قراءات سياسية (1)
أحمد أمين عاج (*)
السياسة بين الشكل والجوهر
من الكلمات الرائجة في أوساط الشباب ما ينسب إلى المرحوم نجم الدين أربكان، في قوله: (المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام) فهي كلمة حق-ولا شك-، ولكنها بحاجة إلى الاستبطان لإدراك مغزاها، ولا يمكن فهمها إلا باستيعاب المستويات المتفاوتة للممارسة السياسية، وارتداداتها على الواقع المعاش، ومدى تحقيقها للغاية الكبرى من وجود الإنسان في الأرض.
في بادئ الأمر، يمكن أن نفزع إلى القول بأن السياسة نار يجب الاستدفاء بها عن بعد. وتشبيه السياسة بالنار هنا يأتي من جهة أن النار مصدرٌ لِعناصر متناقضة كالسياسة تماما. فهي مصدر طاقة للإنتاج، وحرارة للاستدفاء، ونور للاستضاءة والاستنارة. وهي كذلك شعلة للحريق، وشرارة تحوِّل الوجود إلى العدم. تمس الحاجة إليها في الأيام الشاتية وتقل وتنداح في الأيام الصافية. فكذلك السياسة قد تملي ممارستها الظروف حينا، كما تملي ممانعتها أحيانا أخرى. وحيال هذه النقطة الجوهرية نلاحظ وجود طرفين: بين من يوظف الدين للمشروع السياسي إلى أقصى حد، وبين من يقصي السياسة عن الدين أو يقلصه إلى أدنى حد.
وسط بين طرفين
فمن أخطاء بعض الإصلاحيين حصر وظيفة الدين في المشروع السياسي، كما أنه من أخطاء العَالَمانيِّين-بطبيعة الحال- قصر الدين عما دون الوظيفة السياسية. وهذا الخطأ الإصلاحي أدى إلى التدين الاندفاعي بمختلف صوره، كما أن الخطأ العالماني أدى إلى التدين الانسحابي بمختلف صوره من الدروشة إلى الجبرية.
ومن مقتضيات “المذهب الحصري” صياغة المفاهيم الدينية كلها في قالب سياسي، وتحويلها وسائل لتحقيق الغاية الكبرى من إقامة الدولة أو الوصول للسلطة. وهذا ظاهر صنيع أبي الأعلى المودودي في إعادته لقراءة المصطلحات الأربعة (الإله، الرب، العبادة، الدين)، حيث أرجعها كلها إلى معنى السلطة والحكم، وأبرزها على أنها الأساس وما سواها الفرع، لينتهي إلى القول: (..خلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هي السلطة).
السياسة بين اللباب والقشور
طبعا، من المفترض على كل مسلم أن يكون على قدر من التَّسَيُّس بحيث يستأنس به في بنيات الطريق، ويتقي به من شرور منعطفات الواقع، ولكن ما مقدار هذا التَّسَيُّس العام؟ وهل ثمت حد أدنى؟ وإلى أي مدى يصبح التَّسَيُّس ترفا حركيا!
يمكن القول في الواقع بأن السياسية مكونة من عنصري الجوهر والشكل، أو اللُّباب والقشور كما عبر بذلك العالم الجزائري البشير الإبراهيمي.
فجوهر السياسة ولُبابها تكمن في بناء مجتمع ناهض عبر قناة التوعية والتعليم والتثقيف وإحياء روح العمل والإنتاجية.
وأما الشكل السياسي أو القشور في السياسة فيكمن في الجدل السياسي الفذ حول القضايا الجزئية العارضة كالانتخابات وطرائق تنظيمها، والمواقف السياسية المتناقضة، والمهاترات السياسية، والانتقالات الموسمية لرموز السياسية، والنقاش العام المشخصن.
ومن هذا المنطلق يمكن التمييز بين من يشتغل باللُّباب ومن يشتغل بالقشور، وبين من يَشْغَلُه لُباب السياسة ومن يَشْغَلُه قشور السياسة. فهم يلتقون حول أرضية لا تتجاوز المساحة التي تغطيها كلمة “السياسة”، وتتقاطع وجهاتهم فيما سوى ذلك
فاللُّبابِيُّون يركزون في خطابهم على أداء الواجب كعامل أساسي لتغيير الظروف المعيشية، في نوع من الاستيحاء بالسنة الربانية في التغيير: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
دراوشة السياسة
بينما الفكرة المحورية للقُشُوريِّين تتركز في استجداء الحقوق، وهي فكرة رخيمة تستحوذ البسطاء وتستدرج السُّذَّج من الناس وحتى بعض العقلاء، وهي فكرة تطالب بالحقوق وتهمل الواجبات، وتتوهم أن الحل كل الحل في صناديق الاقتراع وأنها هي الكفيلة بحل الأزمات في حين تتجاهل القاعدة الاجتماعية التي تقول بأن: “الحكومة آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي يعيش فيه”، فالسلطة ليست أكثر من مرآة يتفاعل فيها ضمير المجتمع وسلوكياته. وبعبارة سياسية مبسطة يمكن القول بأن الحكومة عبارة عن سلطة عليا لتنفيذ إملاءات الظروف الاجتماعية وإمكاناتها وإكراهاتها.
