معضلة العنف في مؤسساتنا التعليمية (قراءات في المنظور السيكولوجي)
بشير سيسه
تمثل المؤسسات التعليمية في جميع الدول محورا للاهتمام؛ باعتبارها مؤسسة تربوية اصلاحية تهدف إلى بناء أجيال متسلحين بالعلم والمعرفة والقيم الانسانية النبيلة ، وقد أصبحت هذه المؤسسات (الجامعات والمدارس والمعاهد) ضرورية في عصرنا الراهن ؛ بل أصبح جزء لا يتجزأ من جسد أيّ مجتمع ،ولا يمكن لأية أمة الاستغناء عنها ؛ لأنها المسؤولة عن اعداد كوادر المجتمع في شتى ميادينه ومختلف تخصصاته العلمية والانسانية ، وهي التي تمدّ أيّ مجتمع بعلمائه في جميع المجالات ، لولاها لماتحققت تلك التطورات والانجازات العلمية التي نعيشها حاليا، ولا تقتصر اعدادها للطالب من جانب المعرفة والعلم فحسب ، فهي تسعى أيضا إلى اعداد الفرد اعدادا متوازنا في جميع الجوانب ، المهمة في تكوين شخصية سوية مثل الجانب الانفعالي والخلقي والسلوكي.
وبالتالي تستند مؤسساتنا التعليمية في عملية بناءها المعرفي والانساني إلى فلسفة المجتمع السنغالي ورؤيته ؛ هي بناء مواطن صالح لوطنه ، مواطن يشارك في دفع عجلة وطنه نحو الرقي والازهار، واللحاق بعجلة التغيير المتسارعة في العالم .
ولقد كانت المؤسسات التعليمية في السنغال قبل سنوات قريبة مثالا للانضباط والكفاءة والجودة الدراسية، وكانت مشهودة بدورها الطليعي في البناء الانساني والحضاري ، وفي اعداد الفرد اعداد متوازنا ، ولم يكن معضلة العنف من المشكلات السلوكية لدى المؤسسات التعليمية، فقد سعت منذ نشأتها إلى بناء مواطن متسلح بالعلم والمعرفة والقيم الانسانية النبيلة ، موطن لا يعرف للعنف سبيلا ولا للكراهية طريقا ، مواطن يكرس قيم السلام والتسامح ، وربما هذه الأهداف التي نجحت نوعا ما في تحقيقها هي التي أعطت لدولتنا سمعة طيبة على المستوى الافريقي ، بيد أن هذه السمعة للأسف، بدأت تتشوه في الآونة الآخيرة ، فقد لوحظ في السنوات الأخيرة تزايدا واضحا في ممارسة فئة من الطلبة العنف في المؤسسات التعليمية ، ويتمثل هذا العنف في الصراع بين الطلبة في ميادين الاجتماعات ،والنقاشات الحادة، أو المواجهة البدنية، والمظاهرات التخريبية ، ويصل الأمر أحيانا إلى درجة سفك الدماء وازهاق الأرواح ،كما حدث لطالب “بالا غي” و”بشير فاي ” وغيرهم من الطلبة الذين وقعوا ضحايا لهذا العنف الجامعي والمدرسي ، و كأن مؤسساتنا التعليمية تحولت في السنوات الأخيرة إلى ساحة للقتال والعراك ، وحلبة لاظهار البطولة والشجاعة؛ بل الأمر تفاقم في رئاسة ” ماك صال” أكثر، ووصل الى درجة لم يكن أحد يتصورها من قبل؛ حيث أصبح العنف والارهاب يعتبر السلوك الرسمي لحل المشكلات في جامعاتنا وفي مدارسنا ؛ يعتدي الرجل الأمني على الطلبة دون رحمة ،ويعتدي الطالب على زميله، أو يعتدي على مرافق المؤسسات وممتلكات الدولة ،كما يعتدي عضو هيئة التدريس على طلابهم.
أكيد هذه المعضلة ليست وليد اللحظة؛ بل هي محصلة لتفاعلِ عديد من المتغيرات، ، منها ، ما هو متعلق بالعوامل النفسية والاجتماعية وعوامل اقتصاد الطالب وثقافته ، ومنها ما هو متعلق بالبيئة التعليمية وما فيها من مناهج وأنظمة تعليمية وعلاقات الطالب مع عضو هيئة التدريس .
وينسب تنامي هذه الظاهرة جانبا إلى الاسلوب الأوتوقراطي الديكتاتوري الذي يستخدمه جل مؤسساتنا التعليمية في التعامل مع الطلبة ، وعدم تحمل بعض المؤسسات التربوية بمسؤولياتهم تجاه الطلاب، اضافة الى سوء السياسة الاستقبالية ، فالدولة تريد استقبال عدد لا تستطيع الجامعات أو المدارس تحملها ، فقد أصبحت الحكومة تتباهى بكمية الطلبة الملتحقين بالمدارس والجامعات وعددهم أكثر مما تتباهى بنوعية الدراسة وكيفيتها وجودتها وظروف الطلبة ،وقد أدى ذلك الى أن كثرت عدد الطلاب والطالبات في سكن الجامعات وفي قاعة المحاضرات والفصول الدرسية، واتساع أوقات الفراغ لدى الطلبة، وعدم قيام المحاضرين بواجباتهم المتعلقة بالتدريس والتصحيح لكثرة أعداد الطلبة.
