منهج التعامل مع اختلاف العلماء في المسائل الشرعية

 بقلم الباحث/ محمد مصطفى جالو

 

 

 

 

الحمد لله الذيَِ جعل من الاختلاف السائغ ائتلافا ورحمة، والصلاة والسلام على من جعل المجتهِد في مسائل الخلاف متراوحا بين الأجر والأجرين، وعلى آله وصحبه الذين ضربوا أروع الأمثلة في التعامل مع مسائل الاجتهاد.

وبعد: فإنه لا يخفى على المعتنين بعلم الشريعة أهميةُ معرفة الطريقة المثلى التي ينبغي أن يسلكها طالب العلم في التعامل مع اختلاف العلماء في المسائل الشرعية؛ فإن ذلك مما يعينه على حفظ قدرهم وعدم الحط من مكانتهم، أو الغلو فيهم أو قبول كل خلاف وإن كان ليس له حظٌّ من النظر، كما يُسهم ذلك في تعريف الطالب مراتب المسائل الخلافية، حتى يعطي كلَّ مسألةٍ القدرَ الذي يستحقها بلا وكس ولا شطط.

ويمكن تقسيم طلبة العلم الشرعي حيال المسائل الخلافية إلى ثلاثة أقسام:

قسم يرى أن الحق في المسائل الخلافية هو ما ذهب إليه العلماء الذين يقلدهم فيها، وما خرج عنه فهو إما بدعة، أو ضعيف أو شاذ لا يجوز لأحد تعبد الله به، وهذا لا شك أن فيه تنطعا وتضييقا للواسع الذي للفهم فيه دخل.

وقسم آخر يكفيه لأن يُحكى في المسألة خلاف حتى يتخذ ذلك  وسيلة للترخص وأخذ ما يوافق هوى نفسه، ويرتب على ذلك عدم إنكار من اختار أحد القولين بحجة وجود الخلاف فيها، وغالبا ما يسوق في هذا المقام قاعدة: “لا ينكر المختلف فيه”، وهذا في الحقيقة يُعدُّ من التساهل والتشهي المنهي عنه في الشرع.

وقسم ثالث يرى التفرقة بين المسائل الخلافية السائغة والمسائل الخلافية الشاذة والضعيفة، والتي قد تكون معارضة للأدلة الصريحة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع. ولا شك أن المنهج الذي سلكه أصحاب القسم الثالث هو المنهج الصحيح الذي بيّنه العلماء في كتبهم، وقعَّدوا له قواعد، وذكروا الآداب المتعلقة بها.

ونظرا لأهمية هذا الموضوع والدور الذي يلعبه في تقليل الخلافات المحتدمة بين طلبة العلم، وتوسيع مدارك الباحث تناولته من خلال المطالب الآتية:

المطلب الأول: تعريف الخلاف.

المطلب الثاني: أنواع الخلاف.

المطلب الثالث: فوائد معرفة المسائل الخلافية.

المطلب الرابع: أسباب اختلاف العلماء في المسائل الشرعية.

المطلب الخامس: منهجية التعامل مع المسائل الخلافية.

المطلب السادس: مثال تطبيقي لكيفية التعامل مع الخلاف السائغ عند السلف الصالح.

المطلب السابع: مصنفات ترشد الطالب إلى كيفية التعامل مع المسائل الخلافية بين العلماء.

 

المطلب الأول: تعريف الخلاف: هو علم يضع القواعد والضوابط التي تساعد على حفظ الأحكام المستنبطة المختلف فيها، ومناقشة الأخرى بموضوعية وإنصاف؛ مما يساعد على إظهار الحق في المسائل وإبطال الباطل فيها([1]).

ويتبين بهذا التعريف أن الخلاف أو الاختلاف([2]) علم له قواعده وضوابطه التي يساعد الملتزم بها على الموازنة بين المسائل المختلف فيها بإنصاف بعيدٍ عن اتباع الهوى أو طعن المختلفين.

المطلب الثاني: أنواع الخلاف: باستقراء المسائل الخلافية المدونة في التراث الفقهي الإسلامي يمكن القول بأن المسائل الخلافية نوعان:

النوع الأول: الخلاف المذموم: وهو ما كان في مقابلة الدليل الصحيح الصريح مكابرةً وعناداً، أو تعصباً وجهلاً، أو اتباعاً للأهواء والشهوات([3]).

