بقلم السماوي ،،،،،
عند غار حراء، الغارق في صمت الصّحراء. هذه البقعة التي امتصّت البركة من أقدامه عليه الصلاة والسّلام. ونالت شرف الذّكر في التاريخ، و سائر أرشيف الحضارات. في أحضان هذه البقعة المطلّة على رملٍ أصمّ حزين؛ الذي أنهكته مشاهدةُ أبشع وأفظع سيناريوهات في الانتكاس البشري، والبؤس الانساني، والتمييز العنصري. كان رسول الايمان، وحاضن الرّسالة العظمى إلى الانسان، عليه الصلاة والسلام، يرتمي كالظلّ الممتدّ، كيْ لا يُورّط نفسه في موسيقى الانتماءات، والطائفيات، والمنكرات، وسائر عادات اللاإنسانية؛ التي كان الانسان يطبّقها، ويمارسها على أخيه الانسان حرفا حرفا.
ثمّة حسّ مُرهفٍ قويّ، كان يتسرّب في ذاته الطّاهر، وهو يعطي شرف اللّقيا للمسافة؛ بين دار خديجة رضي الله عنها، وغار حراء. إنّه الشعور بالنّبأ العظيم، والحدس بضرورية إعادة تشغيل فطرة الانسان، وصناعة الانسانية، التي انصهرتْ، وتلاشتْ، تحت لعنة الظلمات، ودناءة العادات والثقافات.
(اقرأ باسم ربّك الذي خلق) إنّ أعماق رنين هذا الصّوت اللاّعاديّ، الذي أتى من كائن لا يُرى منه إلاّ الجمال المزوج بالطهارة، والقداسة، وشذرات نور الإله، وأجنحته الطاهرة البيضاء، التي ملئت الكون، عند ذلك اللقاء التاريخي العظيم؛ اللقاء الأكبر بين كلام المنّان، وقلب الانسان. ( بين سفير الخالق وممثّل المخلوقات ) إنّها نبرات أشهرُ كائن في عالم الملائكة. سفير السّماء إلى كهوف الأنبياء، جبريل عليه الصلاة والسّلام. تاه رسول النور، وينبوع الخير، عليه الصّلام والسلام، بين مفهوم القراءة، واستحضار معنى القلم. إذ أنّه أمّيّ، لم يقرأ ولم يكتب مطلقا. بعد المعاناة الحارّة، التي لا تصمد أمام أضراسها إلاّ أرواح الأنبياء، والمكابدة تحت رزْحة ألم الضمّة الشديدة، عند تلقّي أولى هديّة سماويّة إلى بني الانسانيّة. وبعد اقشعرار فؤاده الكبير، بهذه الآيات العظيمة، التي جاءت من علياء السماء، لتتحدّى جميع قواميس الفصاحة والبلاغة، والعطاء التاريخي للأمم والحضارات السابقة؛ ولإنتاج جيل إيمانيّ فريد؛ هرب إلى غرفة خديجة (الأمّ الأولى للدعوة الاسلامية ) للبحث عن ذاته الشّريف، الذي انسلخ منه مباشرة، لمّا رأى أجنحة جبرائيل عليه السلام، تسدّ الآفاق، والأجواء، في تلك البقعة البريئة.
