نبذة من حياة الشيخ الحاج محمود با _ رحمه الله:
(*) عبد الرحمن باه
الحمد لله الذي منّ على أمّة الإسلام بأن يبعث لها على رأس كل قرن من يجدّد لها دينها، والصلاة والسلام على الهادي الأمين محمّد، إمام المصلحين، وقائد الهداة الموفّقين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه والمقتفين لنهجه السديد، السالكين لدربه القويم إلى يوم الدين. أمّا بعد:
فإنّ من حق السلف الصّالح على الخلف، دراسة أحوالهم، والإشادة بنبيل مواقفهم، والاعتبار بحياتهم مع الدعاء لهم، ولعلّ إلى ذلك تشير الآية الكريمة “والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولاتجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم”
ولقد سعد غرب إفريقيا _ ولله الحمد والمنة _ بأعلام وقادة، يدعون إلى هدى، ويجنبون عن ردى، يجددون من معالم الدين ما اندرس، ويوضّحون من أحكامه ما التبس، والحديث اليوم عن الشيخ الإمام الحاج محمود عمر باه الجولي _ رحمه الله _ وذلك بشكل موجز يقاس فيه المسكوت عنه على المذكور، وقد يكون سببا في إثارة الهمم لاستنباط المدفون، واستخراج المكنوز…والله الموفق للرشاد، والهادي إلى سواء السبيل، وقد قسمت المقال إلى محطّات ثلاثة، أولاها: عن نشأته وحياته العلمية، أمّا الثانية فعن: الفكر التّجديدي للشيخ محمود . وتأتي خاتمة المحطّات لتتناول أهمّ إنجازات الشيخ بالإضافة إلى وفاته_رحمه الله.
المحطة الأولى: ولادته ونشأته وطلبه العلم.
ولد محمود با عام 1905م في بلدة جول (diowol) الواقعة على الحدود السنغالية الموريتانية، في أسرة فلانية تعنى برعي الغنم، فسلك ذلك السبيل، واستمرّ في تلك المهنة التي وجد عليها ذويه، لكن شاء المولى -عزّ وجلّ- أن وقعت له حادثة فقد بها إحدى عينيه، قرّر إثرها ترك الرعي، والتوجّه إلى طلب العلم، وقال قولته المشهورة “أفضّل أن أكون عالما أعور، على أن أكون راعيا أعور” توجّه إلى قرية (ويندو بوسيابي)الفوتية، عام 1923م والتحق بحلقة (الشيخ عمر جاه) أحد قرابته، وأمضى فيها أربع سنوات حفظ خلالها القرآن الكريم، ثمّ رجع إلى قريته (جوول) عام 1927م، لكنه لم يلبث أن رحل إلى موريتانيا؛ للاستزادة في طلب العلم، وفي (المجرية) إحدى قرى موريتانيا. التحق بحلقة المرابط (الشيخ عبد الفتاح التركزي) حيث أجازه الشيخ في القرآن الكريم. إلاّ أنّ همة محمود كانت تتوق لأكثر من ذلك! راودته فكرة الرحلة إلى مكة المكرمة؛ لمواصلة طلب العلم.
بعزم وحزم، وعلوّ همة ومثابرة، نجح محمود في تحقيق تلك الرحلة التي لم أسمع أنّ أحدا من المحدثين القدماء -على كثرة رحلاتهم- رحل مثلها! رحلة من أقصى غرب إفريقيا إلى مكة المكرّمة، هذه سفرة شاقة، لكن ما بذلت لأجله، يحتاج مثلها بل أكثر!
حطّ محمود با ،رحاله في أم القرى بعد تعب شديد، ونصب كبير. ونزل على الشيخ (عباس العلوي المالكي) من مشاهير علماء مكة –آنذاك- فلازمه واستفاد من مكتبته الكثير، وساعده الأخير في الالتحاق بالمدارس (الصولتية) الهندية، وبعدها واصل دراساته في مدارس (الفلاح) المكية، التي تخرّج فيها بالإجازة العالية في العلوم الشرعية. وكان مع دراسته النظامية يحضر حلقات العلم في المسجد الحرام في شتّى الفنون.
كما أنه انتهز فرصة مقامه في دولة الحرمين، فقام بجولات عديدة للوقوف على المآثر التاريخية التي شهدت بطولات وأمجاد المسلمين، في العهد النبوي الشريف.