ويمكن إدراج صور كثيرة تحت الخلاف المذموم لكن نكتفي بذكر ما يأتي:

– خلاف الكفار، وهو أقبح صور الاختلاف المذموم لابتنائه على العناد والعتو والاستكبار.

– خلاف أهل الأهواء والبدع، وذلك لتركهم الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة وتقديمهم عقولهم على الشرع.

– الخلاف في المسائل التي لا مدخل للاجتهاد فيها لوجود دليل قطعي الثبوت والدلالة فيها([4]).

قال السمعاني رحمه الله تعالى: “واعلم أن القول المختلف في الحادثة الواحدة على ضربين ضرب لا يسوغ فيه الاختلاف وضرب يسوغ فيه الاختلاف.

فأما الضرب الذى لا يسوغ فيه الاختلاف كأصول الديانات من التوحيد وصفات البارى عز اسمه وهى تكون على وجه واحد لا يجوز فيها الاختلاف وكذلك في فروع الديانات التي يعلم وجوبها بدليل مقطوع به مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج وكذلك المناهى الثابته بدليل مقطوع به فلا يجوز اختلاف القول في شئ من ذلك”([5]).

النوع الثاني: الخلاف السائغ: وهو الخلاف الواقع في المسائل التي ليس فيها دليل قطعي، بحيث يكون للاجتهاد فيه دور([6]). قال الزركشي رحمه الله: “وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها، كوجوب الزكاة في مال الصبي، ونفي وجوب الوتر وغيره مما عدمت فيها النصوص في الفروع، وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد، فليس بآثم”([7]). وهذا النوع من الخلاف مع كونه سائغا ومقبولا، إلا أنه إذا صاحبه بغي أو تعصب كان مذموما([8]).

المطلب الثالث: فوائد معرفة المسائل الخلافية: إن لمعرفة المسائل الخلافية فوائدَ جمةً يمكن إجمالها في أمرين:

أولهما: التفرقة بين الخلاف السائغ الذي لا يُشدد النكير على المخالف فيه، وبين الخلاف الذي يُشدد النكير على المخالف فيه لكونه ضعيفاً أو اجتهاداً في مقابلة النص، أو رأياً مخالفاً لإجماع قطعي، فإن ذلك يفيد الطالب في مسيرته العلمية والدعوية، أو في الفتوى.

ثانيهما: توسعة المدارك والتبحر في معرفة طرق الاستنباط التي يسلكها العلماء في دراستهم للمسائل الخلافية السائغة، حيث يجد في تلك الطرق من يُغلِّب جانب الفهم والمعنى، وآخر يغلِّب جانب الوقوف على اللفظ وظاهر النص، وثالث يستعمل كلا الطريقين في الاجتهاد، فقد كان السلف الصالح رحمهم الله يعتنون بالمسائل الخلافية ويرون أن ذلك مما يجعل طالب العلم فقيهاً قال الإمام قتادة رحمه الله تعالى: “من لم يعرف الاختلاف لم يشمَّ رائحة الفقه بأنفه”([9])، وقال هشام الرازي رحمه الله تعالى: “من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه”([10]). ولذا على الدعاة وطلبة العلم الاهتمام بالمصادر الأصلية المعروفة بالاستقصاء في ذكر أقوال العلماء في مسائل العلم وأدلتهم وما أُورد عليها من مناقشات، فإن ذلك يساعدهم على معرفة حقيقة الخلاف في المسألة وطبيعته، أما الاكتفاء بكتب المعاصرين وتقريراتهم لمسائل الخلاف فإن ذلك لا يكاد يجدي كثيرا؛ لأن تناولهم للمسائل كثيرا ما يكون مبنيا على ما اختاروه ورجحوه، فإذا قرأ الداعية أو طالب العلم ما كتبه وقرره المعاصرون دون أن يكلف نفسه عناء البحث في كتب المتقدمين رسخ في ذهنه أن الحق لا يخرج عن ذلك، وأن بقية الأقوال غير مبنية على أساس من الأدلة متينٍ.

