كتاب: (الخطاب الدعوي بين الواقع والمأمول: السنغال نموذجا) قراءة في الشكل والمضمون

بقلم/ الحسين كان الفوتي

 

أولا- توطئة:

تشهد السنغال في العقد الأخير حركة تأليفية تصب اهتماماتها حول التراث المحلي؛ حيث عني الباحثون في رسائلهم الجامعية، والكتاب في مؤلفاتهم الفردية أو الجماعية بمعالجة ما يمس الواقع السنغالي، سواء على المستوى الديني أو السياسي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، أو الأدبي…، وهو أمر في غاية الأهمية، إذا تم ترشيده وتقويمه لكيلا يكون تضخما كميا، بل نريده تضخما كيفيا.

ومن بين الكتب الجديدة على الساحة (الخطاب الدعوي بين الواقع والمأمول: السنغال نموذجا)، للأستاذ محمد علواني سليمان من مصر. ويتناول موضوعا يتطلب أساسا معرفة اللغة المحلية في السنغال كالْوُلُفِيَّة الأكثر انتشارا، ويتواصل بها أكثر السنغاليين، الأمر الذي شكل عائقا يمكن تلمس أثره في بعض جزئيات الكتاب من خلط في أسماء أشخاص، أو إعطاء اسم علم لمكان وكذلك العكس.

لكن يشفع للمؤلف أنه يعيش في السنغال منذ عام 2015م واحتك بالناس في الأسواق والتجمعات وفي المساجد، وبالدعاة في ملتقياتهم، وبالتلاميذ في بعض المعاهد… مما قد يسعفه للكتابة عن موضوع من هذا النوع، على أنني لا أستطيع الحكم على مستوى إتقانه للغة المحلية؛ إذ اللغة العربية هي لغة التواصل بيننا منذ أن تعارفنا على وسائل التواصل الاجتماعي، والتقيت به لأول مرة في يوم عيد الأضحى المنصرم في دوارة كَمْبَرِينْ بدكار. وأهدى إلي نسخة من هذا الكتاب على أمل إبداء ملاحظتي بعد الفراغ من قراءته. ونزولا عن رغبته وافقت لأستفيد من دراسته القيمة عن الخطاب الدعوي في السنغال.

ثانيا- قراءة في الشكل:

1- أصل الكتاب:

الكتاب في الأصل رسالة الماجستير، نوقشت يوم الخميس 2 يونيو 2022 بجامعة القرآن العالمية، ونشرته دار لوتس Lotus في مارس 2023م، ويحتوي الكتاب على 400 صفحة. قام بتقديمه الشيخ سيدي غالي لو – حفظه الله –

2- تقسيماته:

قد قسم المؤلف كتابه إلى تمهيد وفصلين وخاتمة، تناول في التمهيد مفهوم الخطاب الدعوي وشرعيته وأهميته وأهدافه، وتطرق إلى نبذة عن السنغال [ص: 14- 29].

وأما الفصل الأول فقد عنونه بـ(أركان الخطاب الدعوي) تناول فيه المخاطِب والمخاطَب والرسالة ومنهج الدعوة، كما رسم ملامح كل ركن وما ينبغي أن يتميز به ويمتلكه من أدوات علمية ومنهجية [ص: 30-189].

فيما عنون الفصل الثاني بـ(الخطاب الدعوي في السنغال بين الواقع والمأمول) وهو لب الكتاب، حيث تحدث عن واقع الدعوة والدعاة، والموروثات الدينية والثقافية، وصراع الهوية والذات داخل المجتمع السنغالي، كما شخص تحديات الخطاب الدعوي، واقترح له حلولا تساهم في ترشيده والرقي به. [ص: 190- 379).

وقد خٌتم الكتاب بنتائج توصل إليها المؤلف، وتوصيات تلح الحاجة إليها.

3- مصادر الكتاب:

استقى المؤلف معلوماته من القنوات الآتية: النزول في الميدان، وعقد لقاءات مع دعاة وكتاب ومفكرين من دولة السنغال، وإجراء مقابلات شخصية، ومكالمات هاتفية، ومراسلات علمية مع بعض الكتاب، [ص: 13]. وتأكيدا على هذا الأمر فقد راسلني المؤلف عدة مرات لمدارسة مواضيع عن الدعوة وواقعها، وكذلك فعل مع باحثين وكتاب آخرين كما هو جلي في ثنايا الكتاب وهوامشه.

