قراءة القرآن على المحتضر والميت بين المتقدمين والمتأخرين في المذهب المالكي
الحمد لله الذي أكمل علينا الدين وأتمَّ علينا النعمة، والصلاة والسلام على رسوله الذي أدى الأمانة ونصح الأمة، وعلى آله وصحبه الذين بلَّغوا إلينا الكتاب والحكمة.
وبعد:
فقد أصبح القول ببدعية قراءة القرآن على المحتضر والميت، والنهي عن ذلك من المسائل التي يستغلها بعض من يزعم أنه من المالكية للنيل من الذين يسمّونهم بالوهابية، وصبِّ جام غضبهم عليهم، بل بعضهم يجعل مسألة قراءة القرآن على الميت علامة فارقة بين الانتساب الحقيقي إلى المذهب المالكي من غيره، ويظهر ذلك جليا حين يَنسبون القائل بالمنع إلى بعض مشايخ مَنْ يسمونهم بالوهابية، ووسمه بأنه يقلدهم في القول بالمنع، وكأن المذهب المالكي على قول واحد في هذه المسألة، حتى يسوِّغ له ذلك الطعن في الآخرين والنيل منهم.
وقد سلطت الضوء على هذا المسألة، وتتبعت أقوال علماء المذهب فيها من المتقدمين والمتأخرين، لا على سبيل الاستقصاء، بل بما قد يتبين به وجه الصواب؛ فعند الباحث الحكيم من الوسائل العصرية ما يمكنه التوسع فيها بفضل الله الكريم.
ويتمحور البحيث في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: المراد بالمتقدمين في المذهب المالكي، وسرد بعض أقوالهم في مسألة قراءة القرآن على المحتضر والميت وأدلتهم.
المسألة الثانية: سرد بعض أقوال المتأخرين في المسألة.
المسألة الثالثة: قراءة غير يس على المحتضر.
المسألة الأولى: المراد بالمتقدمين في المذهب المالكي، وسرد بعض أقوالهم في مسألة قراءة القرآن على المحتضر والميت وأدلتهم.
اصطلح المالكية على تسمية مَنْ كانوا قبل ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله تعالى بالمتقدمين، واصطلحوا على تسمية من بعده بالمتأخرين([1]).
لما تبين أن المتقدمين في المذهب المالكي هم مَنْ كانوا قبل الإمام ابن زيد القيرواني (المتوفى سنة: 386ه)، سوف أسوق قول متقدمي المالكية في المسألة، ولا شك أن في طليعتهم إمام المذهب الذي كان الناس يضربون أكباد الإبل إلى المدينة للنهل من علمه الذي لم تكدره البدعة والإحداث في الدين.
1- نقَل الإمام ابن أبي زيد عن نافع عن مالك في المجموعة، وعن أشهب عن مالك في العتبية ما نصه: “ليس القراءة عنده (أي مالك) والإجمار من عمل الناس”([2]).
2- قال ابن رشد الجد رحمه الله تعالى: “قال أشهب: وسئل مالك عن قراءة القرآن عند رأس الميت ب: يس، فقال: ما سمعت بهذا، وما هو من عمل الناس…”([3]). وعلى هذا النقل تتابع علماء المذهب على مر العصور، وهو الذي ذهب إليه كل المتقدمين، ولم يخالف في ذلك إلا الإمام ابن حبيب رحمه الله تعالى، ولذا قال صاحب الرسالة في نقل قول ابن حبيب الذي اصطلح على تسميته ب: (بعض العلماء )كما نص عليه شراح الرسالة: “وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس ولم يكن ذلك عند مالك أمرا معمولا به…”([4]).
دليل القول بالمنع مطلقا من قراءة القرآن على المحتضر والميت:
1- ذكر القاضي عبد الوهاب رحمه الله أن وجه المنع هو أن الإمام مالكا: “لم يجده معمولا به، ولم يدرك أحدا من السلف عليه”([5])، وقد قال الشيخ خليل لما رجح القول بالمنع من قراءة القرآن على المحتضر مطلقا، قال: “…وما حدَّه الشرع وقفنا عنده، وما أطلقه ولم يخصه بسبب أطلقناه، وما تركه السلف تركناه وإن كان أصله مشهوداً له بالمشروعية كهذه القراءة. وللشرع حكمة في الفعل والترك، وتخصيص بعض الأحوال بالترك كالنهي عن القراءة في الركوع، وطلبها في القيام، فتمسك بهذه القاعدة الجليلة؛ فإنها دستور للمتمسك بالسنة، وقاعدة مالك…”([6]).
2- “أن المقصود هنا تدبر أحوال الميت ليُتعظ بها وهو أمر يُشغل عن تدبر القرآن”([7]).
ويجب الإشارة إلى أن النهي شامل عند المتقدمين عند الاحتضار أو بعد الموت، أو عند القبر، سواء أكانت سورة يس أو غيرها، قال النفراوي: “(ولم يكن ذلك) أي المذكور من القراءة عند المحتضر (عند مالك أمرا معمولا به) بل تكره عنده قراءة يس أو غيرها عند موته أو بعده أو على قبره”.([8]).