يا سيّدي يا رسول الله! يا حامل خمائل الأنوار المشرقة إلى ضمير الانسان ! ليس لي فرصة النظر إلى ملامح وجهك الوضّاءة، ولم يسمح لي الزّمان، ولا المكان، بلقاءات ومواعيد، للجلوس معك، حتى أقرأ لك، في حضرتك الحبلى بفيضان الرحمة والقداسة؛ هذه الرسالة التي بداخلي، رسالة الحبّ والعشق، التي كتبتها بثنايا القلب، وليس بمجرّد قلم صارخ. فعندما نكتبُ عنك يا سيدي، ومولاي، حبيب الله، فالكلمات، والمعاجم، تُطلق نشوة طاغية، وضحكة عابرة، وتُعيد لنا تعريف السّعادة . يا أعظم روحٍ نُفختْ في بطنِ إمرأة، من الأزل إلى الأبد، ستبقى الشخصية.. الأكثر حضورا، وذكرى، في ذاكرة التّاريخ الكامل. فأنت تمثّل الجانب المشرق، والفضل الباذخ، للتاريخ البشري الممتدّ. يا رسول الله ! أنت رجل الحقيقة الواحدة، الذي لم يتبدّل، ولم يتلوّن، ولم يتشاوم بقضيته الكبرى وكلمته العظمى. إن قوّة رسالتك العالميّة، كانت نابغة من باطنك الذي يضجّ بماء الايمان…إلى حدّ السيلان. فقوّتك لم تُبنَ على أساسِ الظروف، ولا الشروط، ولا المعطيات، فقد كنتَ صريحا مع الانسان، ومع هذا العالم، منذ اليوم الأوّل، وتلوتَ رسالة الاسلام ، بأندى صوت، دون الالتفات إلى حجم الحقد، والكنّ، والغضب، الذي كانت قوّات الشرّ، تضمره لك، أنت وجماعته القليلة. ( وما أرسلنك إلاّ رحمة للعالمين) فعولمة المشروع الاسلامي، منذ طفولته، هو أكبر شيء حدث في تاريخ المشاريع النبيلة، والقضايا الهادفة . أنت أشجع قائد مشى على وجه هذه البسيطة العذراء، وأعظم أستاذ علّم الأمم والشعوب، معنى الثقة بربّ السماء، والثقة بالنّفس.
أصعب ابتلاءاتك، وامتحاناتك، ليس الوحشة في مدارج الدعوة. ولا مراراة الطرد من أرض الأمّ وذاكرة الصّبا. ولا الضعف وهزالة جماعة الدّعوة في بداية أمرك. ولا العذاب الذي تلقّيته من الكفّار، والجاحدين. بالنسبة لي أعظم ابتلاء لك هو (النّصر) ذلك اليوم المشهود، الذي فتحتَ فيه المكّة المكرّمة، وأصبحت السيطرة، والسلطة، ومقاليد حكم هذه القرية، التي مارستْ ضدّك، وضدّ أصحابك، كلّ أنواع التضييق والنبذ، والعذاب الجسدي، والنّفسي. يوم الفتح العظيم كان سعد ابن عُبادة رضي الله عنه، يحمل اللواء، ويقول.. وهو متوعّدا ومنذرا بالويل والثبور والمجزرة ( اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلّ الحُرمة ) فقلتَ له بصوت تفوح منه رائحة الحنان والتّحنان (كلاّ يا سعد، بل اليوم يوم المرحمة ) يقول المؤرّخ الأمريكي واشنطن إرفينغ( ليس ثمّة من يضارع محمّد ابن عبد الله في السّماحة، إنّه أكثر شخصية تاريخية، تسامحا مع خصومه، وأعدءه، في لحظات ضعفه، وفي لحظات قوّته وانتصاره) ينادي بنبرة الرحمة، وهو يذرف دموع الخشوع، والخضوع، لربّ العالمين ( يا معشر قريش ماذا تطنّوني أنّي فاعل بكم ) قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم. لأنّ قريش يعرف أنّ عقيدته الاستراتيجية ليست مبنيّة على الانتقام، وبسط الذّات، وتفخيم الأنا، وتوظيف القوّة العسكريّة، لهدف تخويف القوى الدّولية، وصناعة الرّعب في سيكولوجية الجماهير . قال( إذهبوا فأنتم الطلقاء ) هذا الرّسول وُلد في ضوء التاريخ الكامل، كما اعترف بذلك المفكّر الفرنسي ( ارنيست رينارد) الحامل الأكبر للواء العنصريّة والكراهيّة( إسلام فوبيا) ضدّ الاسلام .
يا رسول الله سامحني على محاولة ترجمة حبّي، وشغفي لك، بهذه الشذرات الخجلة، العارية من الجمال، والماء الصافيّ. فقد عكّرتُ صفاء اسمك الخالد، وعظمتك الخرافيّة، بنقله إلى الورقة