وقد أشار المؤلف إلى عِظَمِ استفادته يوم 8 أكتوبر 2021 من 18 دعاة شاركوا في مخيم نظمه مكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي في السنغال، حيث قدم لهم استبيانات تحتوي على تساؤلات لصيقة بموضوع الكتاب، الأمر الذي كان له طيب الأثر في جودة دراسته [ص: 191- 192].

ثالثا- قراءة في المضمون:

1- مميزات الكتاب:

يمتاز هذا الكتاب بعدة أمور جعلت منه جديرا بالقراءة والاستفادة، ومن أبرز هذه المميزات ما يلي:

أ- أهمية موضوعه وهو الخطاب الدعوي في السنغال، وهو موضوع حساس، ذلك أن في الساحة أصنافا من الخطابات، يميل بعضها إلى الجمود والجفاء، وبعضها إلى التشدد، وبعضها إلى الخرافية والتميع، وبعضها لا تراعي المقاصد الشرعية ولا الحقائق العرفية ولا التحديات المحلية…لذلك فإن أية دراسة جادة في سبيل تجديد هذا الخطاب والرقي به، بحيث يعود يجمع بين قراءة النص وحيا، وقراءة الواقع تأملا ونظرا، فيوازن بين القراءتين مستنبطا حكما شرعيا يجلب مصلحة ويدرأ مفسدة فمرحب بها.

ب- كما يمتاز الكتاب بحسن توزيع أجزائه، وتسلسل أفكاره، وسلاسة أسلوبه، وبساطة ألفاظه ومصطلحاته وتركيباته.

ج- الحس المقاصدي الذي تتلمسه في ثنايا قراءة الكتاب، والنقولات النفيسة من علماء تشبعوا بمقاصد الشريعة الإسلامية تنظيرا وتطبيقا، الأمر الذي يعكس مدى أهمية تقصيد الخطاب الدعوي، لكي يلائم مقصود الشرع ومراده.

د- الإنصاف مع البعد النقدي، فالكتاب ليس سرديا، بل فيه إنصاف ونقد لبعض المقولات والممارسات والاعتقادات الخاطئة، ومن ذلك:

  • إنصافه في تناول مكانة التصوف وعمق وجوده في الذاكرة الدينية للشعب، كما دعا إلى إدراك ذلك وعدم فتح جبهات المعاداة له؛
  • نقده لمقولة ناشر التشيع في السنغال ” المعمم عبد المنعم الزين”، [ص: 220]؛
  • نقده لما رتب على صلاة الفاتح أو جوهرة الكمال من فضائل لم ينزل الله بها من سلطان [ص: 234-235]؛
  • نقده لجماعة بَايْفَالْ المحسوبة على الطريقة المريدية، والتي ترى أن التكاليف الشرعية كالصلاة الوصوم لا تجب عليهم، كما أن تعاليم مؤسس الطريقة المريدية تخالف مع عليه هذه الجماعة [ص: 238].
  • نقده للجمعيات الإسلامية وبيان جوانب تقصيرها في التأهيل المناسب للدعاة؛

 

2- مؤاخذات على الكتاب:

لا يخلو أي عمل بشري من مآخذ ونقائص، فالإنسان جبل على النقص والخطأ، وقد أبى الله أن يتم إلا كتابه كما قال الشافعي – رحمه الله -.

وقد لاحظنا أثناء قراءة الكتاب عدة أمور لنا فيها وجهة نظر مخالفة للمؤلف، وهي لا تنقص من قيمة الكتاب شيئا، بل تزيدها إحكاما وضبطا، حتى يتسنى للمؤلف أخذها بعين الاعتبار في الطبعات القادمة، فالكتاب يحيى بتدارسه ونقده، ويندرس بغير ذلك.

