فلما أن جاء البشير !!
بعض الأحداث يصعب تناولها بالحديث؛ إذ اللغة _على ما يبدو_ قاصرة عن احتواء المعاني، فتظل الأخيرة حبيسة في النفس، ممتنعة عن محاولات الترجمة والتي قد تشوهها بقدر ما فيها من الضعف والركاكة، وقد قيل: الترجمة غير أمينة! أقول هذا لأمهّد لنفسي بعض العذر في العجز عن التعبير عن ما أريد الحديث عنه، وهو ذلك المنعطف التاريخي الذي مرت به السنغال والذي تجلى في التغيير السلمي الثالث لهرم السلطة منذ الاستقلال. وهذا التغيير الأخير يحتاج إلى دراسة معمقة تتتاوله من الأبعاد المختلفة حيث السياق مرورا بالأسباب وعروجا على رهانات المستقبل إلى غير ذلك، من النقاط ذات الأهمية. وحيث لا أملك رؤية واضحة ولا قدرة على التعبير اللائق عن المذكور فإنني سوف أكتفي بسطور تندرج تحت خواطر مواطن تابع الأحداث على الشاشات، وعاش بعض حقائقها في الساحة..
باستيف ومشروع الصمود: ولد في السنغال حزب سياسي جديد في يناير ٢٠١٤م والذي يختصر باسم [باستيف] الذي يعني باللغة المحلية ” العزيمة” بينما اسمه الكامل: الوطنيون الأفارقة في السنغال للعمل والأخلاق والأخوة ولعله قد تصدق عليه الفلسفة القائلة بارتباط الاسم بالمسمى، على حد قول أحدهم:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب# إلا ومعناه إن فتشت في لقبه.
فقد صاحبت العزيمة الحزب؛ إذ منذ بدأ ظهور قوة الحزب، بدأت المشكلات تتوالى عليه، وأعادت إلى الأذهان ذكريات التصفية بالمعارضين خليفة صال وكريم واد، ولسان حال كثيرين، سيلحق سونكو[زعيم باستيف] بسابقيه، وقد عملت أجهزة الدولة أمنية وقضائية وإعلامية، عملت مجتمعة على القضاء على الحزب وعلى شخص قائده السيد عثمان سونكو والذي بشّرت أصوات محترمة بأنه سيتم سجنه بعيد الانتخابات الرئاسية عام٢٠١٩م، ولكن وقد تأخر توقيف المذكور إلا أن عمليات الهجوم عليه لم تتوقف، وكان أعنفها تهمة بالاغتصاب والتهديد بالقتل لإحدى العاملات في صالة تدليك، تهمة بالجريمة أعقبها توقيف للمعارض سونكو لأيام قبل الإفراج عنه تحت المراقبة القضائية، فيما عرف بأحداث مارس، التي اتسمت بمظاهرات عنيفة صاحبتها عمليات تخريب منشئات حيوية، زلزلت هرم السلطة في البلاد وكادت تودي برئيس الدولة وبحكومته، التي يبدو أنها رأت أن الأمر جاءها على حين غرة، فرفعت الراية البيضاء حتى يتسنى لها الاستعداد اللازم، وإذا كانت تلك الأحداث قد مسّت الدولة في هيبتها، فإنها نفخت شعلة من الحماس في روع المعارض السياسي الأبرز في البلد، والذي ظل يتحدى السلطات التي لم تكف عن وضع العراقيل في طريقه، ومارست العنف الممنهج ضده، وضد حزبه الذي استهوى غالبية الشباب، وقد دفعوا ضريبة ولائهم للحزب فسقط عدد منهم ضحايا المواجهة مع قوات الأمن، بينما قبع مئات منهم في السجن، وبلغت الأمور مداها يوم ٣١ /٧ / ٢٠٢٣م عندما تم إلقاء القبض على الزعيم سونكو وتمّ حله حزبه في اليوم نفسه بمرسوم، وكان ذلك اختبارا صعبا للوطنيين، لكن اللافت أنهم بقوا صامدين وظل ولاؤهم ل[باستيف] رغم شدة الظروف، فلم تشهد صفوفهم انشقاقات، بل ظلوا يعملون على الحفاظ بالسواد، رغم سجن رموزه ولجوء آخرين إلى الخارج، إيثارا للمنفى على السجن والإهانة.
