علام نلوم غيرنا؟
منصور صله (*)
الكلب الذي ينبح لا يعض أحدًا / جان بول شارط
هذه مقولة لجان بول شارط، أوردها في تقديمه لكتاب (المعذبون في الأرض) لـ فرانز فانون Frantz FANON، وقد كتبها في مستهل ستينيات القرن المنصرم. وفيما يبدو لي، هدفه في مقولته هذه هو محاولة تخمن عمَّا عساه يكون ردة فعل السلطات المستعمِرة تجاه الناقمين والنائحين على العنف والإهانة المستدامة في المستعمرات.
حضرتني هذه المقولة، حين كنت أتابع تفاعل إخواني وأساتذتي مع احتفالات عيد الاستقلال في الرابع من أبريل في هذه السنة، ولاحظت شدة النبرة في المنشورات المحتجة على موقف القادة السياسيين تجاه الأبطال الحقيقيين في مقاومة الاستعمار، أولئك الذين ناضلوا لوضع حد لجرائم المستعمر الفرنسي في حقنا وفي خيراتنا بصفة عامّة، أمثال ممدو جاه، وولجوجُ انجاي، وأجد الصوت الناقم يشتدّ أكثر فأكثر، حينما يتناول نسيان أولئك الذين تلوّنت مقاومتهم بصبغة إسلامية، على غرار حكام دولة الأئمة والحركة العمرية ومابه جخو باه، أو الذين فضلوا المواجهة السلمية، أمثال الشيخ الجاح مالك سي والشيخ أحمد بامبا، ومن كان في صفوفهم بصفة عامّة. هذا من جانب، وفي جانب آخر، وجّه آخرون خطابهم نحو النخبة المثقفة بالثقافة الغربية أو الفرنسية بصفة أخصّ، أي تلك النخبة التي تقود البلاد حاليا، ويصفونهم بحماة التراث الفرنسي ومصالحها المادية والمعنوية، على حساب موروثاتنا الثقافية والتاريخية واللغوية.
ويُلاحظُ أن حملة هذا الخطاب الاحتجاجي عادةً، هم الزمرة المثقفة بالعربية. وافتراضيًا يمكن تلمس مواجهة فكرية بين جماعة متفرنسة وأخرى مستعربة على الصعيد الفكري، كما يمكن الوقوف على الاتهامات الموجهة إلى النخبة المتفرنسة، بأنهم عملاء المشروع الاستعماري الجديد، ذلك الاستعمار الذي لم يتسمّ باسمه، بل تلبس باسم مناهض لواقعه، وتستر بشخصيات ينتمون إلى أبناء الوطن، أولئك الذين يتولون حماية وتمكين أجهزة الاستعمار، وفلسفتها الجديدة في نهب واستباحة خيراتنا، بل وتاريخها وثقافتها وأعرافها المستجدة لنوايا مدمّرة لكرامة بلدنا وشعبنا.
لنفترض أن الاتهام الموجه إلى النخبة المتفرنسة ثابت وجليّ على كافة المستويات. ولا غرو في ذلك، هم تربوا في كنف ثقافة المستعمِر، وعجزوا على قطع حبل الوريد بينهم وبين المستعمر السابق، فظلوا يتعاطون ثقافتها ويدافعون عن مصالحها بامتياز فخورين بفعلتهم. والسؤال الملح هنا هو، ألا يمكن قول الشيء نفسه في النخبة المثقفة بالعربية؟ هل اختلف موقفهم من ثقافة العرب عن موقف أترابهم من الثقافة الفرنسية، أو الغربية على العموم؟
فعلى الرغم من أنّ علاقتنا بالعرب والعربية ليست علاقة المستعمِر والمستعمَر، فإنّ تبعيتنا للعرب ليست ببعيدة عن تلك التي نلوم عليها كوادرنا المتفرنسة. إذ، منذ أزيد من نصف قرن لم نتمكن من خلق كيان ثقافي ومعرفي إسلامي مستقل، بمعزل عن تلك التي يتناولها العرب. وأرجو أن لا أُفْهم خطأ، فدعوتي ليست لنبذ الثقافة العربية الإسلامية، ولكن أقلمتها مع واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي. وإن جمعنا الإسلام، والعربية -وبوصفها لغة الإسلام- مع الأمم العربية على العموم، فلدينا ثقافة وتاريخ إسلامي وهيكلة اجتماعية مختلف تمامًا. وفيما أرى كل هذه لا يمكن تجاهلها في حيثيات بناء مجتمع إسلامي متناسق مع أوضاعنا الخاصّة.