ومن جملة تلك المؤاخذات ما يأتي:

المؤاخذة الأولى: الخلط بين (التكلور) و(بول) واعتبارهما عرقين مختلفين، ص: 27

والصواب أن هذا تصور غير صحيح، فهم من عرق واحد هو (الفلان) وهم مجموعة بشرية ذات تاريخ عريق وإسهام جليل على مر التاريخ واقتران قوي بالإسلام وباللغة العربية[1]، ويطلق عليهم أسماء عدة منها: فُولْبي (Fullbe) ومفرده بُلُّ (Pullo)، وتَكْرُورْ، وتسمى اللغة التي يتكلمون بها (بُلَارْ- Pulaar)، ولهم وجود مكثف في كل من تشاد، الكاميرون، نيجيريا، نيجر، بوركينا فاسو، مالي، غينيا، موريتانيا، السنغال، غامبيا، غينيا بيساو…[2].

المؤاخذة الثانية- ذكر المؤلف أن الإسلام دخل في السنغال عن طريق المرابطين، ص: 193.

والصواب أن دخول الإسلام في السنغال كان سابقا للمرابطين، وقد تنوع مجال النظر فمن الباحثين من يربط دخوله في السنغال بحركة الفتوح الإسلامية في إفريقيا في عهد عمرو بن العاص، فهم يرون أن الإسلام وصل إلى السنغال في القرن الأول الهجري بعد وصول جيوش عقبة بن عامر إلى ضفاف نهر السنغال، وممن تبنى هذا الرأي:

  • أمين توفيق الطيبي في كتابه (دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والأندلس، ص: 302)
  • والمؤرخ السنغالي الشيخ موسى كمرا، حيث قال معقبا على ذلك: «هذا ما تواتر عندنا، وأخذناه عن الثقات الذين يخرجون من بلاد فُوتَ. أعني العلماء منهم»[3].
  • والأستاذ أبوبكر خالد باه في كتابه “نبذة من تاريخ فوتا السنغالية”: حيث قال: «إن الرواية المتبادلة بين السنغاليين هي: أن الإسلام وصلهم من تيار جيش عقبة؛ بدليل أن صحراء لمتونة المذكورة هي الصحراء المشتركة الآن بين آهالي “فوتا السنغالية” وأعراب الشمال من المغاربة الذين يعيشون في كثبان تلك الصحراء قرب ضفاف نهر السنغال»[4].

كما أن من الباحثين من يربط دخوله باعتناق بعض الملوك الإسلام مع شعوبهم، فهؤلاء يؤرخون لدخول الإسلام في السنغال بإسلام ” وارجابي” الذي أسلم وأقر بالشريعة الإسلامية في مملكته.ومن أصحاب هذا الرأي البكري في كتابه (المسالك والممالك): «ويلي مدينة صنغانة ما بين الغرب والقبلة على النيل مدينة تكرور. أهلها سودان، وكانوا على ما كان عليه سائر السودان من المجوسية وعبادة الدكاكير، والدَّكُّور عندهم صنم، حتى وليهم وار جابي بن رابين فأسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام وحملهم عليها وحققوا بصائرهم فيها وتوفي وار جابي سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة 432هـ/1040م فأهل تكرور اليوم [أي في عام: 1067م] مسلمون… أسلموا على يد وار جابي رحمه الله» [5].

ورأي ثالث – يربط دخوله في السنغال بحركة المرابطين، في القرن الحادي عشر تحت قيادة عبد الله ابن ياسين المتوفى عام 1059م[6].

وهناك تفاصيل لا يسع المقام لذكرها، فالنتيجة التي نريد التوصل إليها هي أن ربط دخول الإسلام في السنغال بالمرابطين لا يستند إلى دليل علمي لأمور منها:

1- أن الدراسات العلمية تؤكد انتشار الإسلام في السنغال قبل مجيء المرابطين [7]، فقد ذكر ابن أبي زرع الفاسي في كتابه الأنيس المطرب بروض القرطاس ما يؤكد وصول الإسلام إلى الغرب الأفريقي قبل قيام دولة المرابطين، وذلك في معرض حديثــه عن سبب مقـدم عبد الله بن ياسين إلى بلاد السودان الغربي. قال: «أراد الرحيل عنهم إلى بلاد السودان الذين دخلوا في الإسلام، إذ كان الإسلام بها قد ظهر» [8].

