نَقْدُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بَيْنَ عِلْمِيَّةِ الْمُحَدِّثِينَ وغَوْغَائِيَّةِ الْمُحْدَثِينَ.
(*) أحمد سنب جوب
مقدمة:
إن السنة النبوية هي المصدرَ الثاني للتشريع،لما تتَضمّنها من تبيينٍ لمُجملات القرآن،وتأكيدٍ لأحكامه،وتأسيسٍ لأحكام جديدة استقلالا، وبهذه الأهمية والمحورية حَملتْ المسلمين من لَدُنِ الصّحابة على إيلائها اهتماما بالغا،فتناقلوها كابرا عن كابرٍ،جيلا بعد جيلٍ ولم يضِع منها شيْءٌ -بفضل الله تعالي وحفظه- فكانت قضيةُ التَّدْوينِ الرسميِّ التي كانت في عهد عمر بن عبد العزيز يمثل نقلةً نوعيةً في مسار تناقلِ السنة،فظهرت على إثرها مؤلفاتٌ كثيرةٌ اختَصَّتْ بجمع الأحاديث المتناثرة في كتب “كالموطأ للإمام مالك” و”المسند للإمام أحمد ” و”المصنف للإمام عبد الرزاق الصنعاني” وغيرها في القرن الثاني وبداية القرن الثالث،ثُمَّ تواصلتْ الجهودُ وتضافرتْ في القرن الثالث الذي كان العصرَ الذهبيَّ للسنة النبوي،وفيه ظهرتْ الكتبُ الستَّةُ المعروفةُ وهي: صحيح البخاري،صحيح مسلم،سنن الترمذي،سنن أبي داوود،سنن النسائي،سنن ابن ماجة،فكانت كلُّ القرون التالية له عِيَالاً عليهم.
ولقد أجمعتْ الأُمَّةُ على أنَّ صحيح البخاريِّ أصحُّ هذه الكتب،بل هو أصح كتاب بعد كتاب الله،لما لصاحبه –أعني البخاري-من مزيد دِقَّةٍ في شروط انتقاءه للأحاديث،و لم يكن الإجماعُ اعتباطيا ولا عاطفيا،وإنما كان بعد استقراءٍ وتتبعٍ واستعراضٍ لأحاديثه من طرف كبار المحدثين والنقاد، فوجدوها على درجةٍ عاليةٍ من الصِّحة،ولكن مع ذلك لم يَسْلم من انتقاداتِ بعضهم لبعض أحاديثه ورجاله،كما لم يسلم من حملةِ هجومٍ شرسٍ، ووابلٍ من التشويهِ والتشكيك في أمانته وصحته أحاديثه،من طرف بعض الأقزام الذين تَزَبَّبُوا قَبْلَ التَّحَصْرُمِ،فطفِقوا يُلصقون إليه تُهمًا باهتةً،ويَلمزون البخاريَّ بألفاظ فجةٍ،بين مهندسٍ يُسَمِّي صحيحَه ب:”جناية البخاري“!! و”صحفي” يزعم أن صحيحه “أسطورة“!!!وآخرُ يكتب كتابا يدَّعِي فيه”اكتساح وتطهير إسرائيليات أحاديثه!!وآخِرُ المضحكات بل المبكيات التي خرجت للوجود،كتابُ“تحرير العقل من النقل،وقراءة نقدية لمجموعة من أحاديث البخاري ومسلم” للمدعو:سامر إسلامبولي!!!.
فكثرةُ التَّحامُل على هذا السِّفر الجليل في الآونة الأخيرة،ينبغي أن تُؤرق جفونَ كل ِّمن له غيرة ٌعلى دينه وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-وتثيرَ في داخله أكثرَ من تساؤل عن ما ورائياتها ولُغزها،وما تطبخ على تلك النيران الهادئة؟؟
فهذه الحربُ الباردةُ التي تُستعْمَلُ فيها هذه الوسائلُ الناعمةُ السلسةُ التي الهدفُ منها في النهاية هو:زعزعةُ إيمان الدَّهماء والسُّذَّج وخلخلته، حتى يشككوا في كل شيء في تاريخهم وقيمة تراثهم ومصداقية علمائهم.”وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونْ،أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِن لاَّ يَشْعُرُونْ “[1].