و في عهده الأخير في مكة وسّع من قراءاته الثقافية، وخاصة فيما يتعلق بكتب الدعوة السلفية، بالإضافة إلى الاطلاع على أحداث العالم الإسلامي بقراءة مجلات ثقافية أمثال: “المؤيد” و”الرسالة” المصريتين. كما لم يفته اللقاء بشخصيات بارزة كانت تفد إلى بيت الله الحرام، فيقف معها على قضايا تهمّ الأمة الإسلامية، ولعلّ ذلك يفسّر مكوّنات فكره ودعوته الإصلاحية.
المحطّة الثّانية: الفكر التجديدي عند الحاج محمود باه
إن العظماء الّذين صنعوا فرقا في مسيرة الحياة، هم أولئك الّذين لم يجمدوا على المألوف، أو يقفوا حيث وقف الأسلاف، بل فهموا أنّ الحياة حركة، وأنّ التطوير يبدأ بالانطلاق من حيث وصل المتقدّمون، فعملوا على مقتضى ذلك الفهم، وبدّدوا ما يضاده من الوهم. وصاحبنا ليس بمعزل عن حياة المجدّدين الكبار؛ فرغم نشأته في بادية “جوول” التي تمتهن رعي الأغنام، تاقت نفسه إلى حلبة العلم، فترك الرّعي واتّجه إلى المحضرة، ومع أهمّية الأخيرة، لم يرها تروي غليله، وتشفي عليله، فخرق المألوف وخاض غمار رحلة لايفكّر فيها من يهوي الرّاحة، أو يعشق الدّعة، رحلة بآلاف الكلومترات، مع ما يكتنفها من المخاطر من محتلّ غاشم يعتدي على الأبرياء، وقطّاع طرق متعطشين إلى دماء، بله الوحوش الضّارية، كل تلك وغيرها لم تكن لتثني “محمودا” عن مهمّته، ولسان حاله:
” من هوى الحسناء لم تغل عليه مهور” وإنّ
عظيم النفس لا يرضى الدنايا ولو نيطت بمهجته المنايا
هكذا إذاً خرج صاحبنا عن المألوف مبكّرا وقبل أن تتضح ملامح فكره التّجديدي الذّي تبلور فيما بعد، ثمّ إنّه خلال إقامته في الحجاز طالبا للعلم، لم يتقيّد بدارسة نظامية بعيدا عن المحاضر التقليديّة، بل جمع بين الانتظام في المدرسة “الصّولتية” ثمّ مدارس “الفلاح”، مع عكوفه على مجالس العلم في المسجد الحرام، فجمع بذلك محاسن الدراسة النظامية، والدّراسة التقليدية في المحاضر. وهذا يوضّح لنا جليّا كيف تكوّن الفكر التّجديدي عند الحاج محمود باه _ رحمه الله _ فهو فكر ذو منشأ
” فوتاوي” معروف بتديّنه المتجذّر في العمق، ونضج في رحاب البيت العتيق بمكة المكرّمة حيث طابع الصّفاء والأصالة، مع انفتاح على عقول مفكّرين كبار كانوا يبثون عصارة تجاربهم في الصحف الرائدة في تلك الحقبة، مثل “المؤيد” و ” الرسالة” المصريتين، ينضاف إلى ذلك ما حظي به من لقاء شخصيات إسلامية كانت تفد إلى أمّ القرى. وفيما يلي ذكر بعض ملامح الفكر التّجديدي عند الحاج محمود با_ رحمه الله :
التّجديد في تلقّي الأحكام الشرعية:
إنّ من المعلوم أنّ انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، قديم جدا يسبق عهد المرابطين، لكنه مع الوقت اصطبغ بصبغة صوفية معروفة بتعظيمها للشيوخ وتقديرها لأقوالهم، بل وجعلها فوق النّقد والاعتراض،
وبعد عودة محمود با1941م، حاملا معه مشروعه الإصلاحي، كان لزاما عليه أن يخالف المعهود، ليرفع لواءه الإصلاحي المعقود، فدعا إلى الرّجوع في تلقّي أحكام الدين من مصدريه الأصيلين الكتاب والسّنة، ولو خالف قول شيخ أو رأي مذهب، وقد اصطدم في سبيل ذلك ببعض الشيوخ وعقد معهم مناظرات، ليس هنا محلّ بسطها. ينظر: (الحاج محمود با مؤسس كبر ى الحركات، للباحث أبي بكر خالد با)
التّجديد في أسلوب التّدريس:
كانت فوتا _ كغيرها _ تنتهج طرق تدريس تقليدية، قد تكوّن عالما، لكنّها تأخذ منه وقتا أكثر من اللازم، فثار الحاج محمود على تلك الطرق، ودعا إلى استبدالها بطرق في التعليم حديثة، وفي ذلك يقول د. عمر باه : “كان المنهج التقليدي للدراسة، هو السائد بل هو الوحيد المعروف في حوض نهر السنغال، إلى نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات عندما رجع الشيخ الحاج محمود با ـ رحمه الله ـ
( من قرية جوول) من بلاد الحرمين، فحمل معه المنهج المدرسي الحديث إلى حوض نهر السنغال”. الثقافة العربية الإسلامية في الغرب الإفريقي.