2- أن عبد الله بن ياسين لم يصل إلى ضفاف نهر السنغال سوى غضون سنة 1043م مع العلم بأن الملك “وارجابي” الذي وافته المنية سنة 1040م قد ترك وراءه مملكة تكرور الإسلامية التي كانت اللغة العربية تستعمل في مدارسها ودوائرها التعليمية [9]. ما يعني دخول الإسلام في السنغال قبل مجيئهم.

3- أن المرابطين في حملتهم الدعوية اتخذوا مدينة “اندر” السنغالية قاعدة حربية لهم؛ ليعدوا ما استطاعوا من قوة، بعد أن ارتدت فئة قليلة من البرابرة، فدل رباطهم في اندر السنغالية على أن الإسلام كانت له مكانته ومركزه القوي في المجتمع وأنه انتشر بينهم، وتشربته نفوسهم.[10]

وبناء على ما ورد، فأقرب الرأي إلى الصواب هو أن الإسلام دخل في السنغال في وقت مبكر جدا يرجع إلى النصف الثاني من القرن الأول الهجري، ثم تغلغل تماما منذ القرن الخامس الهجري أي بداية القرن الحادي عشر الميلادي قبل حركة المرابطين، ثم أدى المرابطون دورا رئيسا في ترسيخ قدم الإسلام بالدعوة إليه ونشره في ربوع القارة الإفريقية بما فيها السنغال[11].

المؤاخذة الثالثة- عدم توثيق بعض المعلومات:

يؤاخذ على المؤلف أنه قد يورد معلومات – نعرف مظانها – لكن لا يعزرها ولا يحيل إليها، كما توجد على سبيل المثال في ص: 218 و219، وكانت الموضوعية تقتضي الإشارة إلى مصدر تلك المعلومات التي معظمها من كتابي الأستاذ عبد القادر سيلا -ر حمه الله- مثل: “المسلمون في السنغال: معالم الحاضر وآفاق المستقبل”، و”ومنعطفات الصحوة الإسلامية في الساحل: السنغال نموذجا”.

المؤاخذة الرابعة- إهمال الطريقة القادرية عند حديثه عن التصوف في السنغال.

يلاحظ أن المؤلف في معرض حديثه عن الطرق الصوفية وعن أعلامها وانتشارها في السنغال نجد أنه خصص 10 صفحات للحديث عن حضور الطريقة التجانية والمريدية ، وتعرض للطريقة القادرية في ثلاثة سطور فقط [ص: 229-239].

وهذا منهج غير علمي، وخاصة إذا أدركنا أن الطريقة القادرية هي أقدم طريقة صوفية دخلت في السنغال. فقد وصلت القادرية إفريقيا الغربية في القرن الخامس عشر الميلادي على يد مهاجرين كانوا يتخذون واحة “تَوَاتْ” بجنوب غربي المغرب مركزا لهم، ثم انتقل هؤلاء إلى ولاتة بجنوب شرق موريتانيا – فجعلوا منها أول مركز لطريقتهم، ومنها انتقلوا بعد حين إلى تمبكتو بدولة مالي الحالية [12]. وقد ساهم الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي (1425-1504) دورا كبيرا في نشر الطريقة في إفريقيا الغربية[13]. ومنه أخذ سيدي اعمر الشيخ بن الشيخ أحمد البكايْ[14] الطريقة القادرية[15]، ونشرها في موريتانيا لأول مرة[16]. كما عرفت الطريقة أوجّها مع الشيخ سيد أحمد الكنتي[17].

ومن موريتانيا دخلت القادرية إلى السنغال في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، بسبب نشاط أسرة الشيخ سيدي مختار الكنتي تـ(1862) والشيخ محمد الفاضل تـ(1869). أصبحت كجور، ومعظم الأقاليم السونيكية وقبيلة الماندينكا في زيغينشور وكولدا بلادا قادرية[18].

وقد بقي القادريون السنغاليون موزعين بين الزعامتين: الكنتية[19] والفاضلية[20]، بيد أن الأولى تتمتع بميزة كونها وطنية في حين تمارس الأخرى نشاطات في السنغال عن طريق الشيوخ التابعين لزاوية الشيخ محمد الفاضل وممثلي الخليفة العام الساكن بقرية النمجاط في موريتانيا، وأيضًا عن طريق الجمعيات القادرية، وقد ازدادت نشاطات هذه الجمعيات أخيرًا انطلاقًا من مدينة تياس[21] حيث أُنشئ اتحاد للجمعيات القادرية المحلية بهذه المدينة.[22]

 فطريقة بهذه العراقة الوجودية في السنغال لا ينبغي تخصيص ثلاثة سطور لها.