السياسة من نوع آخر: استطاع حزب [باستيف] من وضع بصماته الخاصة بين عدد الأحزاب السياسية السنغالية البالغ ثلاثمائة حزب، بتبنيه خطابا متميزا وجريئا؛ فعلاوة على كشفه لما قال عنه بأنه فضائح مالية، وتلاعب بالصالح العام من طرف الحزب الحاكم، علاوة على ذلك اقتحم الحزب السور الممنوع، فأعلن عن موقفه المعارض لسياسات فرنسا الامبريالية، وندد بعملة فرنك سيفا، ووعد باستبدالها بغيرها، كما وعد بإعادة المفاوضة على العقود المبرمة والتي يراها مجحفة بحق الشعب السنغالي، وبتنويع جهات الشراكة وبنائها على تنصيف الربح… إلى غير ذلك من الخطاب الذي كان يمرّره الحزب عبر قنواته التواصلية والتي حظيت باهتمام مختلف أطياف الشعب، وخاصة فئة الشباب التي رأت في الحزب ضالته المنشودة من التوقان للحرية، وقطع حبال الاستعباد التي يشد بها الخناق عليها عملاء الاستعمار الجديد _على حد تعبير نشطاء _ المتحكمين على البلاد بالجور والفساد.
لم يكن خطاب الحزب المذكور مجرد فقاعات إعلامية، أو وعود انتخابية لكسب أصوات الناخبين، وإنما كانت مصاحبة ببرامج عملية نفذها الحزب في الشأن الاجتماعي، تحت شعار “التضحية بالذات من أجل الوطن” ومما تم في هذا الصدد: حملات التبرع بالدم،و إجازة الوطنيين( هدفت إلى مساعدة الفلاحين) وتنفيذ برامج تقوية للتلاميذ والطلاب خلال جائحة كورونا، وغير ذلك من النشاطات الاجتماعية التي قربت الحزب إلى المواطن العادي وأصبح حزبا جماهيريا يصفه مناوؤوه بالشعبوية.. ومهما قيل فإن الحزب وقائده سونكو، كان بشرى خير للديمقراطية السنغالية _حسب تعبير الدكتور عبد الرحمن جوف السياسي السنغالي المعروف- وقد تمكن من تثبيت وجوده وبقوة في الاستحقاقات التي شارك فيها فمن الفوز بمقعد واحد في البرلمان عام ٢٠١٧م تصاعدت قوة الحزب ليحل التحالف الذي قاده في رئاسيات٢٠١٩م في المرتبة الثالثة، قبل أن يصبح القوة التي لا يمكن تجاهلها بعد الانتخابات المحلية ثم التشريعية في ٢٠٢٢م. حيث اضطر _للمرة الأولى في التاريخ السياسي السنغالي_ الحزب الحاكم إلى العجز عن الفوز بغالبية مطلقة في البرلمان.