المنهج الدراسي الّذي دعا إليه الحاج محمود يعلّم الطالب القراءة والكتابة، والأساسيات من العلوم الشرعية _ عقيدة وعبادة وسلوكا _ تكسبه مهارات للتّعلم الذاتي، وللدّعوة إلى الله حسب الطاقة.
التجديد في العمل الحركي الإسلامي:
كما سبقت الإشارة في فقرة سابقة، فإنّ الطّرق الصوفية هي التي تهيمن بشكل كامل في غرب إفريقيا، لكنّ عودة الحاج محمود باه، أضفت على ساحة غرب إفريقيا، تطبيقا للإسلام يتّسم بالحركية والشّمولية؛ فلم يحصر نفسه في الزّوايا ولم يجمد على مآثر الأجداد، بل دعا إلى إزاحة الحواجز بين العبد وربّه، وحصر دور الشّيخ في بيان كيفية العبادة لله تعالى دون أن يقدّم نفسه كوسيط للرّب، أو حامل لصكّ الغفران يوزّعه حسب الحاجة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ محمودا انتهج الشمولية في دعوته، لذلك قام بإصلاحات في جوانب العقيدة والأخلاق والاجتماع والسياسة والتربية والتعليم التي اشتهر بها أكثر، ونجح في إلحاق ثلّة من تلامذته بالأزهر الشريف، ليرجعوا بعد ذلك دعاة إلى الإصلاح في كافة مناحي الحياة، ولا أستبعد أن يكون ذلك المحرّك الأساس في ولادة الصّحوة الإسلامية الّتي طالت أصقاع السنغال، وتمخض عنها الحركات الإسلامية التجديديّة.
إنجازات الحاج محمود با _ رحمه الله:
لا يعاني الباحث كبير جهد لإبراز إنجازات الشيخ الحاج محمود با _ رحمه الله _؛ إذ يكفيه أنه مؤسّس حركة الفلاح الرّائدة في التعليم العربي النّظامي في السنغال، والّتي خرّجت الآلاف من حملة الشهادات الإعدادية والثانوية، بالإضافة إلى كوادر علمية من حملة الليسانس والدكتوراه من الجامعات الإسلامية في شتّى أنحاء العالم، وكوّنت مئات من الدّعاة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
والجدير بالذّكر أنّ صدى “الفلاح” وصل أيام محمود _ رحمه الله _ دول :الغابون والكميرون والكونغو ومالي بالإضافة إلى السنغال وموريتانيا اللّتين احتضنتا أكبر عدد من مدارس الحركة، وتذكر المصادر بأن الحاج محمود _ رحمه الله _ خلّف إرثا قوامه 76 مدرسة، و81مسجدا.
وفاته: في الرّابع من شهر يناير من العام 1978م، فاضت روح الحاج محمود إلى باريها في نواكشوط، ونقل جثمانه إلى مسقط رأسه (جوول)، بعد حياة حافلة بالمتاعب، وهمّة تعرف كيف تتخطّى المصاعب، مات محمود ولم تمت أعماله الّتي تتحدّث عنه بإجلال وإكبار.
فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنّاته، في جوار النّبي الأبرّ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.