المؤاخذة الخامسة – ركيزة غائبة عند الحديث عن ظاهرة التسول في السنغال:

من جوانب التقصير في الحديث عن ظاهرة التسول [ص: 296] إغفاله تلك الشريحة الكبيرة التي تمثل أغلب المتسولين في السنغال ممن لا يحملون الجنسية السنغالية، بل نزحوا إلى السنغال من الدول المجاورة أفواجا مع أسرهم، وبعضهم ينتحلون التشيخ، ويستغلون الصغار الذي يحضرونهم، فيتسكع بعضهم في الطرقات، أو البيوت المهجورة، أو التي قيد البناء. ولا زالت هذه المعضلة قائمة، مما يستدعي على الجهات المعنية اتخاذ إجراءات مناسبة تجاه هذه الظاهرة.

المؤاخذة السادسة – خطأ في فهم من هم “الدِّينِيَنْكوبي”، ص: 304

يلاحظ أن الكاتب في معرضه حديثه عن الجهاد المسلح ضد الوثنيين، يعتقد أو يظن أن الدِّينِيَنْكوبي منطقة أو قرية، حيث قال عن جهود الشيخ سليمان بال: «حيث تكمن من القضاء على الحكم الوثني في دينيان كوبي وأقام بها دولة إسلامية».

والصحيح أن الدِّينِيَنْكوبي مملكة قامت في فوتا تورو وحكمت المنطقة قرابة قرنين [1553م – 1776م] وكان يطلق على حاكمها لقب “سَلْتِيغِيْ”. عاثت المملكة خلال حكمها فسادا عظيما في فوتا تورو تعددت وجوهه فشمِل نهب أراضي الناس ومزارعهم، إضافة إلى استعبادهم والتحالف مع الحسانيين في فرض إتاوات على الشعب كضريبة “مد حرم”[23] التي أثقلت كاهل الفوتيين[24].

وسط هذا الوضع المضطرب ظهرت أسماء لامعة رأت ضرورة تغيير هذا الجو الممتلئ بالممارسات التي لا يقرها عقل ولا شرع، فانبرت تخطّط للثورة وتضع أسسها، ويأتي على رأس القائمة: الشيخ المجاهد سليمان بال (تـ1776م) الذي مثل المخلِّص المنتظَر للشعب الفوتي[25].

كما أن في وصف هذه المملكة بالوثنية نوعا من المبالغة، بل الرعايا مسلمون، وحكامها كذلك مسلمون مقصرون في أداء شعائر الدين كحال كثير من الأنظمة المعاصرة، بدليل أن آخر حاكمهم سِلَي (سليمان) انجاي الصغير، وقد استغل الشيخ سليمان العاطفة الدينية لإسقاط حكمه، حيث بيّن له فساد تَسَرّيه بمئة جارية من طبقة السِبّي كُلِيَابِي [26] المنتمية تلك الجواري إلى طبقتها الاجتماعية، وموضحا أن سلي انجاي يعتبر جواريه مجرد إماء يتمتّع بهنّ لا غير [27]، ما جعل فئة السِبّي كُلِيَابِي تدرك ما يكنّه لها سِلَي انجاي من نظرة دونية مما أدى إلى انسحابها ثم الانضمام إلى صفوف الشيخ سليمان بال، فكسب بذلك معركة كبيرة [28].

المؤاخذة السابعة- غياب الجانب التمثيلي في تناول أزمة الخطاب الديني في السنغال:

أفاد المؤلف في تصوره وتصنيفه لأزمة الخطاب الدعوي في السنغال، لكن ينقصه الجانب التمثيلي، بل اكتفى بالعموميات دون ضرب أمثلة حية، ويعد هذا تقصيرا في الجانب المنهجي، فإذا كان هذا الجانب هو لب الدراسة ولبابها، كان لزاما على المؤلف الاعتناء بالتدليل على تلك العموميات.