وقد شبه المفكر الجزائري مالك بن نبي حالَ القُشُوريِّين في استغراقهم في المطالبة السياسية بالحقوق بخرافات المتصوفة وأطلق على نهجهم لقب “الدروشة السياسية” فكما أن الدروشة الصوفية تبيع الحروز والتمائم وربما صكوك الغفران، فكذلك الدروشة السياسية تبيع أوراق الانتخابات والأماني الخيالية وصكوك السعادة.
وقفة مع فكرة: استجداء الحقوق
دائما ما نكرر كلمة “الحقوق تنزع ولا تمنح، تؤخذ ولا تعطى” والممارسات اليومية تؤكد صحة هذه المقولة، ولكن بشيء من التأمل يمكن القول بأنها فكرة قائمة على أساس المغالبة والصراع المستمر بين الأطراف وأن الحق لا يمكن تحصيله إلا بالانتزاع، وهذه النزعة الصِّراعية يحتمل أن تكون من روافد الفلسفة الماركسية. ولكن من الممكن تمحيصها بتفكيك العلاقة بين “الحق” و”الواجب” وإعادة بنائها وتشكيلها وفق المعادلة المنطقية: العلة والمعلول، والمقدمة والنتيجة. أو المعادلة الفقهية: “الخراج بالضمان، والغنم بالغرم”. لنقول بأن “الواجب” يأتي ابتداء و”الحق” يأتي تبعا، فـ”الواجب” دوما يتشكل في صورة الفعل، و”الحق” في صورة رد الفعل.
ليتمخض من هذا التمحيص أن “الحق” ليس هدية فتعطى، ولا غنيمة فتغتصب. ولكنه استحقاق ناتج عن أداء واجب. فالموظف الذي يخرج من المصرف نهاية الشهر بجيوب مليئة لم يستلم هدية مهداة يُمَنُّ بها عليه، ولا غنيمة مغتصبة يُلاحَق عليها، وإنما هو استحقاق مقابل واجب مؤدى، والتزام تم الوفاء به.
وعليه يجب تعزيز ثقافة أداء الواجب، والفعل، والفعالية قبل تكريس ثقافة المطالبة بالحق وإظهارها في صورة الأصل الذي دونه الافتداء بالأرواح.
الواجبات قبل الحقوق
لنقرأ مثلا كلام فيلسوف الحضارة مالك بن نبي وهو يحدثنا عن العلاقة بين الواجب والحق، وعن الحالة العبثية للقُشُوريين، حيث يقول:(ألا يغيب عن نظرنا أن “الواجب” يجب أن يتفوق على “الحق” في كل تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائماً محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي “فائض قيمة”. هذا “الواجب الفائض” هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد.
وبناء على ذلك يمكننا القول: إن كل سياسة تقوم على طلب “الحقوق” ليست إلا ضرباً من الهرج والفوضى، أو هي، كما عبرنا من قبل، “يد” تطيل عمر الحياة الأميبية في الحقل الفكري، وتلك هي “البوليتيكا” بالمعنى الشعبي للكلمة.
والحق أن العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تفسر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصورها منفصلة عن الواجب، وهو يعد في الواقع أول عمل قام به الإنسان في التاريخ. فالسياسة التي لا تحدث الشعب عن واجباته، وتكتفي بأن تضرب له على نغمة حقوقه، ليست سياسة، وإنما هي (خرافة)، أو هي تلصص في الظلام، وليس من مهمتنا أن نعلم الشعب كلمات وأشعاراً، بل أن نعلمه مناهج وفنوناً…..
وفي كلمة واحدة ليس من شأننا أن نكشف له عما ألمّ بمعرفته من قبل، بل أن نمنحه من المناهج الفعالة ما يستطيع به أن يصوغ مواهبه ومعارفه في قالب اجتماع مُحَس. وبعبارة أدق: ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يمكن إلا أن تكون تعبيراً عن واجباته.” (مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص143)
السياسة قضية وليست مهنة
وثمَّت أيضا صنفان من القشوريين: شيخٌ مُعمَّر يبحث عن مجد مفقود، وشاب مغمور يجري وراء غنيمة باردة، وكلاهما يمتهن السياسة وسيلة لإشباع حظوظ النفس ويتوسل بقشور السياسة لجني الثمرة، دون دفع أي ثمن. وفي المقابل ثمت من يعيش السياسة كقضية جوهرية وقناعة نفسية تخالط الوجدان وكفاح مستمر من أجل تحقيق المُثُل العليا في المجتمع، وهذا الصنف لا يكتفي بالقشور بل يمخر عُباب اللُّباب، ويدفع الثمن غير عابئ بجني الثمرة، فهو على سعي دؤوب لتوظيف السياسة لصالح القضية المحورية، والغاية العليا التي يسعى لتحقيقها.
يتبع…..