هل ستقضي مؤسسة “معارف” على مدارس “غولن” المنتشرة في دول العالم؟
(*) محمد بشير جوب
بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في 15 تموز الماضي، واجهت الحكومة التركية جماعة “الخدمة” ومؤسسها فتح الله غولن بكل الوسائل المتاحة، شملت هذه المواجهة الصعيدين الداخلي والخارجي، كما شملت عدة مجالات حيوية اعتبرها المسؤولون الأتراك مخترقة من قبل الجماعة، إلا أن الجانب التربوي كان له نصيب الأسد من هذه المواجهات، وحظي بقرارات عدة أعادت هيكلة النظام التعليمي التركي، فكان من ضمن 2341 مؤسسة تم إغلاقها بمراسيم رئاسية نحو 934 مدرسة خاصة إضافة إلى 15 جامعة خاصة كانت تابعة للجماعة، هذا غير المدرسين والأساتذة الجامعيين والعمداء الموقوفين أو المفصولين ممن اتهموا أو ثبت تورطهم في هذه المحاولة الانقلابية الآثمة.
وفي مقابل ذلك لم تقتصر الجهود التركية على الداخل فحسب، بل تعدّته لتشمل المدارس والمراكز والمؤسسات المتعددة التابعة للجماعة، التي توجد في كثير من دول العالم، تشير التقديرات إلى أن جماعة غولن تملك حوالي 3 آلاف مؤسسة تعليمية في 170 دولة في العالم، معظم هذه المدارس نشأت في آسيا الوسطى والقوقاز بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في أوائل 1990م وبدأت تجتاح الدول الإفريقية في التسعينات، وهي مؤسسات وجدت قبولا ونفوذا في أكثر من دولة.
وفور حدوث المحاولة الانقلابية بدأت تركيا تطالب بعضا من هذه الدول بإغلاق هذه المدارس والمؤسسات، وجدت هذه الطلبات قبولا في بعض الدول، في حين لم تستجب بعض الدول لطلبات تركيا، رغم بعض الضغوطات التي مارستها عليهم، وفي خطوة جديدة لا تنفصل عن الخطوات السابقة، قامت السلطات التركية بتفعيل مؤسسة معارف من خلال أول اجتماع عقده وزير التربية والتعليم التركي في أيلول الماضي مع مجلس أمناء هذه المؤسسة.
الممثل الجديد لتركيا في الخارج
“اعتمادا على القيم والمعارف الإنسانية المشتركة تهدف مؤسسة المعارف إلى تقديم وتطوير خدمات التعليم والتدريب في الخارج والداخل، من خلال فتح المدارس والمؤسسات التعليمية، وتقديم المنح الدراسية للتعليم الجامعي، وتهيئة المرافق التعليمية كالسكن، مع الأخذ بعين الاعتبار رفع كفاءة المعلمين وتطوير البحوث العلمية والمنشورات”
بهذه العبارات حدد المرسوم الرئاسي التركي رقم 6721 الصادر في 17 حزيران 2016م، هوية وهدف مؤسسة “معارف” التي تتخذ من إسطنبول مقرا لها، وبهذا تكون هذه الهيئة الممثل الرسمي لتركيا كدولة في الخارج في مجال التعليم، وأخذت هذه المؤسسة أهميتها الخاصة بعد تعرض تركيا للمحاولة الانقلابية، وهي تمثل في الوقت ذاته ورقة ووسيلة قوية للتصدي لمدارس غولن التي فرضت نفسها طيلة عقدين من الزمن ممثلا رسميا للدولة التركية في الخارج في مجال التعليم.
ولذا لم يتردد المسؤولون الأتراك في تفعيل هذه المؤسسة لتحقيق هدفين أساسيين، أولهما يظهر من خلال التصريح الذي ورد على لسان رئيس المؤسسة “بيرولأكغون” في مقابلة أجراها مع أحد الصحفيين حيث قال إن للمؤسسة “الحق في تمثيل تركيا في مجال التعليم في جميع أنحاء العالم” أما الهدف الثاني فيتجلى من خلال التصريح الذي ورد على لسان السيد رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” في اجتماع خاص جمعه بأعضاء مؤسسة “معارف” حيث أعطاهم توجيها قائلا: “ستنتشرون في 193 دولة في العالم، مع إعطاء الأولوية للدول التي فيها مدارس غولن، ولا تسمحوا بإطلاق مصطلح “المدارس التركية” على المدارس التابعة لغولن”.
ربما لم يتم تفعيل مؤسسة “معارف” لتحقيق هذين الهدفين فحسب، ولكنها أيضا ستضاف إلى الخطوات العملية التي اتخذتها الحكومة التركية منذ الوهلة الأولى بعد 15 تموز، سعيا إلى استئصال المدارس التابعة لـغولن في العالم، سواء من حيث كون المؤسسة وسيلة مناسبة لسد الفراغ الذي ستخلّفه قرارات إغلاق بعض المدارس في بعض الدول التي استجابت للطلب التركي، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبارها مقترحا وبديلا سيحل مكان المدارس المطلوب إغلاقها في تلك الدول التي ما زالت تتجاهل الضغط التركي، وليس من المستبعد أن تقتنع بعض الدول بعد هذا الإجراء، وهذا ما راعته السلطات التركية في صياغة شكل هذه المؤسسة، فلم يجعلوا “معارف” تتبع مباشرة لوزارة التربية التركية، بل جعلوها أوسع من ذلك لتكون أقدر على التكيف مع قوانين الدول التي ستتعامل معها.