المؤاخذة الثامنة- دعوى أن اللغات المحلية لا تسعف الدعاة عن التعبير بمقصودهم [ص: 318]:

وتعتبر دعوى عجز اللغات المحلية عن التعبير عن المقصود لقلة مفرداتها أمرا غير علمي، وكلاما غير سليم، ولعل مرد هذا الكلام هو صعوبة فهم اللغات المحلية عند المؤلف، فأسقط ذلك على غيره. لكن الحقيقة التي لا يمتريها شك أن لغاتنا المحلية تغطي كل مقصودنا في جوانب الحياة التعبيرية والمهنية، لها قواعدها وفنونها وأمثالها وحكاياتها الشعبية. وقد ترجمت معاني القرآن الكريم وكتب حديثية، ومؤلفات فقهية، والسيرة النبوية إلى لغاتنا المحلية، الأمر يفند هذه الدعوى.

المؤاخذة التاسعة- غياب كيان يجمع شمل الدعاة ويربطهم بالقضايا المصيرية [ص: 319-320]

يرى المؤلف أن الدعاة في السنغال ينقصهم كيان بربطهم بالقضايا المصيرية، وهو كلام فيه نظر، فالحركة الإسلامية في السنغال تعتبر الاهتمام بتلك القضايا من أولوياتها، وهي حاضرة في دعم القضية الفلسطينية، وقضية المسلمين في تركستان الشرقية، وفي قضية شارل إيبدو المسيئة للرسول- صلى الله عليه وسلم-، وفي قضية الإرهاب… بل إن مما يعاب على الإسلامية الحركة اهتمامها المفرط بتلك القضايا وإهمال القضايا المحلية. فمن الكيانات الناشطة في هذا المجال (التحالف الوطني لدعم القضية الفلسطينية)[29]، وحركة (معا لصون الأخلاق)، و(تنسيقية الحركات والجمعيات الإسلامية في السنغال) التي تضم كبريات الحركات العاملة في الساحة السنغالية مثل: جماعة عباد الرحمن، وحركة الفلاح، ودار الاستقامة، والتجمع الإسلامي.

المؤاخذة العاشرة- دعوى أن قناة إسلام تيفي (Islam Tv) «هي القناة الوحيدة التي تمثل جيل الصحوة» [ص: 358]

أورد المؤلف هذا الكلام، وذكر أني (كاتب هذه السطور) من الذين يرون ذلك، وهذا رأي لم أتبنّهَ ولم أقل به يوما، ولعله سوء فهم أثناء تواصله معي للاستفسار في بعض المواضيع المتعلقة بالصحافة الإسلامية في السنغال.

فالصحوة الإسلامية لها قنوات تعبر من خلالها رسائلها، وقناة إسلام تيفي واحدة منها وقد تأسست في يناير 2019م[30]، وهي تابعة لمؤسسة دار الاستقامة إحدى أنشط الجمعيات الإسلامية [31]، وتبث هي الأخرى برامج سياسية ودينية واجتماعية وثقافية بالغة الأهمية،[32]، إضافة إلى قنوات أخرى لها دور في تعزيز الصحوة الإسلامية مثل قناة (مرشد تيفي- Mourchid Tv)[33] التي تأسست عام 2012م، وتبث فيها برامج سياسية ودينية واجتماعية ورياضة وثقافية…[34]. وزد على ذلك قناة (لامب فال تيفي – Lamp Fall Tv). كما أن هناك قنوات وطنية تعتبر منابر إعلامية خدمت الصحوة الإسلامية كثيرا من حيث توجيه الناس وبيان موقف الإسلام من جميع الأسئلة المجتمعية بما فيها الصحة والسياسة والاقتصاد والثقافة والدين والتربية.