و في هذه المقالة المتواضعة التي عنونتها ب:
“نقد صحيح البخاري بين علمية المُحَدِّثِين،وغوغائية المُحْدَثِين”
أحاول تَلمُّس الجوانبَ العلمية لدى المحدثين –بتشديد الدال وكسره– في نقد صحيح البخاري وحدوده،مع التركيز على ذكر منطلقاتهم ومستنداتهم ومناهجهم فيه،كما أحاول الوقوف على جوانبَ ممَّا أسميتها ب” غوغائية المنهج” لدى المحدثين -بتخفيف الدال وفتحه-الغرباءِ عن الدار،المتحاملين على أهلها،ورأيتُ أن أُقسِّمها بعد هذه المقدمة،إلى مباحث ثلاثة وخاتمة:
- المبحث الأول:تحديد وضبط مفاهيم العنوان.
- المبحث الثاني: الجوانب العلمية في المنهج النقدي للمحدثين لصحيح البخاري.
- المبحث الثالث:مظاهر الغوغائية في منهج نقد المحدثين للصحيح البخاري.
- خاتمة.
المبحث الأول:ضبط مفاهيم العنوان وتفكيكه.
- النقد:
أقصدُ به هنا،تلك العملية التَّقويمية للتَّصحيح والترشيد،والتي تكُونُ بالمحاكمة إلى قواعدَ متفقٍ عليها لبيان الخطأِ من الصَّواب في أيِّ أمر من الأمور،ولا أقصد هنا المفهومَ الحديثيَّ الخاصَّ[2].
فا الكلمة بهذا المفهوم يصلح إطلاقها على أعمال المحدثين الذين تناولوا صحيح البخاري من هذا الجانب ودرسوها سندا ومتنا،لكن إطلاقه على من أسميتهم ب“المحدَثين” –على ما في منهجهم من اعوجاج وهوج- فيه شيءٌ من التجوز كما سيأتي الكلام عنه,إذ أن منهجهم النقدي يقوم على الرفض الكلي،وهذا في الحقيقة نقضٌ وليس نقدا كما هو الحالُ عند المحَدِّثين الحقيقيين.
- علمية المنهج لدي المُحَدِّثينَ.
- أقصد بعلمية المنهج,تلك الطريقةُ النقديةُ القائمةُ على المنهج العلميِّ الذي يتسم بالتَّجرُّد والإنصاف،ويقوم على المعرفة واستيعاب متفرقات العلم الذي هو قيدُ البحث .
- المُحَدِّثون، بتشديد الدال وكسره:أقصد به أولئك الذين لهم اشتغال بالحديث، ولهم إسهاماتٌ وعطاءٌ ثريٌّ فيه سواءٌ من المتقدمين أو المتأخرين.
- غوغائية المنهج لدى المُحْدَثِينَ.
- المنهج الغوغائي، هو نقيض المنهج العلمي،والذي لا يحترم الضوابطَ العلميةَ،ولا يتسم بالتجردِ والموضوعيةِ،ولا يعتمد على علم واستيعاب،بل على جهالة مركبة مع غرور زائد .
- المُحْدَثُون، بتخفيف الدال وفتحه:استعملت هذه الكلمة –هنا-للجناس،وإلا ففي معناه شيءٌ من التَّجوٌّز،والمعنى المقصود منه هو :أولئك الذين يتعرضون لصحيح البخاري بالنقد،وهم ليسوا من أهل الصناعة الحديثية،ويحاكمونه بأمور خارجة عن آلياتها،وبما أنَّ أكثر هؤلاء من المحدَثين المتأخرين أطلقت الكلمة عليهم،وسيأتي التفصيل في ذلك إن شاء الله.
المبحث الثاني:مظاهر العلمية في انتقادات المحدثين وسماتها.
لقد تناول المحدِّثون –من منطلق حرصهم الشديد أن تبقى السنة مطهرةً خاليةً من شوائب الوضع والتزوير– الأحاديثَ بالفحص والتنقيب والسبر،وأبلوا في ذلك بلاءً حسنًا،فكان بذلك أن اهتموا بصحيح البخاري،شرحا واستدراكا ونقدا،ولا يُضير ذلك ما أثاره بعضُهم للنقد على بعض أحاديثه ورجاله،إذ كانت هذه الانتقادات نادرة،والمنتقدون قِلة،ولم يَخْلُ أيُّ نقد من نقودهم من نقد.
ومن أشهر المعروفين في نقد صحيح البخاري: الحافظ الدارقطنى(385ه)،في كتابه “الإلزامات والتتبع“وكذلك الحافظ أبو مسعود الدمشقي 401ه) في”أطراف الصحيحين“والحافظ أبو علي الغساني498ه) في كتابه “التنبيه على الأوهام الواقعة في المسند الصحيح للبخاري” داخل كتابه”تقييد المهمل”والحافظ ابن حزم الذي انتقد حديث المعازف في”المحلى“
يقول المحدث إبراهيم بن الصديق الغماري في هذالسياق:(لم يجرؤ على اقتحام الصحيحين بشُمُوليَّةٍ من علماء الإسلام إلا ثلاثةٌ:الدارقطنى وأبو مسعود الدمشقي وثالثهم أبو علي الجياني،أما الحديث والحديثان فقد علل ابن حزم بعض الأحاديث فيهما)[3].