المؤسسة الجديدة والفرص المتاحة
أصبح التعليم وسيلة دبلوماسية ناعمة تتخذها كثير من دول العالم فرصة لتصدير ثقافتها وتقدمّها للآخرين، وتركيا من الدول التي انتبهت لهذا الأمر، وفي هذا الإطار جاء إنشاء وتفعيل هذه المؤسسة، ولأسباب عدة يمكن لتركيا أن تنجح في هذا المجال كالآخرين، باستخدام الوسائل المناسبة وحسن توظيفها في الأماكن المستهدفة، أما المعضلة في الأمر والسؤال المطروح هو، مدى قدرة هذه المؤسسة على منافسة المؤسسات والمدارس التابعة لغولن، فقد عملت حركة الخدمة لأكثر من عقدين في قطاع التعليم، واكتسبت بذلك خبرة طويلة، واندمجت مع المجتمعات الآسيوية والأفريقية، وجذبت أبناء الصفوة في الدول التي تعمل فيها، وزاوجت بين العمل التعليمي والخدمات الإنسانية، ما جعل هذه المدارس تكسب ثقة المواطنين، ودعم حكوماتهم لها.
وعملا لإزالة هذا التحدي، أكد رئيس المؤسسة “بيرول أكغون” امتثال المؤسسة للمعايير والاتجاهات الدولية في قطاع التعليم، وأن 80% من المدرسين في هذه المدارس سيكونون من جنسية الدولة المضيفة، مضيفا إلى أن هدفهم الرئيس هو تقديم خدمات متميزة، وأن تكون المؤسسة قادرة على تمويل نفسها، ولذا سيكون على المؤسسة البحث عن الهبات ومصادر مالية أخرى، وفي هذا الصدد أعطى الرئيس رجب طيب أردوغان أوامر مباشرة إلى كل من رئاسة وكالة التعاون والتنسيق التركي (TIKA)، ومعهد يونس إمرة الثقافي، ورئاسة مؤسسة الأتراك في الخارج والمجتمعات ذات الصلة (YTB)، ووزارة الشؤون الدينية، بدعم مؤسسة معارف في جميع فعالياتها.
ولم تتأخر كثيرا ردة فعل بعض المؤسسات الناشطة في مجال التعليم تجاه هذا المقترح التركي، فلقد أصدر المسؤول الأول لمنظمة (CSACEFA) “تحالف المجتمع المدني لتوفير التعليم للجميع” – وهي منظمة أنشئت عام 2000م بتحالف 40 منظمة غير حكومية في أفريقيا، في قمة أقيمت في العاصمة السنغالية دكار وتضم الآن 600 منظمة مدنية في مجال التعليم- أصدر تصريحا رفض فيه هذا التوجه، واعتبره مؤامرة من قبل الحكومة التركية للتضييق على المدارس التابعة لغولن، معتبرا أن هذه المدارس تسهم في تطوير مستوى التعليم النيجيري وفي الدول الإفريقية الأخرى.
الفرصة الأخيرة لدحر تنظيم “غولن”
بعد ليلة 15 تموز واتهام جماعة الخدمة مباشرة بالتورط في هذه المحاولة صعّدت تركيا حملتها الدبلوماسية لإغلاق مؤسسات غولن ووجدت استجابة من بعض الدول مثل الأردن التي أغلقت مدرسة للحركة، وأذربيجان والسودان٬ وليبيا والصومال وغامبيا، وأعلنت باكستان أنها ستدرس وضع 24 مؤسسة تعليمية تابعة لغولن؛ كما وعدت كازاخستان بالنظر في الأمر خلال زيارة رئيسها لتركيا؛ بينما وعدت نيجيريا بدراسة أمر إغلاق هذه المدارس التي تعمل بها منذ أكثر من 20 عاما.
وفي مقابل ذلك ما تزال معظم الدول ترفض أو تماطل إزاء الطلب التركي، متهمين إياها بمحاولة التدخل في شؤونهم الداخلية، إضافة إلى أن الخدمة التي تقدمها هذه المدارس تستفيد منها شريحة واسعة من مجتمعات هذه الدول، الأمر الذي يجعل أمر الإغلاق معقدا، إلا أنه مع تفعيل هذه المؤسسة لم يعد هناك مبرر مقنع، فالمسألة في نظر تركيا ليست سياسية بحتة، فتركيا تتعامل مع المسألة على أساس أنها مسألة أمنية، وتدخل في إطار حماية أمنها القومي، وخاصة بعد أن صارت جماعة غولن مصنفة كجماعة إرهابية حسب القانون التركي، فيتحتم على الدول الأخرى أن يقدروا هذا الموقف التركي ويتصفوا بالمرونة ويرجحوا خيار الدولة في مقابل جماعة متورطة، ويقتنعوا بأن مؤسسة المعارف قابل للاستغلال في إطاره الصحيح، مقابل التخلي بشكل نهائي عن المدارس الغولينية، مع بقاء الخدمة في أحسن وجه برعاية الدولة التركية عبر مؤسسة معارف، وقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة من الطرف التركي لهذه الدول.