المؤاخذة الحادية عشر- إعطاء جمعية أكبر من حجمها [ص: 244، و376- 379]:

أخالف المؤلف – وقد أكون مخطئا- في أنه أعطى لجمعية الرحاب للتنمية البشرية في السنغال التي تأسست عام 2016م أكبر من حجمها لما فضلها على جماعة عباد الرحمن التي تأسست عام 1978م، وزعم أنها أكبر طموحا، وأكثر انضباطا، وأعلى همة، وأوضح رؤية، [ص: 376] …

لا أرى كبير فائدة في عقد المقارنة بين الجمعيات أو المكونات الإسلامية فكل واحدة منها على ثغرة، وميادين العمل الإسلامي تسع الجميع، لكن جمعية الرحاب ليست بذلك الوزن حتى توازي جماعة عباد الرحمن، لا من حيث ظروف النشأة وتحدياتها، ولا من حيث عمق أثرها في البعد المحلي أو الإقليمي، ولا من حيث إنجازاتها ومعاركها، ولا من حيث تجربتها التربوية والاقتصادية والسياسية، وهذا يعلمه كل العاملين في الحقل الدعوي في السنغال بما فيها قيادة الرحاب أنفسهم.

وإنني على الأهمّ أقتصر ### وعن قصور في البيان أعتذر

الهوامش:

[1] – الخليل النحوي، بلاد شنقيط المنارة والرباط، ص. 265. وللباحث الكبير الحاج محمد مصطفى آن كُتَيِّبٌ قيم في هذا الخصوص عنوانه: الإسلام والثقافة في الجمهورية السنغالية.

[2] – عمر صالح با، الثقافة العربية الإسلامية في غرب إفريقيا، دار المنهاج، المملكة العربية السعودية، ط. 3، 2015م، ص. 48.

[3] – زهور البساتين في تاريخ السوادين، (1/128)]

[4] – نبذة من تاريخ فوتا السنغالية، ص: 10

[5] – البكري، المسالك والممالك، (2/868)

[6]– ينظر: البكري، المسالك والممالك، (2/558-563)، وراغب السرجاني، قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، ص: 466-477

[7] – ينظر: جورتي سيسي، السنغال والثقافة الإسلامية، ص: 22-27

[8] – أمين توفيق، دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والأندلس، ص: 308

[9] – ينظر: جورتي سيسي، السنغال والثقافة الإسلامية، ص: 24

[10] – مهدي ساتي صالح، مع الإسلام والثقافة العربية في السنغال، ص: 26

[11] – محمود شاكر، السنغال، ص:41-64

[12] – ينظر: حسن آدم أحمد، دور الطرق الصوفية في بناء الشخصية الاسلامية في إفريقيا في القرن 19، ص: 94

[13] – فقيه وداعية مشهور، من قبيلة مغيلة الجزائرية. وصفه أحمد بابا التمبكتي بأنه «خاتمة المحققين، الإمام العالم الفهامة، القدوة الصالح السني، أحد الأذكياء، ممن له بسطة في الفهم والتقدم، متمكن المحبة في السنة…» وقد وجه أسكيا الحاج محمد إلى المغيلي أسئلة تضمنت سبع مسائل، يتعلق كلها بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دولة السنغي. وأجاب عليها المغيلى بوضوح، ودُونت فيما بعد على شكل كتيّب سُمي “أسئلة الأسكيا وأجوبة المغيلي”. توفي المغيلي إثر عودته إلى توات بعام واحد بقصر بو علي التابع لزاوية كنته عن عمر يناهز المائة عام. ينظر:[أحمد بابا التمبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص: 576، والهادي المبروك الدالي: التاريخ الحضاري، ص: 206].

[14] -ولد بالمغرب الأقصى قبل سنة 864هـ-1459م تقريبا، وتوفي عام 960هـ-1552م. ينظر: [وديع أكونين، سلسلة أعلام الصحراء: سِيدَ اعْمر الشيخ الكُنتي (ت 959هـ)، مقال منشور على الشبكة العنكبوتية على موقع “الرابطة المحمدية للعلماء” بتاريخ 25-06-2020م].

[15] – ينظر: الحاج مالك جوب، ملامح الأدب الصوفي العربي، ص: 95

[16] – ينظر: أحمد مختار كان، مفتاح الثقافة، ص: 566، والحاج مالك جوب، ملامح الأدب الصوفي العربي، ص: 96

[17] – هو الشيخ سيدي المختار الكنتي بن أحمد بن أبي بكر المعروف بالكبير، تمييزا له عن حفيده الذي كان يحمل نفس للاسم. ولد في سنة 1730م وتوفي عام 1811م. عاش في منطقة أزواد الواقعة بين غاو وتمبكتو بجمهورية مالي، وساهم بنصب عالية في نشر الطريقة القادرية في دول غربي أفريقيا، خاصة في مالي والسنغال وغينيا وموريتانيا. ينظر: [عثمان برايما باري، جذور الحضارة الإسلامية في الغرب الأفريقي، ص:158]

[18] – ينظر: محمد بابما انجاي، أضواء على السنغال، ص: 27، والحاج مالك جوب، ملامح الأدب الصوفي العربي، ص: 36

[19] – نسبة إلى الشيخ سيدي مختار الكنتي تـ(1862)

[20] – نسبة إلى الشيخ محمد الفاضل تـ(1869).