ولقد ناقش العلماءُ هذه الانتقاداتِ،ولم يُسَلِّمُوا منها شيئًا إلا ما ندر،كما هو صنيع الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في مقدمة “فتح الباري“حيث عقد فصولا لمناقشة انتقادات كلها مع ترجيح قول البخاري،بل ولقد ناقش هؤلاء فيما بينهم فردّ الدمشقي على الدارقطنى،والغسّاني على الدمشقي،هذه من جهة ،ومن جهة أخرى،فإن هذه الانتقادات -على فرض تسليم صحتها-لا تبطل إجماع الأمة على صحة البخاري من حيث المجموع،لأنها قليلة اعتبارا بأحاديث البخاري.
ولكن مع كل هذا كانت انتقاداتهم تنبني على منهج علمي وإنصاف تام،ولا بأس بذكر بعضِ مظاهرِ علميةِ انتقاداتِهم وسمات الموضوعية فيها وهي كالتالي:
- أنهم لم يتعرضوا لهذا المهمة وهم غرباء عن الدار،بل لأنهم من أهلها،وكما لا يلاحظ فما من منتقد إلا وتجد له صفة “الحافظ “وهي مرتبة لا تصلها إلا الأفذاذ،وهذه الصفة الحديثية تعطيهم الصلاحيَّة الكاملةَ والمصداقيَّةَ العلمية التي تُخَوِّل لهم الاحتكام إلى القواعد الحديثية لقبول حديثٍ ما ورَدِّه -وإن أخرجه البخاري-إذ أن عملية رد الحديث وقبوله تتطلب المعرفة الدقيقة لعلله-وهي مرتبة دونها خَرْطُ القَتَاد- كما يقول الشيخ إبراهيم بن الصديق🙁مهما بلغ المحدث في الحفظ و الإتقان لا يمكنه أن يردَّ أو يقبل حديثا،إذا لم يكن عارفا بالعلل أو يسأل عالم العلل)[4].
- أن انتقاداتهم كانت تعتمد على قواعدَ حديثيةٍ وأسسٍ إسناديةٍ،حيث ناقشوه في توافر شروطه التصحيحية على بعض أحاديثه ورجاله ولم يعتمدوا على أهواءهم أو بعقولهم أو أفهامهم الشخصية لردِّ أحاديثه وتضعيف رجاله،فعلى سبيل المثال،ينقل الحافظ ابن حجر عن الدارقطنى في تعليله لبعض أحاديث البخاري ، ثم يعقب عليه،يقول –رحمه الله- “: (قال الدارقطنى وأخرجا جميعا يعني البخاري ومسلما حديث الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن بن عباس يعني في قصة القبرين وأن أحدهما كان لا يستبرئ من بوله قال وقد خالفه منصور فقال عن مجاهد عن بن عباس وأخرج البخاري حديث منصور على إسقاطه طاوسا انتهى وهذا الحديث أخرجه البخاري في الطهارة عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير وفي الأدب عن محمد بن سلام عن عبيدة بن حميد كلاهما عن منصور به ورواه من طريق أخرى من حديث الأعمش وأخرجه باقي الأئمة الستة من حديث الأعمش أيضا وأخرجه أبو داود أيضا والنسائي وبن خزيمة في صحيحه من حديث منصور أيضا وقال الترمذي بعد أن أخرجه رواه منصور عن مجاهد عن بن عباس وحديث الأعمش أصح يعني المتضمن للزيادة.
ثم يعقب بقوله: قلت وهذا في التحقيق ليس بعلة لأن مجاهدا لم يوصف بالتدليس وسماعه من بن عباس صحيح في جملة من الأحاديث ومنصور عندهم أتقن من الأعمش مع أن الأعمش أيضا من الحفاظ فالحديث كيفما دار دار على ثقة والإسناد كيفما دار كان متصلا فمثل هذا لا يقدح في صحة الحديث إذا لم يكن راويه مدلسا وقد أكثر الشيخان من تخريج مثل هذا ولم يستوعب الدارقطنى انتقاده )[5].
وفي نقل آخر،يقول: (قال الدارقطنى أخرج البخاري حديث مروان عن عثمان في فضيلة الزبير وقد اختلف في لفظه علي بن مسهر وأبو أسامة. ثم يعقبه بقوله:قلت البخاري أخرجه من حديث علي بن مسهر وأبي أسامة جميعا وليس بينهما تباين يوجب تعليلا كما سيأتي في مناقب الزبير إن شاء الله تعالى)[6].
