وجهة نظر في أعقاب المؤتمرين غروزني والكويت
(*)عبد الله بن عمر آج السنغالي
إن السياق التاريخي والوعاء الزمني الذي يرد فيه الحدث لذو أهمية بالغة في تحليل الحدث وتفسيره وتقييمه، ولذا كان الاهتمامُ بهذا السياق التاريخي والوعاء الزمني لإيقاع الحدث جزءاً من الاهتمام بالحدثِ نفسِه في صناعته، وفي صيانته عن تأويل غير مقصود ، وبذلك يمكن فهمه وتفسيره وتحليله على وجهه الصحيح، وبشكله المطلوب على ضوء خلفياته الحقيقية.
وقد يكون الحدثُ عظيما، والعملُ جليلا، غير أنه افتقد هذا العنصر الأساس في تقييمه، والذي هو السياق التاريخي ،والوعاء الزمني له ، فافتقد تبعا لذلك تقديره الحقيقي، وقيمته اللائقة به ، من أجل غياب هذا العنصر الجليل .
والعكس أيضا صحيح ، وهو أن يكون الحدثُ قليلَ الشأن، والعملُ ضئيلَ القدر، لكنه وقع في زمانه ومكانه المناسبين، أو في وقت اشتدت فيه الحاجة إليه، فاكتسب بذلك تقديرا وتوفيقا عظيما، وقديما قال العرب (لكل مقام مقال) وهذا يعم الأقوال والأفعال .
أقدم بين يديك ـ أيها القارئ الكريم ـ هذه المقدمة اليسيرة كي أشكوَ بثي وحزني إلى الله قائلا :
كم حَيَّرَني وحَيَّرَ الكثيرَ من المسلمين قيامُ مؤتمرات -يرأسها علماء وقادة ودعاة من وجهاء الأمة وزعمائها- تنهش في جسم العالم الإسلامي الذي كله قروح وجروح، لتُقَطِّعَ أعضاء، وتُمَزِّقَ أشلاء ، وتمارس تفريقا وتصنيفا وإقصاء، حتى كادت تقضي على هذا الجسم العليل، الذي باتت حاجته إلى طبيب رحيم، لا إلى عذاب أليم.
إن هذه المؤتمرات ـ بقصد أو بغير قصد ـ من شأنها أن توسع دائرة الفرقة، في ساعة العسرة التي تحتاج فيها الأمة إلى إعداد القوة، وبناء القدرة، واتحاد اللحمة ، من أجل مناصرة قضاياها في مشارق الأرض ومغاربها.
كان الأولى بعلمائنا ـ حفظهم الله ورعاهم ـ أن يأتمروا لقضايا أهم وأجدى في الوقت الراهن من إثارة الحروب الكلامية، والمشاحنات الاصطلاحية، التي نشأت منذ أمد بعيد، ودامت عدة قرون ، والتي عفا عليها الزمان وأكل منها الدهر وشرب، إنها خلافات يكفي في الرد على من أثارها تلك الجملة المختصرة “مضى الإنكار ومضى الجواب “
كان بودي أن تظل هذه المسائل تُنَاقَشُ في قاعات المحاضرات، وفي مجالس العلم بين الدارسين والمدرسين ، أما أن تعرض هكذا علنا على العالم، وتجعل كقضية ذات أهمية إلى هذه الدرجة، في هذه الظروف الحالكة، يتأسف عليها المسلمون الأحباء، ويتفرج عليها الأعداء الألداء، فلاحول ولاقوة إلا بالله .
ماالمصلحة المتحققة أو المتوهمة وراء هذه المؤتمرات التي لاتزيد الأمة إلا انهزاما نفسيا، وانقساما حقيقيا في صفوفها.
لئن كنا قد رأينا أن الصواب قد جانب أصحاب المؤتمر الأول ؛ لوقوعه في غير محله، ومن غير أهله، ففيم يجاريهم أصحاب المؤتمر الآخر ، زاعمين التصحيح والتقويم، فنحن نرى أنهم وقعوا في الفخ نفسه، وعملوا نفس ماعمل الآخرون.
ألا يكفي رِدَّةَ فعل للأولين تلك الضجةُ الكبيرةُ من الردود التي عمَّتْ وطَمَّتْ جميعَ وسائل التواصل الاجتماعي من جميع الجهات، من المقالات، والقصائد، والتغريدات، والبيانات التي أنكرت فعل الأولين ، ونددت بصنيعهم ،وَأَنَّبَت وعَنَّفَتْ ببيانهم الختامي أشد تعنيف وتأنيب، كان ذلك القدرُ من الردود كافيا لولا أننا مبتلون بطول النفس في الخلافات التي تفرق أكثر مما تجمع، وتؤذي أكثر مما تجدي.