وهنا، قد أتجاوز علاقتنا بالعرب فيما قبل الاستعمار وإبان الاستعمار، وأركز في فترة ما بعد الاستعمار، بدأً من موقف جمهورية الجزائرية الجريئة حين قدمت منحًا دراسية لطلبة سنغاليين ليكملوا دارستهم في جامعاتها، ويليه مشروع جمال عبد الناصر الانفتاحي، قبل ما تنضم إليهم بقية الدول العربية لتسهم في مدّ يد العون لإخوانهم الأفارقة. وهذه الفترة تمثل مرحلة مهمة وثَّقَتْ تفاعلات مثمرة أسهمت بجدارة على انتعاش اللغة العربية والثقافة الإسلامية في بلادنا، بل أدت دورًا عظيمًا في تحديث آليات تناولها. ففي هذه الحقبة أنشئت مدارس حديثة تواكب العصر، كانت منها المدراس العربية الصرفة، وتلك المسماة بالعربية الفرنسية تجاوزا. ومع الألفية، الثالثة ظهرت ما يمكن تسميها بمدارس عصرية فرنسية عربية، وإن كانت بحاجة إلى مزيد الرعاية والجهود المكثفة لتصل إلى المستوى المطلوب، في محتوى المنهج والمعرفة. وبجانبها مراكز تحفيظ القرآن الكريم الحديثة التي أظهرت شيئا من التقدم الملموس. وحاليا، قد يقترب أويتجاوز عدد المعاهد والمؤسسات التي تبدأ الدراسة فيها من مرحلة الحضانة إلى المرحلة الثّانوية ألفًا، والكليات تقترب إلى عشر.
ولكن التساؤل الملح هنا هو: ما مدى استقلالية هذه المؤسسات التعليمية والكليات من التبعية المطلقة للعالم العربي منذ أكثر من ستين سنة. فجميع مدارسنا بلا استثناء تعمل في ظل غياب منهج وخطة واضحة تنبني على قاعدة معلوماتية تخدم مصالح ثقافتنا الإسلامية ومتطلبات وطننا ماديًّا ومعنويًّا. كل مدرسة تعمل لحالها على خطة ملتوية التقاسيم، ولرؤية حالكة السواد. أما من ناحية المنهج فكل مدرسة لها مرجعياتها الخاصة بها، وعادة ما تتلون بالاتجاه المذهبي أو الحزبي لمؤسسها، أو حسب تأثر صاحبها بالدولة التي أكمل فيها دراسته الجامعية، فالذين تخرجوا في مصر عادة يتبنون المنهج الأزهري في معظم المواد المدروسة هناك، والذي تخرج في المغرب العربي أو الخليج سيفعلون الشيء نفسه، بل الأدهى والأمر، أنك تذهب في مدرسة فتجد كل أستاذ له مرجعيته الخاصة به في المادة التي يدرسها، وعادةً يعتمد على مناهج الدولة التي درس فيها المرحلة الجامعية. وهذا التقصير لا يستثنى منه تلك المناهج التي صممت من قبل الحكومة للمدارس المزدوجة، حيث إن المحتوى المعرفي والثقافي فيه، لم يبتعد كثيرًا عن غطاء الثقافة العربية الصرفة، وما ظهر فيه من نصوص أدبية محلية كانت عارضة وشحيحة تظهر مدى جهلنا لتاريخنا الثقافي، فضلا عن وعينا عنه.