[21] – وخاصة مدينة (انجاسان) التي أسسها الشيخ بو محمد حفيد الشيخ أبو نعامة الكنتي الذي أسس في السنغال قرية (اندَانْق) قرب مدينة (نْغَايْ)

[22] – خديم امباكي، الطرق الصوفية في السنغال، بنيتها الاجتماعية وأدوارها السياسية، ص: 3.

[23]– وهي ضريبة سنوية بمقدار صاع عن كل رأس من سكان فوتا تورو، وأوصلتها بعض الروايات إلى عشرين صاعا.

[24]– ينظر: محمد سعيد با، دولة الأئمة في فوتا تورو، ص: 65-66.

[25]– ينظر: عمر صالح با، الثقافة العربية والإسلامية في غرب إفريقيا، ص: 213.

[26]– وهم الجنود الذين يكوّنون الخط الدفاعي لنظام دينينكوبي.

[27]/ ذلك أن هذا الحاكم تسري بأكثر من مئة جارية من نساء الجنود، وهن في نظره مجرد إماء للاستمتاع لا غير.

[28]/ ينظر: شيخ سليمان بال، ص.ص. 43-47.

[29] – وكمثال حي على ذلك، فإن التحالف الوطني لدعم القضية الفلسطينية عضو في ائتلاف غرب إفريقيا لنصرة القدس وفلسطين، الذي نظم ملتقاه الرابع لمدة يومين13 و14 من يوليو 2024م في العاصمة السنغالية دكار بمشاركة وفود من 17 دولة إفريقية، تحت عنوان: (فلسطين وغرب إفريقيا: تجديد التزام الشعوب).

[30] – أخذت هذه المعلومة من الداعية عمر جالو مدير البرامج لهذه القناة عبر منصة واتساب WhatsApp بتاريخ 30/03/2023

[31] – دار الاستقامة: تأست عام 1990م وهي: «مؤسسة ذات شخصية اعتبارية، ينضوي تحت لوائها أعضاء يجمعهم التوافق في المعتقد والمنهج، تهتم بجانب التنمية البشرية عن طريق تنشئة المسلم وتربيته عقيدة وعبادة وسلوكا وخلقا وبدنا. كما تهتم بتنمية الموارد المتاحة لديهم بطرق مدروسة ومحكمة». [تقرير عن مؤسسة دار الاستقامة للتربية والتنمية، ص: 1، نسخة إلكترونية]

[32] – وقد عمل كاتب هذه السطور في هذه القناة في بداية تأسيسها، وكان يدير برنامجا خاصا بعنوان (Rubrique Société). وهو عبارة عن النزول في الساحة مع فريق العمل وتوجيه أسئلة ذات الصلة بقضايا المجتمع الدينية والاجتماعية، فيتفاعل الجمهور مع تلك القضايا برؤاهم.. وبعد أن تتم عملية رصد موافقهم نضرب لهم موعدا في القناة لبيان موقف الإسلام من تلك القضايا المطروحة على الساحة، ويقوم بهذا البيان الأستاذ عمر جالو أحد أشهر الخطباء في السنغال.

[33] – ينظر: مصطفى كبه، مساهمة دائرة المسترشدين والمسترشدات في التعليم، ص: 98

[34] – وقد تمت استضافة الباحث في هذه القناة، في برنامج ديني بعنوان (في رحاب القرآن) وعالج وقتها موضوع (خفض الجناح للرعية مقاربة قرآنية) في عام 2021

 

حرر في بِكِينْ بتاريخ 13 محرم 1446هـ الموافق 19-07-2024

تعليق 1
  1. غير معروف يقول

    بارك الله فيكم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.