وهكذا دواليك،فإن الدارقطنى يناقش البخاري ويحاكم أحاديثه بالمعايير الحديثة المحضة،ويلومه بإلزاماتٍ يراها،وابن حجر بدوره يدافع ويستدرك عليه،ولسان حالهما أن شروط القبول التي اعتمدها البخاري متى توافرت فالحديث صحيحٌ،لكن محل النزاع”في تحقيق المناط” –إن صح التعبير- فالدارقطني يدعي عدم توافر الشروط في الحديث ثم يبني تعليله عليه، فيما ابن حجر يثبت ذلك ويقول بعدم العلة،وكذلك الأمر في الإلزامات، حيث يجيب ابن حجر بأنها غير لازمة على البخاري،وهذا المنهج سار عليه جميعُ الحفاظ الناقدين لصحيح البخاري، فمن راجع كتبَهم سيقف على هذه الحقيقة،ولقد اهتم ابن حجر بشكل كبيرٍ على إيراد إجاباتٍ على تلك الانتقادات،فهذا الأمر إذن مظهر من مظاهر علمية المحدثين في النقد -رحمهم الله جميعا-
- أنهم لم يسلكوا منهجا انتقائيا،ولم يكونوا من المتربصين على صحيح البخاري، المتصدين على أخطائه الحاقدين عليه،بل كان ذلك جزءً صغيرا من اشتغالهم الحديثي فالدارقطني مثلا له مساهمات حديثية كثيرة ك”السنن“-سنن الدارقطني- و”كتاب العلل” وغيره،والغساني في نفس الكتاب الذي انتقد فيه بعض أحاديث البخاري،قام بخدمة جليلة له بتقييده للأسماء المهملة الغير منسوبة فينسب كلها مع بيان مشكل أحاديثه،إلى جانب كتبه الحديثية الأخرى.
وهذا الأمر يؤدي بنا إلى قناعة أنهم-رحمهم الله- فعلوها بدافع حبهم وحرصهم الشديدين على صفاء السنة النبوية،وهدفهم كان بنائيا لا هدميا وإيجابيا لا سلبيا.
- أنهم انتقدوا هذه الأحاديث وناقشوها بعلمٍ كبيرٍ وأدبٍ جمٍّ، دون أن يُسفِّهوا أو يَلْمزوا الإمامَ البخاري-رحمه الله-بل بجَّلوه غاية التبجيل ونوهوا به،بل وسَلَّمُوا له صحة كتابه إلا مواضع قليلة،وهذا يُظهر جانب الموضوعية فيهم،وصفاء القصد وحسن النية حيث كان هدفهم خدمة البخاري لا التهجم والتحامل عليه.
هذه هي بعض السِّمَات العِلْميَّة التي رافقت المحدثين الحُفَّاظ في محاولاتهم لنقد بعض الأحاديث، ولقد توصلت إليه بإمعان النظر في انتقاداتهم،ولاشك في أن من أمعن النظر وأنعمه، سيقف على جوانب أخرى من منهجية وعلمية هؤلاء، كما يجدر الإشارة إلى أن هناك من المعاصرين ممن لهم اشتغال بالحديث وقد عرفوا بنقد بعض الأحاديث في صحيح البخاري -وسواء وفقوا أم يوفقوا-أحسبهم من أصحاب النيات الحسنة،فمنهم “الشيخ أحمد بن الصديق الحافظ الغماري 1380ه) رحمه الله، والشيخ سعيد ممدوح والشيخ عداب بن محمود الحمش وغيرهم من المعاصرين المشتغلين بالحديث والذين طريقتهم تقترب إلى المتقدمين إلى حد ما.
كما أن هناك من عُرفوا بردِّ بعض الأحاديث وإن كانت مشاركاتهم الحديثية قليلة كالشيخ محمد الغزالي مثلا في كتابه “السنة بين أهل الفقه والحديث”،والذي رد أحاديث في الصحيحين بما ترجح لديه ولقد ناقشه بعض العلماء وكتبوا ردودا عليه،لكن ما يمكن التنبيه أن من يعرف جهود الشيخ في الدعوة والتنوير والاستماتة في الدفاع عن القضايا الإسلامية،يدرك تمام الإدراك أنه لم يقصد الطعن على السنة النبوية بشكل عام،وإن اخطأ في رده لبعض أحاديثه،فحسبنا نقول:لقد اجتهد وأخطأ،فسبحان من لا يخطأ.
