هاجس اللغة الرسمية
تأملت كثيرا من المقالات التي تشخص مشاكل دارسي اللغة العربية فوجدتها تكاد تجمع على أن عدم إتقان اللغة الرسمية يكاد يشكل عائقا أساسيا للمستعربين في سبيل الاندماج.
وأود قبل الخوض في الموضوع التنبيه على ضرورة العناية باللغات الرسمية لأنها تمثل همزة وصل بين من يسمون بالمستعربين وبين من يسمون النخبة المتفرنسة، كما أن اللغات المحلية هي الهمزة وصل بينهم وبين القواعد الشعبية العامة.
ولكن دعوني أقوله بصراحة، فلقد كنت في الماضي أشاطر الكثير في هذا الرأي ثم أرجعت البصر كرتين وتأملت الواقع فوجدت أني حملت المسألة أكثر مما تطيق، وأن الأمر في الحقيقة ليست مشكلة لغات وإنما هي مشكلة تصادم ثقافات وصراع حضارات في أضيق صورها.
ذلك أنني أجد الرجل الأجنبي الغربي –مهما كانت بضاعته المعرفية مزجاة- يلقى كل الترحيب في مجتمعاتنا الأفريقية ، ويتيسر له كل السبل لتأسيس واكتساب ما يشاء بالطريقة التي يشاء. فالألماني مرحب به رغم العائق اللغوي، وقل مثل ذالك في الأسباني والأمريكي والرتغالي بل وحتى الروسي. واندماج هؤلاء الغرباء في مجتمعاتنا لا يكلف أكثر من أن يتمنوا ذلك ليصبح حلما متحققا.
بينما المستعرب وابن البلد، الذي استقى معارفه في البلدان الشرقية الإسلامية وتشبع باللغات الشرقية يجد الصعوبة كل الصعوبة في الاندماج ، فهل مرد ذالك إلى عدم إتقانه للغة الرسمية لدولته؟!
بعبارة أخرى، عدم إتقان اللغة الرسمية هل يعوقنا عن الاتصال مع قومنا (الشعب) ؟ فلو قلنا نعم فهذا يعني إلقاء اللوم على الآباء الذين اختاروا لنا هذا الطريق، وأننا غير راضين. والحقيقة –فيما أظن- أننا راضون ومعتزون.
إنها في الواقع مسألة صراع ثقافي قديم وليست مسألة لغات، لأننا لا ننسى أن الاقتناع بهذا الهاجس اللغوي يشكل رمادا تحته جحيم، ذلك أن الحكومات الفرنكوفونية في الغرب الأفريقي كانت في إحصائياتها-وإلى حد قريب-تصنف المستعربين ضمن قائمة الأميين، وأذكر هنا الخطوة المتأخرة التي اتخذتها الحكومة السنغالية فيما بعد الثمانينات من الاعتراف بالمستعربين على أنهم أناس غير أميين أي يستطيعون القراءة والكتابة!!. فهذه المسخرة هي التي تفسر تقديم ذلك الألماني أو البرتغالي علينا معشر الناطقين بالضاد، بالرغم من اختلاف لغاتهم، وبالرغم من أصالتنا في بلداننا.
لذا أقول بكل اطمئنان، أن المعركة التي دارت بين الأجداد وبين المستعمرين، ودفعت الأولين إلى تأسيس مناهل علمية ذات طابع إسلامي، لا تزال هذه المعركة مستمرة ولكن بصورة أخرى. ونحن وإن كنا نتفق مع الأجداد في مبدأ ” المواجهة” إلا أننا قد نختلف معهم في تفسير طبيعة تلك المواجهة والآليات التي يلزم اتخاذها، بحكم كوننا وإياهم نختلف في الأزمنة والأحوال.
ومهما يكن من أمر فإننا مدعوون إلى اتخاذ استراتيجيتين أساسيتين لكسر الحاجز وكشف الهاجس وهما:
أولا: استراتيجية “خذ الكتاب بقوة”
وهذا يتعلق بالجانب التأصيلي المعرفي، فالمطلوب من كل واحد منا إتقان الفن الذي هو متخصص فيه وإتقان صناعته أيضا، لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه، وبقدر إتقان المرء لفنه تكون قيمته. فلنأخذ من الألباني مثالا في الصناعة الحديثية، ومن أوساهير الياباني مثالا في الصناعة الميكانيكية، ومن العالم الغيني الدكتور قطب سانو مثالا في الصناعة الأصولية ومن الشيخ عبد الله بن بيه الموريتاني مثالا في الصناعة المقاصدية….. وهلم جرا.
وقديما قيل: قيمة كل امرئ ما يحسنه، وإن شئت فقل: قيمة كل امرئ ما يطلبه وبينهما فرق فليتأمل
ثانيا: استراتيجية “بلغ ما أنزل إليك”
وهذا فيما يتعلق بالجانب العملي، فعلى المرء أن يتفانى في تسويق بضاعته سواء كانت شرعية أم أدبية أم علمية، لأن السلعة الغالية التي نملكها يجهلها الكثيرون وبالتالي يحتاج إلى شيء من التسويق، لأن هذه العقول الإسلامية في النهاية هي التي ستقدم الحل لمختلف القضايا الإنسانية المعاصرة، كما فعلت مع الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة المباركة. ويؤسفني هنا أن ألاحظ غياب الخطاب الإسلامي في منتدياتنا الفكرية في الميدان الإفريقي في الوقت الذي يتعطش فيه مجتمعاتنا إلى تفسير إسلامي صحيح لمختلف القضايا المطروحة.
وختاما، أعتقد أننا إذا أحسنا العزف في أوتار هذين القانونين (قانون الأخذ و العطاء) فإنه سيسمح لنا بتحقيق وجودنا وتأكيد بصماتنا بعيدا عن كابوس اللغة الرسمية وهواجسها.
ووسائل تلكم الاستراتيجيات تتموقع في مؤسساتنا العربية الإسلامية مما يستدعي دراسات نقدية جادة في نهجها ومناهجها وقد نشرنا بعضا من تلكم الدراسات سابقا[1].
[1] – انظر: أزمة التعليم العربي في السنغال- قراءة من الداخل- في مجلة المستقبل العدد الأول. أوعبر محرك البحث في الشبكة العنكبوتية الانترنت