صحيح أننا نشترك مع العالم العربي في الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، ولكن بلا مواربة فكل دولة تدرس الثقافة الإسلامية بطريقة تتناسب مع واقعها، وتختار من الثقافة الإسلامية ما يتوافق مع قطرها الجغرافي. أما في التاريخ والأدبيات فينبغي أن تظهر بصماتنا على الطول والعرض. غير أن الواقع غير ذلك، فمدارسنا لا تخرّج عدا تلاميذ يعرفون كل شيء عن العالم العربي، ويكادون يجهلون كل شيء عن بلدهم وثقافتهم. وهنا أسأل: أليس من حقنا أن نتعلم تاريخ الإسلام في السنغال بصفة خاصّة، وغرب إفريقيا أو إفريقيا بصفة عامّة، وكيف توسع الإسلام هنا وما هي السبل التي اتخذها، وما المراحل التي مرت به، وكيف قاوم أجدادنا مشروع الاستعمار الفرنسي، وأن نعرف شيئا عن الشخصيات المهمة الذين سجلوا هذا التاريخ، ووقفوا وقفة بطل أمام القوّة الغازية؟
أليس من حقنا أن نعلم أن أجدانا تبحروا في اللغة العربية، وأبدعوا في فنونها، نحوها وصرفها وبلاغتها وأدبياتها، وغيرها من فنون المعرفة الإسلامية وغير الإسلامية، ألم يأن لنا أن نشخص ماهية تلك الإسهامات، لنقف على طبيعتها، وما تقاسيمها الخاصة، أي تلك التي تميزها وتحدد هويتها من ضمن الهويات الإسلامية بمختلف أصنافها؟
كل هذه لن تتحقق ما دمنا نفترق لاختلافات طفيفة بين أحزابنا، فيظل كلٌّ منا يستعين بالدولة التي تمد له يد العون أوتموّله. وعليه، لن نبرح نتعصب لها بمناهجها واتجاهاتها السياسية والثقافية، مما يعني أننا سنعكف نخدم الآخر الأجنبي الذي نتوهم صلابة قرابتنا له، وهذا على حساب مصالح أمتنا. واستمرارنا على هذا الدرب، يعني مواصلة إهدار حقوقنا الماديّة والمعنوية والفكرية، بكلمة واحدة هويتنا.
وفيما أرى، سنظل ننقم من الحكومة ونقدح فيها، على أساس أنها تخدم فرنسا وتراعي مصالحها، وأنها تنحاز للمدراس الأهلية المسيحية التي تستقبل تمويلات باهظة من قبل الحكومة، تمويلات تقدر بمئات ملايين سنويّا، من أموال الدولة التي تنحدر 90% منها من جيوب المسلمين الكادحين. وأن يستمر تحريف تاريخنا الإسلامي لأن من يتولى تقديمه ليس ممن يهتم بالإسلام في الأساس، وإنما الحكومة التي أصابها مرض الرهاب من الإسلام. ذلك الإسلام المختزل في شريعته المحبوسة في رجم النساء وجلدهن، وقطع يد السارق..
وفيما أعتقد، ينبغي أن نلجم من الخطاب الاحتجاجي، ونسعى إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة لتأسيس إدارة مركزية تدير التعليم الإسلامي العربي في السنغال، يسهم في تمويلها وتسييرها مختلف الأطراف المعنية بالثقافية الإسلامية. أما المضي في لوم الآخر تسلية للنفس، لن يجدي شيئًا، ولا يعني لهم شيئًا، غير أن الكلب ما زال ينبح، مما يعني أنه لن يعض أحدًا. وعليهم سيمضون قُدَّمًا لإنجاز ما يرونه صحيحا بالنسبة لهم. وهنا يجب أن لا نلومهم في ذلك، لأن كل إناء بما فيه ينضح. وصيحاتنا المتناثرة هنا وهناك لن تغير من الأمر شيئًا، لأنها جهود غير منظمة يسهل تخميدها وتكميمها. وسيظل مئات من المسلمين يرسلون أبناءهم إلى المدارس المسيحية لاستجداء الامتياز في تعليم أبنائهم، فيسهمون في تمويل المدارس المسيحية من جانب، ومسخ أبناءهم ثقافيًّا ودينيًّا من جانب آخر.
ألم يأن لنا أن نضع لهذا النزيف حدًا، لنفترض أننا تقاربنا وأوجدنا إدارة مركزية تدير المدرسة الأهلية الإسلامية في السنغال، وتدافع عن حقوقها وتراعي مصالحها، وتعمل في إنشاء مناهج تتناسب مع واقعنا، وتسهر على تطويرها، وتخطط لإنجاز رؤيا قريبة وبعيدة المدى. هل ستستمر الحكومة في إهدار حقوقنا وتتجاهلها بحجة عدم وجود ممثل تتوجه إليه، وبدعوى أننا كثر لا يمكن إرضاءنا جميعًا. فعلا نحن كثر، والكثرة يفترض أن تمثل قوةً، ولكن ما الذي يجعل كثرتنا ضعفًا؟ بكل سهولة لأننا جمع متفرق.
وختاما، حق لنا أن نبكي على هويتنا الضائعة، وحق لنا أن نهاجم على من نظنه مسؤولًا عن ذلك، غير أن الذي ضيع تراثنا ليس إلا نحن، أو نحن الذين سهلنا لهم الأمر، حين عجزنا عن جمع شتاتنا لندافع عن ما لنا.
(*) أستاذ اللغة العربية في ثانوية ولجوج انجاي بكولخ