هذا كل ما أريد قولة في هذه النقطة ،ومع الجزء الثاني من هذا البحيث
المبحث الثالث:غوغائية النقد لدى المُحدَثِين.
بعد الحديث عن علمية نقد المحدثين وبيان مناقشة العلماء له،سأقف للحديث عن الصنف الآخر من “النقاد”،والذي كثرت لدى المحدثين في هذا العصر الرهيب،ومن باب التجوز تسمية أعمالهم بالنقد إذ أنها في الحقيقة طعون عوجاء، ،وهؤلاء غالبا ما يتسترون تحت قناع الدفاع عن السنة والقرآن الكريم،،ولقد أحسن أستاذنا الدكتور محمد السايح -حفظه الله- في فضح هؤلاء ووصف حالتهم في مقالته بقوله:
( وجل هؤلاء الطاعنين، يلبس لباس النصيحة للدين، ويعيد ويكرر أن منطلقه في البحث، هو حماية السنة من الدخيل عليها، وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسب إليه. ويرتّب على هذه النصيحة نتيجة خطيرة جدا، وهي ضرورة مراجعة الفقه الإسلامي كله، لأنه مبني في كثير من تفصيلاته على الحديث، بل ومراجعة جملة من المقررات المعرفية والعقدية الإسلامية. بل ويتذرع بعضهم عن طريق إنكار المرويات، إلى التلذذ بذكر ما يعتبرونه طعنا في النبي صلى الله عليه وسلم،مستمتعين بسب المحدثين وتسفيههم،ومتهمين إياهم بقلة العقل ورقة الدين).[7]
من خلال هذا النص نقف على خطورة هذا الصنف من الناقدين بل الطاعنين من خلال هدفهم المزعوم وهؤلاء يقصدون محاربة السنة بشكل عام،لكنهم خَصّصُوا قسطا كبيرا من طعونهم على صحيح البخاري لعلمهم أنه أُسُّ وقاعدة السنة الصحيحة،وهو الكتاب الذي تلقته الأمة بالقبول على تتابع القرون وتوالي الأيام،فإذا ما تسنى لهم إسقاط هذا السفر الجليل،فما دونه سيكون أهون،ومن هذه النظرة جعلوه أولى اهتماماتهم التشكيكية والطعنية،فمن هؤلاء المغرضين صاحبُ كتاب”أضواء على السنة المحمدية” أبو رية ،وصاحب كتاب”الأضواء القرآنية في اكتساح الإسرائيلية وتطهير البخاري منها”السيد صالح أبو بكر”،وصاحب”جناية البخاري”: إنقاذ الدين من إمام المحدثين” زكريا أوزون،وصاحب “أكثر أبو هريرة”الذي اتهم هذا الصحابي الجليل بوضع الأحاديث،وهو:مصطفى بوهندي”وآخِر ناطحي صخر البخاري برأسهم والباحثين عن حتفهم بظلفهم،صاحب”البخاري نهاية أسطورة ” المدعو:رشيد إيلال”،ولم يكن أمرُه برشيد ،ويا ليته خَشِي الإِيلَ، وآلَ إلى رشده.
ولقد سخَّر الله لكلٍّ من هؤلاء الأقزام المتطاولين على السنة، رجالاً حراسَ ثغور السنة النبوية،فردوا مكائدهم الخبيثة وفضحوا طوية نواياهم الخبيثة،”وحجروهم في أقماش السمسم”[8].
يقول لسان مقال هؤلاء :إن صحيح البخاري جهد بشري فهو معرض للخطإ وقابل للنقد هذا صحيح لا غبار عليه،لكن لسان حالهم يقول:صحيح البخاري جهد بشري،فالخطأ فيه ضروري فيجب محاربته،وهذا ظاهر البطلان،وذلك ما يفضح حقدهم الدفين عليه، “ويخفوون في أنفسهم ما لا يبدون لك”
وغالبا ما يتذرعون بنقود بعض المحدثين كالدار قطني مثلا لتبرير أعمالهم ولدعوى أن لهم سلف في ذلك، مع تجاهل متعمد للردود التي قام بها الحافظ ابن حجر وغيره على هذه النقود وكما يُرَوِّجون كذبةٍ مفادُها أن المحدثين يقدسون الإمام البخاري،تلميحا منهم أن تسليم صحة البخاري قائم على تقديسٍ وتسليمٍ عميٍّ ليس على علم وتبَصُّرٍ،ولو صح هذا الزعم لرأيتَ المحدثين يصححون كل ما روى البخاري على اختلاف كتبه ولم يفعلوه بل صحَّحُوا ما في صحيحه لما ادَّعى الصِّحَّة والتزم به، أما في كتبه الأخرى ك”التاريخ الكبير والأدب المفرد وغيرها لم يقل أحد بصحة كل ما فيها،ولو صحَّ ما زعموه لسرت “القداسةُ البخارية” على هذه الكتب وعليه يصح –قول أحدهم ” أننا نقول بأن البخاريَّ لا يخطئْ.