و يمكن اعتبار هذا الازدحام من أكثر الأسباب المولدة للعنف في شخصية الطالب ؛ حيث تشير كثير من الدراسات النفسية إلى أن المناطق الأكثر ازدحاما هي المناطق الأكثر مولدا للعنف ، وهذا الدراسات وان كانت طبقت على مجتمع مختلف عن مجتمعنا من حيث الخصائص والقيم الا نتائجها يمكن اعتبارها نتائجا منطقية قابلة للتطبيق على أرض مجتمعنا ؛ لأن الازدحام السكني من شأنه أن يولد الاحباط في نفسية الطالب ،و الإحباط يؤدي حتما إلى ظهور العنف لدى الإنسان، ويمكننا أن نقول بأن العلاقة بين الازدحام والاحباط والعنف علاقة سببية ثلاثية القطب.
ومن جانب أخر يعد الحرمان من أكثر العوامل النفسية التي أدت الى تنامي هذه المعضلة في مؤسساتنا التعليمية ، فشعور الطالب بالحرمان من حقوقه ،مكافاته ، مسكنه ، وجودة التعليم ، قد يجعله يقوم بتصرفات عنيفة قد تكون في بعض الأحيان لاشعورية بقصد التعويض عن هذا النقص والحرمان الذي يعاني منه ، فحينما يحرم الفرد من مكافأته مثلا يندفع نحو العدوانية لإشباع هذه الدافع الفيسيولوجي . وهذا الاندفاع اللاشعوري يعتبره النفسانيون أمرا طبيعيا جدا في طبيعة الانسان.
وبالتالي إن أي عائق يحول دون تحقيق او اشباع حاجات الطالب ورغباته كحرمانه من مكافأته أو حقوقه يمكن أن ينمي لديه الشعور بالاحباط ، وقد يستمر هذا الشعور في شخصية الطالب إذا وجد الظروف المعززة له فيصبح العنف وسيلة بنسبة اليه لاستجابة تعويضية عن الاحساس بالنقص او الضعف.
وقد نجد طالبا يشارك في المظاهرات بدافع الحرمان والاحباط المتكرر ، وقد يبالغ فيها مبالغة شديدة ، لأن السبب الوحيد الذي جعله يشارك في هذه المظاهرة هي البحث عن منفس لتنفيس تلك المشاعر والاحباط الكامنة في لاشعوره .
ولأجل هذا يجب على مدراء الجامعة والمدارس ومسؤولي التعليم من الحكومة أن يكونوا مفتوحين مع الطلاب والمدرسين ،وأن يعطوا لهم فرصة للتعبير عمافي داخلهم مع تحقيق مطالبهم المعقولة ، لأن كبت المشاعر التلقائية وعدم توفير الفرص المناسبة للتعبير والحوار وقبول الرأي الآخر ممايؤدي الى التنفيس عبر العنف .
ويلاحظ أن العدوان لا يكاد يحدث في الجامعات أو المدارس الخاصة، وإن وجدت فنادرا جدا، وتحدث لأسباب لا مناص منها ،ويعود السبب إلى حسن السياسة والتشدد في مراقبة الطلبة والمدرسين، مع وضع عقوبات صارمة تصل الى درجة فصل طالبٍ، أو مدرس مائل عن سياسة الجامعات.
إن جامعاتنا الحكومية للأسف أشبه بغابة واسعة تتواجد فيها جماعات لها انتماءاتها الفكرية والسياسية ، وغالبا ما تسلك هذه الجماعات العنف لا ثبات وجود ها، مثل هذه الجماعات لاتفيد معها سوى العقاب.
ومن جانب آخر تلعب المحسوبية والوساطة دورا بارزا في مؤسساتنا التعليمية ، فكثير من القوانين واللوائح الجامعية شكلية ومجرد رموز لا يطبق إلا على أبناء الفقراء والمساكين، قد يطرد طالب بسبب سوء أدبه، بينما يرتكب طالب آخر جريمة اغتصاب أو قتل دون أن يتلقى العقوبة ؛لأن لها قرابة مغ وزير فلان أو علان .
و ينبغي أن تكون القوانين والتعليمات والأنظمة الجامعية والمدرسة عامة تطبق على الجميع بلا استثناء ، لأن الطالب الذي يطبق عليه قوانينا لا يطبق على بعض الطلبة من شأنه أن ينمي في سيكولوجيته مشاعر عدوانية ضد الجامعة أو المدرسة ومن فيها، وقد يقوم بتخريب ممتلكاتها ، أو مهاجمة على الأخرين من أجل اظهار مشاعره وغضبه.. فكثير من جامعاتنا متهاونون جدا في مجال تطبيق العقوبات على الطلبة، وقد لا يطبقونها الا على أبناء الفقراء والمساكين كما أشرنا .
فالتشدد على تطبيق العقوبات في البيئات التعليمية وتعميمها على الجميع ( المعلمون والطلاب والعمداء) أمر مهم جدا لضمان استمرارية الروح التسامحي الاجتماعي .
فجامعاتنا تتميز بوجوب التنوع الثقافي ، وهذا التنوع -وان كان أمرا محمودا- يجعلنا نتوقع بانحرافات سلوكية عند البعض منهم مالم يكن هناك عقوبات صارمة رادعة.
وأخيرا أدعوا الباحثين الى تناول مثل هذه الدراسات ، فالأسباب السيكولوجية المذكورة في هذه العجالة ليست سوى ثلاث من بين مئة أسباب ساهمت في تنامي هذه الظاهرة ، والبقية للباحثين ؛ علنا بذلك نكون قد ساهنا بلبنة للحيلولة دون تسرب هذه الظاهرة.