المطلب الرابع: أسباب اختلاف العلماء في المسائل الشرعية:

هناك أسباب جعلت العلماء يختلفون في المسائل الشرعية تنحصر في الآتي:

1- عدم الاطلاع على الحديث الوارد في المسألة.

 2- عدم ثبوت الحديث عنده وإن كان قد بلغه.

3- الاختلاف في فهم النص وتفسيره، وهذا يعود إلى تفاوت مداركهم وذكائهم، وطبائعهم المتباينة في الغوص في عمق النص أو الاكتفاء بظاهره.

4- الاختلاف في الاحتجاج بأصول الاستنباط، كالمصلحة المرسلة وإجماع أهل المدينة.

5- الاختلاف في القواعد الأصولية. 6- عدم وجود النص في المسألة([11]).

المطلب الخامس: منهج التعامل مع المسائل الخلافية:

تقدم أن الخلاف نوعان: خلاف مذموم وخلاف سائغ، وبما أن حكمهما مختلفان فإن المنهج الذي ينبغي أن يتعامل الطالب مع كل واحد منهما يختلف عن الآخر، ولذا يتعيَّن بيان كل واحد منهما على حدة.

لمنهج التعامل مع المسائل الخلافية المذمومة درجتان:

الدرجة الأولى: منهج التعامل مع القول المذموم: ويتم بيان ذلك من خلال نقطتين:

الأولى: وجوب تزييف القول المذموم وبيان بطلانه لمخالفته الأدلةَ الشرعيةَ الصحيحةَ القطعيةَ وروداً ودلالةً، أو الإجماعات، وذلك بذكر الأدلة والبراهين الواردة في المسألة، قال ابن رجب رحمه الله: ” مما يختص به العلماء رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها، ومن ذلك بيان ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وما لم يصح منه بتبيين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم ومن لا تقبل”([12]).

النقطة الثانية: وجوب إنكار القول المذموم لكونه محدثا لمخالفته النصوص القطعية والإجماعات المدونة في كتب العلماء، قال القرافي: “والحكم الذي ينقض في نفسه ولا يمنع النقض هو: ما خالف أحد أمور أربعة الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي”([13]).

الدرجة الثانية: لا يخلو صاحب الخلاف المذموم أن يكون من العلماء الذين شُهد لهم بالرسوخ في العلم وحسن النية، لكنه زل في هذا القول المدرج في الخلاف المذموم، ومثل هذا العالم يتعامل معه على النحو الآتي:

1- التأكد من صحة نسبة القول المذموم إليه.

2- عدم نشره بين الناس وحكايته لهم، إلا إذا كان ذلك على سبيل بيان زيفه وضعفه وبعده عن الصواب.

3- عدم جواز تقليده في هذا القول المذموم. قال ابن تيمة رحمه الله: ” إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين”([14]).

4- عدم حكايته قولا يقارن بينه وبين بقية المسائل التي لها حظ من النظر، قال الشاطبي: “إنه لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاده، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد، فهو لم يصادف فيها محلا، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا، فلذلك قيل: إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها”([15]).

5- مناصحة هذا العالم الذي زل في المسألة بطريق مناسب يدعوه إلى تقبل الحق والرضا به، وهو داخل في مناصحة أئمة المسلمين الواردة في حديث تميم الدراي رضي الله عنه.

6-عدم الحط من قدره بسبب تلك الغلطة وعدم تشنيعه، مع الوضع في الحسبان بأن ذلك لا يستلزم هجر واطراح ما عداه من العلوم التي أصاب فيها الحق([16]).

أما إذا كان صاحب القول المذموم من أهل الأهواء والبدع، أو ممن ليس له أهلية الاجتهاد والفتوى فيجب بيان مجانبة قوله الحق وهتك ستره، وقد يصل إلى العقوبة التعزيرية؛ لدخول ذلك في حفظ الدين الذي هو أعظم مقاصد الشرع([17]).

