه الرجل الديني مسؤوليةً تاريخيةً ودينيةً ومجتمعيةً عليه. فتستوجب المسؤولية التاريخية الحفاظ على الخطّ المستقيم الذي تبناه الخطاب الديني السنغالي منذ تاريخٍ ضاربٍ في الجذور. وتستوجب المسؤولية الدينية الذود عن الدين أصولا وفروعا والتمكين له في الحياة العامة. بينما المسؤولية المجتمعية تقتضي توظيف الخطاب الديني في كل ما من شأنه أن يصلح المجتمع ويضمن حياة الأفراد بكرامة.

واقعٌ يكشف عن المرير

الإسلام دينٌ شموليٌ، ويكاد ينفرد بهذه الخاصية من ضمن سائر الأديان الأخرى، ولذلك يُتوقع من الخطاب الذي يتخذ من الإسلام مرجعاً له أن يكون شاملاً مراعاة لدواعي هذه الخاصية، حاملاً معه الهمّ المجتمعي، وعاملاً على إيجاد حلول ناجعةٍ للمشكلة الاجتماعية. والخطاب الخاوي عن الهمّ المجتمعي وحل مشكلاته اسمٌ بلا مسمىًّ، وأشبه ما يكون إلى خطابٍ مجرّدٍ عن المحتوى.

ومن خلال الملاحظة الدقيقة نكشف أن الخطاب الديني السنغالي تعتريه عيوبٌ جعلته يفقد الفاعلية، وصار مستواه يتراجع شيئاً فشيئاً ليكون على درجةٍ واحدةٍ  مع الخطابات الأخرى؛ أو دونه في التأثير على المتلقي. أوهو بالتعبير الأدقّ خطاب ضاعت عنه المسؤولية. ونحاول في سطور الكشف عن مظاهر هذا الخطاب المليء بالمعاناة.

الرُوتِينِيةُ:

الخطاب الديني السنغالي – جزء كبير منه – خطاب روتينيٌّ، وهذا جعله خطاباً منفصماً عن الواقع؛ وهو أشبه ما يكون أوراداً تُرتَّل بتكرار في المناسبات التي تعقد دوريا بين الفينة والأخرى. فلا يرقى إلى مستوى الحدث التاريخي الذي يتزامن معه، ولا إلى مستوى هموم المجتمع أفراداً وجماعاتٍ. ولاينمُّ ذلك عن قصدٍ ممن هم في الصف الأول من حاملي هذا الخطاب – في نظري – وإنما ينمُّ عن بعدهم عن واقع الناس، وذلك بحكم  موقعهم الاجتماعي الذي لا يجعلهم قادرين على الاطلاع على حياة عامة الناس.

ومهما يكن من سببٍ فلا يمكن تبرير هذه الظاهرة بأي حالٍ من الأحوال؛ حيث المسؤولية التاريخية والدينية والمجتمعية تستلزم كلها تخصيص الخطاب الديني حيزاً واسعاً للقضايا المستجدَّة في واقع الناس.

غيابُ التناسق:

إذا كان الغرض الأساسي في الخطاب الديني هو التأثير في المتلقي وتعديل سلوكه وصولاً إلى حل مشكلةٍ معينةٍ، فإن هذا الخطاب لا يكون له أثره الفعلي إلا إذاكان متناسقاً في بُعده الأفقي والعمودي. فالتناسق الأفقي يقتتضي اتساق الخطاب مع الذات، وهذا ما يفتقده الخطاب الديني السنغالي في أغلبه؛ بسبب خللٍ موجودٍ في ذات المرسل. فكم من مرسِلٍ لخطاب ديني ولسان حال المتلقي يتبرأ من أفعالٍ أو أقوالٍ يقترفه المرسِل بذاته؛ أو من ينتسب إليه تجرؤاً على تعاليم الدين وقيم المجتمع؟ وهو – مرسِل الخطاب- ساكتٌ عن ذلك بلا مبررٍ شرعيٍّ أو عقليٍّ. وقديماً قالوا “من كان بيته من زجاجٍ فلا يرمي الناس بالحجارة”.

  والتناسق العمودي يقتضي استيعابية الخطاب وعموميته لكافة المتلقين؛ مع الاستمرارية والآنية. لأن من سمات المشكلة المجتمعية أنها مستجدةٌ وتحتاج إلى تدخلٍ فوريٍّ، ومع الأسف الشديد في الوقت الذي يتفشى فيها بعض الظواهر التي تقضي تدخلاً فورياً لا تأتي ردة الفعل من الخطاب الديني إلا متأخرة وتفقد الكثير من قيمتها.

التحييد المزدوج:

مما أفقد الخطاب الديني السنغالي مفعوله السحري في خدمة وإصلاح المجتمع، وتجاوز التحديات المستجدّة كونه محيَّداً – إلى حدٍّ كبيرٍ- عن القضايا التي تربطها عرى وثيقة بحياة الناس. فالتحييد الأول نتج عن تحييد الدين عن الدولة والذي يعطي نتيجةً اعتباريةً مفادها تحييد الخطاب الديني عن جزء مهمّ وأصيلٍ من حياة الناس وهي السياسة. فغياب العدالة والفساد المالي والفساد في الحكم والتعدّي على حقوق الناس يعتبرُكلّها أمورا سياسية لا دخل للخطاب الديني فيها وفق هذا التحييد، وهذا ادعاء فاسد الاعتبار.

أم التحييد الثاني فينمُّ عن الفكر الصوفي المؤول خطأً من قبل النسبة التي تمثل الثقل الصوفي السنغالي، والذي بكل بساطة يعني تحييد الخطاب الديني عن الشأن السياسي وأخلاق السياسيين. وفي ذلك تغييب أثر هذا الخطاب عن قسمٍ كبيرٍ من المجتمع ممن يفترض أن يكونوا موضوعاً له.

التهريج المعمد:

تمثل هذه الظاهرة فئةٌ تستثمر بالخطاب الديني، وتدعي هذه الفئة الانتساب إلى حاملي راية الخطاب الديني. واستطاعت أن تُلبس خطابها ثوب الدين، وكثيرا ما أضرت هذه الفئة بالخطاب الديني السنغالي. حيث استطاعت أن تجد لنفسها منصة تجعلها قادرة على الوصول إلى جزء كبير من الجمهور المتلقي. ولا تكتفي هذه الفئة بتبني خطاب هابط؛ بل تعمل عمدا على تلويث الخطاب الديني الصحيح ومحاولة تغييب أثره.

خاتمة لا يخفى على ذي بصيرة ما للخطاب الديني من مكانة مهمة في قلوب المتلقين، كما لايخفى على ذي لبٍّ مدى الاحتياج الشديد إلى دور هذا الخطاب الديني في المجتمع السنغالي. وعليه فالضرورة تقتضي إلى النهوض بهذا الخطاب وتعلية شأنه من خلال تجريده من العيوب التي تثقله، ثم اعتباره ثغرة من الثغور التي قد يأتي من خلاله ما يهدم تعاليم الدين وقيم المجتمع. فنكون بذلك ضيعنا المسؤولية وأفقدنا الخطاب الديني قيمته وأثره في المجتمع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.