المسألة الثانية: سرد بعض أقوال المتأخرين في المسألة:
لئن كان خلاف المتقدمين في المسألة بين جماهيرهم وبين ابن حبيب فقط، فإن الخلاف بين المتأخرين أوسع من ذلك، وحين نعود إلى كتبهم سنجد أن هناك فريقين في المسألة:
فريق يرى رأي المتقدمين، وفريق آخر ينتصر القول بجواز قراءة القرآن على المحتضر في حالٍ، ويوافق المتقدمين في حال أخرى، وهذا الذي نريد تحريره في هذه الفروع الثلاثة الآتية:
الفرع الأول: سرد أسماء بعض من ذهب مذهب المتقدمين في المنع من قراءة القرآن على المحتضر والميت: من المتأخرين الذين ذهبوا إلى قول المتقدمين في المسألة، الإمام ابن أبي جمرة الأندلسي، حيث نقل العدوي عن بعض العلماء أنه قال: “مذهب مالك كراهة القراءة على القبور”([9]). وممن ذهب مذهب المتقدمين في المسألة الشيخ خليل صاحب التوضيح والمختصر المعروف بمختصر خليل، بل هذا القول هو الذي شهّره في المختصر حيث قال: “ما كُره في تحضير الميت: وكره حلق شعره وقلم ظفره وهو بدعة وضم معه إن فعل ولا تنكأ قروحه ويؤخذ عفوها وقراءة عند موته: كتجمير الدار وبعده وعلى قبره”([10]). قال العدوي في قول الماتن: “وظاهر كلام المؤلف الإطلاق”([11]).
وهذا الظاهر بيَّنه الشيخ خليل في التوضيح لما نقل قول صاحب الرسالة في تجويز ابن حبيب قراءة سورة يس على المحتضر، ومنْعِ صاحب المذهب من ذلك قال رحمه الله في ترجيح قول صاحب المذهب: “وهذا هو الظاهر، وفي حمل ابن حبيب نظر…”([12]).
وممن ذهب مذهب المتقدمين في المنع من قراءة القرآن على المحتضر والميت بهرام صاحب كتاب: الشامل في فقه الإمام مالك حيث قال: “وتكره القراءة عنده خلافا لابن حبيب”([13]).
الفرع الثاني: ذِكْر بعض من ذهب إلى القول بجواز قراءة القرآن على المحتضر في حال دون أخرى:
يمكن القول بأن أكثر المتأخرين ذهبوا إلى جواز قراءة القرآن في حالِ إذا لم يعتقد أن ذلك سنة، وقد اعتمدوا في ذلك على تأويل ابن حبيب لقول الإمام مالك رحمه الله تعالى، قال البناني في حاشيته على شرح الزرقاني للمختصر: “وذهب ابن حبيب إلى الاستحباب وتأول ما في السماع من الكراهة قائلًا إنما كره مالك أن يفعل ذلك استنانًا نقله عنه ابن رشد وقاله أيضًا ابن يونس…”([14])، وقد ذهب الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير إلى إضافة قيد عدم اتخاذ ذلك عادة، قال رحمه الله: “(و) كره (قراءة) لشيء من القرآن (عند الموت وبعده على القبور) لأنه ليس من عمل السلف، وإنما كان شأنهم الدعاء بالمغفرة والرحمة والاتعاظ (إلا لقصد تبرك) بالقرآن (بلا عادة) فإنه يجوز”([15]).
وبهذا يتضح أن المتأخرين اختلفوا في المسألة على فريقين:
الفريق الأول: سلَّم لابن حبيب تأويله لقول مالك رحمه الله، حيث رأى أن المنع عنده هو أن يعتقد القارئ أن ذلك سنة، وأضاف بعضهم إلى عدم اتخاذ ذلك عادة.
الفريق الثاني: لم يسلِّم لابن حبيب هذا التأويل حيث نقدوه، ورأوا أن الإمام مالكا كره ذلك مطلقا لعدم وروده في السنة الصحيحة عنده.
المسألة الثالثة: قراءة غير يس على المحتضر:
ما سبق من الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين كان في قراءة سورة يس على المحتضر، أما هل تجوز قراءة شيء من القرآن غير يس على المحتضر؟، فقد اختلف فيها المتأخرون على قولين:
القول الأول: أن قراءة غير يس على المحتضر غير مشروعة بالاتفاق، وقد حكى اتفاقَ المذهب على ذلك الشيخان ابن ناجي وزروق رحمهما الله.
قال الشيخ ابن ناجي رحمه الله في شرحه على الرسالة: ” قلت: وظاهر كلام الشيخ أن الخلاف إنما في القراءة بسورة يس أما القراءة بغيرها فالاتفاق على أنها غير مشروعة هنا، وهو كذلك…”([16]).