هب أن الحق مع أُولَى الطائفتين أَوْ أُخْرَاهُمَا فهل يستغني سلفي الأمة عن صوفيها أو أشعريها عن ماتريديها في قضاياها الملحة والمشتركة اليوم ، وفي جمع الكلمة، الأمر الذي أجمعت الأمة كلها على أنه عنصر أساس للرجوع بها إلى سيرتها الأولى، واستعادة مجدها المفقود ؟
لا والله ، لايستغني أحدهما عن الآخر بحال من الأحوال ، ثم إنه أليس مايجمعنا من كلمة التوحيد، و أصول الاعتقاد والعمل، أعظم وأجل مما يفرقنا من المسائل، فلم تغليب هذا القدر الأقل على ذاك القدر الأجل ؟
وهب أن الملايين التي أنفقت في المُؤْتَمَرَيْنِ جُمِعَتْ في صالح القضايا العامة، مثلا ، لمساعدة الفقراء والمساكين، أو علاج المرضى المحتاجين، أو دعم السوريين اللاجئين وأمثالهم ، ألا يكون ذلك أولى وأجدر من تعميق جذور الخلاف، وتحرير أصول النزاع، وبعث دواعي الشقاق من جديد .
ولك أن تتصور كيف ستكون الفائدةُ حينئذ عظيمةً وعميمةً، وستجد من بين المستفيدين السلفيَّ والأشعريَّ والماتريديَّ والصوفيَّ جميعا.
وهب أن المُؤْتمَرَيْنِ أقيما فعلا، لكن في محاولة التقريب بين طوائف أهل السنة ليصبحوا يدا واحدة في مقابل الشيعة، والخطر الإيراني الداهم خصوصا، الذي تذاءبت رياحه من كل جانب ، وانتشر وباؤه في كل مكان ، وفي مواجهة الغرب العدو اللدود عموما.
وقد سمعت أحد مشايخنا ـ حفظه الله ـ في مؤتمر جماعة أنصار السنة في السودان يقول كلمة عظيمة، مفادها أن المسلمين جميعا سلفيَّهم وصوفيَّهم ينبغي أن يجتمعوا في سلة لينجحوا في مواجهتهم للشيعة التي عمت بلاويها جميع البلاد.
قلت : وهذا هو فِقْهُ الْأوْلَى في الوقت الراهن الذي ينبغي أن يلزمه حملةُ المشروع الإصلاحي ، وهو تفعيل القاعدة المنارية المشهورة، وما أعظمَها، والموازنة بين المصالح والمفاسد بعيدا عن التعصب لفئة أو جماعة.
ومن ثم فإنه لافرق عندي بين هؤلاء وأولئك وبين هذا وذاك اللهم إلا فضل السبق الذي بُلِيَ به الأولون، وسلم منه الآخرون ـ والله يسلمنا ـ وإلا فهم في النتيجة سواء .
ولهذا أقول : فلينتصر من شاء أن ينتصر من المُؤْتَمِرِينَ، فإن الخاسر في النهاية هو الجماعة المسلمة. ولك أن تتصور حَجْمَ وَقِيمَةَ هذا الانتصارِ الذي يَجُرُّ معه خسارةً تَعُودُ أضْرَارُها على الجميع ، والله المستعان .
مع كل ماسبق فإنا نُكِنُّ لعلمائنا جميعا خالصَ المحبة والاحترام والتقدير، ونحسب فيهم صلاحَ النية، وسلامةَ الطوية، ونسأل الله أن يجعل جهودهم في ميزان حسناتهم . ونقول ليت مؤتمراتهم هذه تناولت مثل ماتناوله المؤتمر المنعقد في نواكشوط عاصمة موريتانيا في هذا الأسبوع ( مؤتمر القدس )من الموضوعات التي تمس قضايانا الجامعة المانعة، لا الممزقة المفرقة.
وأنوه هنا إلى أني لا أقصد الطعن في فرد أو جماعة، ولا النيل من فلان أو علان ، وإنما هو بيان وجهة نظر لفرد من أفراد المسلمين، يحسب أن ذلك من حقه ، فإن أصبت فذلك فضل الله المأمول ، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ، وحسبي الله ونعم الوكيل .
بتاريخ : الاثنين 14/ نوفمبر/ 2016م