ولو صحَّ لرأيت ابن حجر وهو يدافع عن البخاري أن يكتفي بالقول :إن ما قاله البخاري صحيح وكفى،دون أن يتكلف عناء البحث في الأسانيد والرجال حسب منطق التقديس،لكنه لم يفعل،لأنه علم أنه مسالةٌ علميةٌ وليس مسألةَ تقديسٍ،فسلك ذلك المسلكَ الوعرَ،ثابتَ القدم وقويَّ الحجة رحمه الله .
وللوقوف على غوغائية هذا المنهج الذي يسير عليه هؤلاء المغرضين ويسلكونه، لابد من ذكر بعض المظاهر والسمات وهي كالتالي:
- الفظاظة والجرأة الوقحة على البخاري وعلى أحاديثه،وعلى سبيل المثال أورد نماذج من عبارات رشيد إيلال من “أسطورته“والتي تجسد مدى الحقد الدفين في قلب الرجل على البخاري والسنة النبوية بل وعلى المحدثين عموما،في سياق حديثه عن شخصية البخاري يكاد الحاقد يقول:خذوني!! تراه يهذي ويحشو ويكرر عبارات فاضية فضفاضة،ويسمي سيرته ب”سيرة الأحلام”،ويقول:”إن الدارس لسيرة البخاري كما تناقلتها كتب التاريخ وتراجم الرجال سيجدها تركز على مجموعة من الأحلام لإبراز فضله واستثنائيته بشكل غريب[9]“.
وحسب منطق الرجل كلما نقل عن البخاري من فضل فهو حلم وخيال،وخرافة مختلقة منسوجة !! “ويقول في حق الحديث :” إن أعظم جناية جناها الحديث هي التسبب في هجر كتاب الله ليحل محله”…إلى أن قال:”فكانت الجناية العظمى التي أورثنا أياها الحديث ،هو تغييب كتاب الله من المشهد الديني تغييبا يكاد يكون تاما،إلا من بعض المظاهر والطقوس الشكلية والمرتبطة أساسا بالخرافة”[10] ويسمى المحدثين ب”عباد التراث الديني[11]” وسدنة الكهنوت“[12].
من خلال هذه العبارات السمجة الفجة الكاذبة من هذا الأسطوري في “أسطورته“نكتشف أنه على عداوة مع السنة النبوية التي اتهمها بتغييب كتاب الله !-كبرت كلمة- وأن صحيح البخاري إن هو إلا حلقة من حلقات حربه على السنة النبوية.
ووجه الغوغائية في هذا، أنهم يتهجمون على البخاري ويسخرون منه ويستهزئون من المحدثين،في حين أن المنهج العلمي –لو أرادوا سلوكه- يقتضي مناقشة الأفكار واحترام الشخصيات،والحوار بعلم أو السكوت بحلم،بدون شخصنة ولا عويل مُهْوِل أو صراخ مزْعج!
لكن ما ذا عسانا ننتظر ممن أصابه قحطٌ معرفيٌّ مدقعٌ، أن يضعه على موائد القضايا الحديثية التي تثقل كاهل الأعلام فما بالك بالأقزام !!
- يناقشون البخاري لا على أسس حديثية كما فعل العلماء،بل على عقولهم المجردة بل المخربة بالهوى والغواية،ومن المعلوم أن مسالك الطعن في الحديث ثلاثة:
1 – مسلك التعليل وهو مسلك المحدثين.
2 –مسلك الاعتراض و المعارضة، وهو مسلك الفقهاء،والهدف منه تصحيح الاستدلال.
3-مسلك التشكيك، وهذا الأخير هو موضة العصر وهو مرفوض ليس من العلم في شيء[13].
فكان المنهج العلمي يقتضى مناقشة البخاري في دعاويه ونقد أسسه،لأنه من الغوغائية بمكان أن تسلم له مقدمتاه ولا تسلم له النتيجة!!