المحطة الأخيرة في حياة المعارضة: كان ٢٠٢٤م تاريخا فاصلا بالنسبة ل[باستيف] وكان كل الحديث يركز عليه، وقد صرح الرئيس عثمان سونكو غير ما مرة، بأن ٢٠٢٤م موعد لا ينبغي للشعب تضييعه، إذ ذلك سيكون خسارة لا تعوض إلا بعد مرور أجيال، وذلك ما لا تتحمله حالة الوطن. ولعل الموعد المذكور كان مهما أكثر للسلطات الحاكمة، والتي سخرت ما أوتيت من قوة لضمان الفوز في انتخابات ٢٠٢٤م فوز لم تكن تراه إلا بإزاحة[باستيف] وسونكو عن المضمار وظنت بأنها قد نجحت في ذلك بعد حل الحزب وسجن رموزه وفي مقدمته رئيسه ذو الشعبية الكبيرة. لكن تمخضت الأوضاع بما لم يكن في الحسبان، فقد أعلن سونكو المحجوب عن سباق الرئاسيات، عن بديل له وهو الأمين العام للحزب السيد بشير جوماي فاي المعروف ولاؤه لسنكو عثمان، وهو خيار نجح في تجاوز العقبات القضائية في طريقه، وسرعان ما تكيّف معه الوطنيون الذين اقتنوا مذهب الحلول والاتحاد فرأوا أن [بشير هو عثمان وجوماي هو سنكو] ولكن توقفت الأنفاس، وبلغت القلوب الحناجر، عندما أعلن عن تأجيل الانتخابات الرئاسية قبل ساعات من انطلاق الحملات الانتخابية، سابقة على خلاف المعتاد في الساحة السياسية السنغالية، فهبّ الشعب ضد قرار التأجيل، وسانده ضغط دولي طالب السلطات السنغالية بتنظيم الانتخابات في أقرب وقت ممكن. مطالبات وضغوط آتت أكلها بعد كل محاولات الرئيس السابق ماكي صال لتوقيف مسار العملية الانتخابية، فحدّد موعدا جديدا للانتخابات يسبق انتهاء ولايته، وأبدى رغبة في تلطيف جو الساحة السياسية والاجتماعية السنغالية شديدة الغليان، فواصل في الإفراج عن السجناء السياسيين، واقترح قانون عفو(يغطّي الأحداث السياسية ما بين مارس ٢٠٢١م وحتى فبراير ٢٠٢٤م ) تم تبنيه في البرلمان بأغلبية، وكان مسك الختام لعملية التهدئة الإفراج عن زعيم المعارضة السيد عثمان سونكو، وعن مرشحه المفضل مرشح الوطنيين السيد بشير جوماي فاي، حيث تمكن الرجلان من المشاركة في حملات الانتخابات الرئاسية التي لم تتجاوز خمسة عشر يوما، وكان خروجهما صفعة قوية في وجه التحالف الحاكم وفي وجه مرشحه السيد آمد باه الذي كان يعاني قبل خروجهما من الانشقاقات في حزبه بالإضافة إلى الفتور في العلاقة الملحوظ بين وبين رئيس الدولة الذي اختاره مرشحا لتحالفه.
وجاء البشير: جال مرشح تحالف الوطنيين بشير جوماي فاي ومرشده السياسي عثمان سونكو في أرجاء البلاد، وحققا قدرة على الحشد الجماهيري المنقطع النظير، وكان ذلك إيذانا بفوز تحالفهما في الانتخابات التي جاءت نتائجها مؤكدة لما كان في الساحة، فتم انتخاب جوماي رئيسا للبلاد وفي الدورة الأولى بنسبة تفوق ٥٤% من أصوات الناخب السنغاليّ، وتقلد بذلك منصب الرئيس الخامس للسنغال، في سياق زمني مهم يتميز بأمور كثير ومنها _على سبيل المثال:
احتقان المشهد السياسي بفعل تصرفات السلطات السابقة التي وصفت بتقديم الحسابات الحزبية على المصالح الوطنية، والاستعمال المفرط لأجهزة الدولة لتحقيق مآرب خاصة، وللتصفية بالخصوم السياسيين. علاوة على ذلك تفاقم أزمات المواطنين المعيشية بسبب غلاء الأسعار وغياب أي أفق يبعث الأمل لدى فئة الشباب التي اقتحم العديد منها لجج اليم في سفرة كثيرا ما تنتهي إلى مآتم يحييها ذووهم باكين على فقيدهم الذي لا يتسنى لهم أحيانا حتى مشاهدة جثته لتجهيزه حسب معتقداتهم.