قال الشيخ زروق رحمه الله: “وهل هذا الخلاف خاص بسورة يس أو بغيرها من القرآن ظاهر كلام الشيخ إنما الخلاف فيها وأما غيرها فغير مشروع اتفاقا…”([17]).
القول الثاني: أنه لا يكره قراءة شيء من القرآن على المحتضر، وإن كانت غير يس، وهو ظاهر ما ذهب إليه ابن الحاجب في جامعه، قال في جامع الأمهات: “وتوجيه المحتضر إلى القبلة مستحب غير مكروه على الأصح، وكذلك قراءة شيء من القرآن عنده…”([18]).
قال الشيخ ابن ناجي: ” … وظاهر كلام ابن الحاجب أن الخلاف عموما، وذلك أنه لما ذكر الخلاف بالاستحباب والكراهة في توجيه المحتضر قال، وكذلك قراءة شيء من القرآن عنده ونبَّه على هذا ابن عبد السلام”([19]).
وبهذا يبتبين أن ما عليه الناس اليوم من الأمر بقراءة بعض سور القرآن في المقابر عند الدفن، أو توزيع أجزاء المصحف على الحاضرين في التعزية لتقرأ للميت، فإن كل ذلك لا يمت إلى مذهب الإمام مالك بصلة؛ لأنه إذا كان يرى أن قراءة سورة يس غير مشروعة البتة مع ورورد حديث فيها منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن لا يرى مشروعية قراءة القرآن جماعة للميت عند التعزية؛ لعدم وجود دليل خاص فيها ولو ضعيف أو موضوع، كما لا يمكن نسبة ذلك إلى ابن حبيب؛ لأن قراءة القرآن مقتصرة عنده على المحتضر، قال النفراوي: “…وقال ابن حبيب: أراد به بعض من حضره الموت، لا أن الميت يقرأ عليه”([20]).
خلاصة ما توصلت إليه في هذا البحيث:
1- أن المتقدمين في المذهب المالكي متفقون على بدعية قراءة القرآن على المحتضر، أو بعد موته، أو عند قبره، ولم يخالف في الاحتضار إلا عبد الملك بن حبيب الأندلسي.
2- أن القول بجواز قراءة سورة يس على المحتضر الذي ذهب إليه أكثر المتأخرين مبني على تأويل ابن حبيب لقول الإمام مالك، وقد تبين من خلال سرد الأقوال منازعة كثير من المتأخرين في هذا التأويل وردهم عليه.
3- أن مشهور المذهب هو ما ذهب إليه المتقدمون من عدم مشروعية قراءة القرآن على المحتضر، أو الميت، أو عند القبر، وممن ذهب إلى ذلك الشيخ خليل في مختصره، وفي شرحه لجامع ابن الحاجب.
4- أن الظاهر من كلام الشيخين ابن ناجي وزروق هو عدم مشروعية قراءة غير يس على المحتضر، ولم يخالف في ذلك إلا ابن الحاجب في ظاهر ما ذهب إليه في جامعه من أن الخلاف عام في يس وغيرها.
5- أن القول بعدم مشروعية قراءة القرآن للمحتضر أو الميت، أو في المقابر رواية عن إمام المذهب رواها عنه الإمامان أشهب المصري وابن نافع المدني، ولا يخفى على المتخصصين الوزن الذي تحتله المدرستان المصرية والمدنية في المذهب المالكي، أما القول بجواز قراءة يس عند الاحتضار فهو تأويل.
6- أن ما ذهب إليه متأخرو المالكية من جواز قراءة القرآن على المحتضر مقيد بعدم اعتقاد أن ذلك سنة، أو اتخاذه عادة كما بينه الصاوي.
وأخيرا، فما كان فيه من صواب فمن توفيق الله، وما كان فيه من خطأ فمني، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
الهوامش:
[1])) انظر: شرح مختصر خليل، للخرشي (1/69)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/25/26).
[2])) النوادر والزيادات (1/542).
[3])) البيان والتحصيل (2/234).
[4])) الرسالة الفقهية (ص:52).
[5])) شرح الرسالة، للقاضي عبد الوهاب (1/82).
[6])) التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (2/123).
[7])) حاشية العدوي مع شرح المختصر، للخرشي (2/137).
[8])) الفواكه الدواني (1/284).
[9])) حاشية العدوي مع شرح المختصر للخرشي (2/137).
[10]) ) مختصر خليل (1/51).
[11])) حاشية العدوي مع شرح المختصر للخرشي (2/137).
[12])) التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (2/123).
[13])) الشامل في فقه الإمام مالك (1/153).
[14])) شرح الزرقاني على مختصر خليل مع حاشية البناني (2/187).
[15])) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/568).
[16])) شرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة (1/251).
[17])) شرح زروق على متن الرسالة (1/405).
[18])) جامع الأمهات (ص:137).
[19])) شرح ابن ناجي التنوخي على الرسالة (1/251).
[20])) الفواكه الدواني (1/284).
بقلم الدكتور/ محمد مصطفى جالو- السنغال