وبيان ذلك على الشكل الآتي:
كأن البخاري مثلا يقول لك:هذه هي شروط صحة الحديث –المقدمة الكبرى-ثم تقول له نعم سَلَّمتُ ،ثم يقول لك:جميع الأحاديث التي أوردتها في كتابي توافرت فيه هذه الشروط- المقدمة الصغرى– فتقول:نعم سَلَّمتُ،ثم يقول لك: إذن جميع أحاديثي صحيحة- النتيجة-وتقول له: لا!! أيُّ منطق غوغائيٍّ هذا، فالقاعدة المنطقية تقول:إذا سلَّمت المقدمتين الكبرى والصغرى فالنتيجة يلزمك،إن كنت لا تسلِّمه في مقدمته الكبرى ناقشه فيه وأبطل قوله،وتقول مثلا:هذه ليس هي شروط صحة الحديث ثم تأتي بما عندك،أو تناقشه في مقدمته الصغرى،وتقول مثلا: هذه الشروط لم تتوفر على أحاديث كتابك،وتستعرض عضلاتك الحديثية ومَقْدرتك التَّعليلية،أما أنك لم تناقشه في مقدمتيه ولا تُسَلِّم النتيجة فهذه هي الفَوْضَوِية والغوغائية.
- أنهم غالبا ما يسلكون منهج الرفض الكلي،والطعن الأهوج كما يسميه أستاذنا السايح، فهؤلاء كما يقول أستاذنا يدعون“( أن ما يشكل معناه من الأحاديث الصحيحة المتداولة في هذه المصادر، يستحيل صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مخالف للقرءان المنزل عليه، أو مخالف للعقل.)[14]
ومما يؤكد على هذا المنهج الفوضَوي،كلام ذالك الجاني على البخاري زكريا أوزون في كتابه”جناية البخاري[15] “(نأخذ من السنة النبوي الحكمة والموعظة التي يمكن أن يتقبلها كل إنسان على أرض المعمورة…أما الأحاديث التي تعارض العلم والمنطق والذوق السليم فنتركها بدون حرج)[16].
فهذا النص الآثم يُلَخِّصُ لنا الهدف الأسمى الذي إليه منتهى أمل هؤلاء الطاعنين،ألا وهو:مسح السنة النبوية من الوجود، ولو اختلفت في سبيل ذلك أساليبهم وطرقهم ودرجة وقاحتهم وتفاوتت دركات جهالتهم، لكن الهدف يجمعهم ويُوحِّدهم ،”ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.
- من مظاهر غوغائية هؤلاء أنهم يدعون تعارضَ وتناقض بعضِ أحاديث البخاري مع القرآن دون تبصر، ودون معرفةِ شروط التعارض وأوجه فكها في حال توهم وقوعها.
ومكمن الخلل عندهم:أنهم يفهمون الحديث بفهمهم السطحي والأَوَّلِي،وكأن نصوص الحديث نصوصٌ أدبية يمكن استيعاب معانيها دون اعتماد أي مصادر، في حين أنها ليست كذلك إذ أنها تشمل مصطلحاتٍ شرعية والتي يقتضي فهمها مراحلَ كثيرة،كما هو معروف في ضوابط فقه الحديث كالرجوع إلى كتب ضبط الحديث وكتب شرح الغريب وكتب شروح الحديث ،فإذا ما وقع أيُّ تعارضٍ فينبغي الرُّجوع إلى كتب مشكل الحديث،أو كتب مختلف الحديث وهكذا دواليك،فبهذا تتضح لك الأحاديث،وتفهمها فهما سليما،وستعلم وأنها على تناغمٍ واتِّساقٍ تام مع القرءان الكريم، وأن علاقتهما تكاملية إذْ أنَّهُما وحيان.
لكن من ينطلقون من مواقف سلبية مسبقة،ويحاولون نبش ما يرونه تناقضا باعتماد فهمهم اللغوي والسطحي سيزلون قدما،ويسقطون سقطات ثم لا يرجعون،كما هو الحال عند الأسطوريِّ الذي ادَّعى تناقض قوله صلى الله عليه وسلم:(أمرت ان أقاتل الناس..) الحديث وقوله تعالى:(لا إكراه في الدين..)ثم استنتج من ذلك أن الحديث من وضع البخاري- حاش لله -وأن نبي الرحمة لم يقل به أبدا.
هذا منطق “نغزة ولو طارت” ولا يفهمه إلا الغوغائيون ومن على شاكلتهم!!!
- ومن المظاهر أيضا،أن يدَّعي هؤلاء الحرص على السنة النبوية،وليس لهم أدنى اشتغال بالحديث بل ولا العلوم الشرعية,ولم يدخلوا إلى السنة إلا عن بوابة النقض والتشويه والتشكيك، حيث أنهم يتربصون بها الدوائر،وخصوصا صحيح البخاري،إذ أصبح”صحيح الأمة“،بحيث الطعنُ والتشكيكُ في صحة أحاديثه كليا أو جزئيا،يؤدي إلى ضرب كثير من المسلّمات والمستقرات في الشريعة الإسلامية.