وجاء البشير في سياق زمني يتميز كذلك بالشروع في استغلال الموارد الطبيعية التي حباها الله تعالى للبلاد من الغاز والبترول،إضافة إلى التطلع لاستثمار أمثل لباقي الثروات التي يرون آثارها في حكامهم المترفين، بينما هم يكابدون من أجل البقاء وتوفير ضرورات الحياة من الخبز والمأوى ناهيك عن الصحة والتعليم…
إسلاميون في زي بني العلمان؟: من التهم التي كان يوجهها خصوم [باستيف] إلى رموزه أنهم إسلاميون، ومناوئون للطرق الصوفية التي تستولي على الساحة الدينية السنغالية من حيث كثرة الأتباع والقدرة على توجيه الرأي العام، وربما عضدوا التهمة بكون رئيسه عضوا سابقا في جمعية الطلبة المسلمين السنغالية، وبالتحاء بعض قادة الحزب وبارتداء أهل الآخرين منهم الحجاب إلى غير ذلك، لكن الناخب السنغالي تجاوز كل تلك التهم،ورأى في الحزب تلبية لمطالبه، لكن الفارق أن كثيرين من هواة المشروع الإسلامي وخاصة من الإخوة العرب ردّدوا وصف “إسلامي” للرئيس المنتخب بشير جوماي فاي، وهو وصف شرف لم يدّعه ولم يعمل بمقتضاه هو ولا رئيسه في الحزب السيد عثمان سونكو، بل هما وغيرهما من قادة الحزب وأعضائه سنغاليون مهتمون بالشأن السياسي لبلدهم، ويدافعون عن برنامج يرون فيه تحقّق السيادة الوطنية وازدهار البلاد بحسن استثمار مواره، ويحتفظ كل واحد منهم بمعتقداته وقد يعتز بها ولكنه لا يتخذها وسيلة لكسب صوت الناخب. نعم في حزب [باستيف ] فئة ما يعرف بأبناء دار[ حركة أبناء دار الوطنيين] وهو جهاز يضم مثقفين باللغة العربية وخريجين في مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وقد أثار انتباهي وجود ناشط مسيحي بارز في حفل اعتماد ذلك الجهاز، وهو الأستاذ توسين مانغا، الذي أعلن أنه أيضا من أبناء دار باعتبارها المدرسة التي تكوّن السنغاليين المعتزين بهويتهم الوطنية، مسلمين كانوا أم مسيحيين. ومهما يكن فإن وجود منتمين إلى المشروع الإسلامي في الجهاز المذكور لا يبرر وصف الحزب بالإسلامي، ويخيل إلي أن هناك جهات تجهل الواقع السنغالي تريد أن تنزّل واقع بلادهم على الحالة السنغالية، وبعضهم ممتعضون من السياسة الفرنسية ويرون في الحزب الشاب[باستيف] إرواء غليلهم، بينما الحزب _كما أعلن قائده غير مرة _ لا يعادي فرنسا ولكنه يقدم مصلحة السنغال، ويؤمن في الشراكة الربح المتبادل. كما أعلن عن أنه لا يجوز لأحد التصويت له أو لغيره بناء على أساس ديني أو عرقي أو جنسي أو إقليمي، وإنما يكون التصويت عن قناعة بالبرنامج السياسي!
وأخيرا: فإن الاختبار الذي يخوضه الرئيس جوماي ليس سهلا، فالمطالب التي تنتظره عاجلة لا تحتمل التأخير، وتحدياته كثيرة، من إعادة اللحمة الوطنية المهددة، والعمل على تسهيل الحصول على المواد الغذائية، وإصلاح جهاز القضاء، وإعادة الأمل لدى الشباب بتوفير فرص العمل، ومقاومة الفساد وانتهاج الحكم الراشد… وهذه العواجل وغيرها تتطلب تكاتفا شعبيا مع قيادته،والصبر على منحة الحكم والقيادة والتي قد تكون أصعب من الصبر على محنة المعارضة ومقاومة فساد الحكام وظلمهم.
فهل سيعي الوطنيون الدرس، وهل ستكون القيادة الجديدة على مستوى المطلوب؟ ذلك الظن بها؛ فهي من أفضل ما أنتجته الإدارة السنغالية خبرة وأخلاقا، ثم إنها (القيادة الجديدة) قد أثبتت عفتها عن المال العام فيما مارست من وظائف الدولة. والعفة نادرة الزمان، ومن أفضل أخلاق السلطان. أسأل الله تعالى أن يجعل العهد الجديد فاتحة خير لسنغال مزدهرة تنعم بالأمن والاستقرار..
عبد الرحمن باه/ داماج سالي
٢٣ رمضان١٤٤٦ ه يوافقه ٢ /٤/ ٢٠٢٤م.