المطلب السادس:مثال تطبيقي لكيفية التعامل مع الخلاف السائغ عند السلف الصالح: انتقاض الوضوء بخروج الدم: مذهب الحنفية والحنابلة انتقاض الوضوء بخروج الدم من البدن؛ كالحجامة، بخلاف مذهب فقهاء المدينة فإنهم لا يرونه ناقضا، ومع ذلك فإن الإمام أبا يوسف الذي يرى انتقاض الوضوء بالحجامة صلَّى خلف هارون الرشيد الذي احتجم ولم يتوضأ بناء على فتوىً للإمام مالك في عدم انتقاض الوضوء بذلك، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عن إمام خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلى خلفه؟، فقال: “كيف لا أصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك”([18]).

المطلب السابع: مصنفات ترشد الطالب إلى كيفية التعامل مع المسائل الخلافية بين العلماء.

هناك كتب ترشد الطالب إلى المنهجية التي ينبغي أن يسلكها في تعامله مع المسائل الخلافية نجملها في النقاط الآتية:

1- كتب الخلاف العالي؛ ككتاب بداية المجتهد لابن رشد، وكتاب المجموع للنووي، وكتاب المغني لابن قدامة رحمهم الله تعالى.

2- كتب أصول الفقه؛ فإن فيها طرقا متنوعة نافعة للطالب في المجال، خصوصا في المواطن التي فصلوا فيها مسائل الاجتهاد وفروعه.

3- كتب مفردة في الموضوع، نذكر منها:

– رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية.

– أسباب الاختلاف في الفروع للسيوطي.

– الإنصاف في بيان الأسباب التي أوجبت الخلاف بين المسلمين، للبطليوسي.

– الإنصاف في بيان سبب الاختلاف في الأحكام الفقهية لولي الله الدهلوي.

-أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء، لمحمد عوامة.

– الخلاف أنواعه وضوابطه وكيفية التعامل معه، لحسن العصيمي، وهو قيم جدا، أصله رسالة ماجستير في جامعة أم القرى.

وأخيرا، فإن الخلاف في المسائل الشرعية ينقسم إلى قسمين:

الأول: خلاف مذموم: وهو الخلاف الذي صادم النصوص الصريحة القطعية، أو الإجماعات، أو كان باعثه الهوى والتعصب وإن كان سائغا، وصدوره من الراسخ المتبحر في العلوم جائز، ويكفي للدلالة على ذلك وجوده في التراث الفقهي الإسلامي مع التنصيص عليه بالمصطلحات التي يعرفها المتخصصون، علاوة على ذلك فإن الخلاف الشاذ الصادر من عالم راسخ يُعدُّ فتنة للطالب غير المميز، ويكون مركبا للمنحرف لموافقته هوى نفسه.

الثاني: خلاف سائغ وهو ما ليس فيه قاطع ويحتاج إلى نظر وفهم من المؤهلين، والخلاف فيه أمر طبيعي لتلعقه بالفهم، وهو أمر إيجابي إن أحسن الناس التعامل معه، ومما يعين على ذلك إخلاص النية، وجعل المرء غايتَه نشدانَ الحق لا التعصب، وكذلك الإكثار من المطالعة في الكتب المذكورة وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا الموضوع المهم.

 

مراجع الدراسة:

[1])) انظر: الخلاف (ص:52).

[2])) جمهور أهل العلم على عدم التفرقة بين مصطلحي الخلاف والاختلاف، على العكس من بعض الحنفية الذين يرون أن بينهما فرقا. انظر: البناية (6/299).

[3])) انظر: مقدمة محقق كتاب تهذيب المسالك (90).

[4])) انظر: الخلاف (ص:57-59).

[5])) قواطع الأدلة (2/326).

[6])) انظر: الخلاف (ص:60).

[7])) البحر المحيط (8/282).

[8])) انظر: الخلاف (ص:60).

[9])) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (2/814).

[10])) المصدر السابق.

[11])) انظر: مقدمة محقق كتاب تهذيب المسالك (1/111-159).

[12])) جامع العلوم والحكم (1/223-224).

[13])) شرح تنقيح الفصول (ص:441).

[14])) الفتاوى الكبرى (6/93).

[15])) الموافقات (5/139).

[16])) انظر: الخلاف (ص:215-222).

[17])) المصدر السابق (ص:177).

[18])) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (23/375).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.