وماذا سيقول الشيخ إبراهيم بن الصديق لهؤلاء لو رجع للحياة وهو القائل: مهما بلغ المحدث في الحفظ و الإتقان لا يمكنه أن يردَّ أو يقبل حديثا،إذا لم يكن عارفا بالعلل أو يسأل عالم العلل)؟؟؟.
ما ذا سيقول الشيخُ للذين يردون الحديث وليسوا حتى بمحَدِّثين،بل ليسوا حتى بالمشتغلين به،أما أن يعلموا علم العلل فحاشاهم ذلك !! هكذا الزمان وغرائبه وتناقضاته.
هذه -باختصار،وبما أدَّت إليَّ محاولاتي- أهمُّ مظاهر الغوغائية لدى هدى الصنف من الطاعنين.
خاتمة.
إلى هنا أصِلُ إلى ختام هذا المقالة التي أتمنى أن تكون علمية،وقد كان الهدف منه بيان موقفين متناقضين في قضية واحدة،وتصوُّرين في صورة واحدة، وبيانُ أن المحدثين كانوا مخلصين للسُّنة ونافحين عنه فيما المحدَثون محرضون وناقمون عليه،فهؤلاء خادمون له، وأولئك محاربون له، ولم يكن الهدفُ منه –بالأساس- النقدُ والمناقشةُ ولم تكن مقالة رَدِّيَّة،وإنما كان الهدف منه العرضُ والوصفُ -عن طريق المقارنة- لتمييز الغث من السمين والصحيح من السقيم والحق من الباطل ،وأرجوا أن أكون قد وفيتُ للعنوان حقَّه في بيان علمية المحدثين في نقدهم لصحيح البخاري،وغوغائية المحْدَثِين في محاولة نقضهم وطعنهم له،فما كان فيه من صواب فبتوفيق من الله، وما كان من خطأ فشأني شأن كل محاول يصيب ويخطئ .
وصلى الله وسلم على نبينا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الهوامش والإحالات:
(*) باحث في العلوم الإسلامية بالمغرب.
[1] سورة البقرة آية 10 -11 .
[2]. نقد الإسناد عن طريق تتبع الطرق والرجال ،والحكم عليه صحة وضعفا،أو نقد المتن بالحكم علية بالنسخ أو الشذوذ أو التصحيف والتحريف.
[3] علم علل الحديث في المغرب ج/ص 108 .
[4] علم علل الحديث ج1 ص 45 .
[5] هدي الساري ص 350.
[6] نفس ص 367 .
[7] عنوان المقالة “صحيح البخاري وبؤس الطاعنين”.
[8] أما كتاب “جناية البخاري فقد ردّ عليه الشيخ مروان الكردي بكتاب سماه”الجناية على البخاري“,أما كتاب “الأسطورة “فقد تسارعت عليه الردود من كل صوب،مثل “بيع الوهم تهافت طرح رشيد إيلال عن صحيح البخاري” ليوسف سمرين،وكتاب“التفنيد لشبهات أيلال رشيد حول صحيح البخاري”للأستاذ نبيل بن أحمد بلهي،أما كتاب”أكثر أبو هريرة فقد رد عليه الأستاذ ا محمد رحماني في مقالة مطولة عنوانها:”إلى السيد مصطفى بوهندي،أبو هريرة صحابي جليل.
[9] صحيح البخاري نهاية أسطورة ص 77 .
[10]نفس المصدر ص 61 .
[11] نفس المصدر ص 130
[12] نفسه والصفحة
[13] من إفادات أستاذنا الفاضل الأستاذ السايح حفظه الله.
[14] في مقالة السابقة الذكر في سياق حديثه عن” المسلك الثالث وهو الطعن الأهوج الذي يشمل الجزء والكل معا.
[15] ولقد أحسن من رد عليه وسماه “الجناية على البخاري
[16] جناية البخاري 25 .
السلام عليكم ورحمة الله
إدارة الموقع أشكركم غاية الشكر على تكرُّمكم بنشر هذهالمحاولة المتواضعة،على هذه المنصة الموقرة،سائلا الله تعالى أن يبارك في جهودكم وأثقل بها مواززينكم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حياكم الله أخوكم الطالب:أحمد سنب جوب .
أحسن الله إليكم وأجزل لكم المثوبة. المقال رائع ومفصل ومقارن. واثناء قراءتي للمقال شعرت بما يشعر به الكاتب فقط أجاز وأوصل الفكرة بطريقة واضحة,فجزاكم الله عنا كل خير.