“سونكو، جوماي” على خطى جاه و سنغور؟ أم أردوغان وغول؟
ليلة الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي لم ينم سنغاليون كُثر على ملإ جفونهم بما ساورهم من قلق بالغ أقض مضاجعهم، لما توهموا من تناقض في خطاب رئيس الوزراء عثمان سونكو ورئيس الجمهورية جوماي فاي في قضية “صمب نجاي”، وبحسب المثل العربي (مصائب قوم عند قوم فوائد) قضى في المقابل خصوم المشروع الباستيفي ليلة سعيدة من أروع الليالي حيث بدا في زعمهم لأول مرة نذر الفراق بين الزعيمين سونكو وجوماي، وهو حلمهم الأكبر للتشفي من رجال باستيف واستعادة ملكهم البائد.
والواقع أنه لا تناقض فعليا بين خطاب الزعيمين؛ حيث تكلم جوماي كرئيس يعول جميع أبناء الشعب السنغالي على اختلاف توجهاتهم السياسية، وهو لا يسعه غير هذا الموقف كرئيس دولة، بينما تكلم سونكو كرئيس حزب سياسي لطمأنة أنصاره في مطالب مشروعة تتناغم مع القيم المثلى للمشروع الباستيفي.
وإذا كان الوطنيون المؤمنون بمشروع باستيف يراهنون على دوام وحسن الصحبة بين الزعيمين سونكو وجوماي لخدمة السنغال وإصلاح أوضاعها التنموية؛ فلأنهم يستحضرون حجم الفاتورة التي دفعوها من أجل إيصالهما إلى السلطة، وحجم الأمل المنوط على عاتقهما في سبيل سنغال مستقلة وناهضة.
ولو كانت هذه الزمالة السياسية بين الرجلين عقد زواج لقلنا ما أكثره من تكلفة، وأغلاه من مهر دفعه الشعب السنغالي لوضع السلطة بين أيديهما، وهو أكثر من ثمانين قتيلا، وألفيْ سجين سياسي، وما لا يحصى من الجهد والوقت والمال انفقت في سبيل إنجاح المشروع الباستيفي.
بينما يستحضر خصوم المشروع الباستيفي وهم يجعلون في سُلَّم أولوياتهم السعي إلى الوقيعة والتفريق بين سونكو وجوماي أن ذلك هو السبيل الوحيد لوأد المشروع الباستيفي والعودة من جديد إلى المشهد السياسي بعد ما قلع الرجلان نظام ماكي صال، وأهالوا التراب على مصالح وامتيازات نخبة سياسية كاملة عاثت في الأرض السنغالية فسادا وامتصت دماء الشعب المسكين سنين طوالا.
وطالما بقي الزعيمان سونكو وجوماي على حسن الصحبة من أعلى هرم السلطة فلا مكان للفساد المالي والارتزاق السياسي في السنغال الجديدة.
ومن المفارقة العجيبة أن المعارضة السنغالية التي تراهن على الوقيعة بين سونكو وجوماي كبرنامج بدون أي رؤية سياسية جادة تستحضر دائما الفراق المؤلم بين “جَاهْ وسَنْغُورْ” محاولة إسقاطه في العلاقة بين سونكو وجوماي على الرغم من اختلاف الظروف الموضوعية كما سأبين -إن شاء الله-.
وهي حين تركز اهتمامها على المصير المأساوي بين جاه وسنغور تتجاهل وجود أمثلة وتجارب أخرى في الزمالة السياسية التي نجحت في التصدي والصمود أمام كل المعوقات للحفاظ على حسن الصحبة في خدمة مصالح البلد ومن بينها: تجربة بوتين، مدفديف، وأردوغان، عبد الله غول.
وعندما نتأمل في السياق التاريخي والمجتمعي لأزمة 1962 بين جاه وسنغور نجد اختلاف الظروف الموضوعية بين الفترتين الزمنيتين؛ وبالتالي اختلاف النتائج واستبعاد تكرار نفس الحدث بنفس الطريقة على الأقل، وإمكانية نجاح دوام وحسن الصحبة بين الزعيمين سونكو وجوماي على غرار بوتين، مدفديف، أو أردوغان، عبد الله غول. وهذه بعض الفروق الجوهرية:
أولا: الطريقة التي جاء بها جوماي إلى السلطة تختلف عن طريقة قيام نظام سنغور، حيث قام نظام سنغور في ظل نظام سياسي بدائي يفتقد إلى الشرعية الشعبية، فسنغور يدين بسلطته إلى الولاء لفرنسا التي فرضته على الشعب السنغالي عبر المجمع الانتخابي حينها، بينما يدين جوماي بسلطته لسونكو الذي عينه كمرشحه، وللشعب السنغالي الذي انتخبه بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الانتخابات في أفريقيا وربما في العالم كله، حيث فاز كمرشح معارض من الدورة الأولى بنسبة 54 % من الأصوات. لم يصل سنغور إلى السلطة عن طريق مَمَدُو جاه بل العكس هو الصحيح فسنغور هو الذي تعرف على مَمَدُو جاه وهو يمارس التعليم فأدخله في السياسة وعينه على رأس أول حكومة سنغالية بعد إعلان الاستقلال؛ فالصورة هنا تختلف تماما.
ثانيا: نجح سنغور في الإطاحة بـمَمَدُو جاه بسهولة؛ لأنه لم يكن محتاجا إلى الدخول في منافسة انتخابية مفتوحة؛ وقد أسس لنظام الحزب الوحيد لغاية 1974 حيث تم السماح بالتعددية الحزبية، بينما أصبحت السنغال نظاما ديمقراطيا عريقا تجرى فيها الانتخابات دوريا بشكل حر ونزيه.
وفشل ماكي صال على الرغم من جبروته وتسلطه في إلغاء الانتخابات الرئاسية وحرمان السنغاليين من حق التصويت للتفرد بالحكم يبرهن على ثبات وتجذر مؤسسات الدولة بعد عشرات السنين من النضال الديمقراطي مما يصعب من فرص تكرار أزمة سنغور وجاه.
ثالثا: لم يكن مَمَدُو جاه يتمتع بالحاضنة الشعبية التي يتمتع بها زعيم باستيف عثمان سونكو؛ بكونه المتحكم بالجهاز الحزبي والسياسي بلا منازع، ويحظى بتأييد شعبي نادر في الساحة السياسية، وهو الذي انتخب بإشارته عمداء لمدن كبار، ونواب في البرلمان، ورئيس الدولة أخيرا.
والخصوصية في حزب باستيف أنه لا يوجد في صفوفه زعيم كاريزماتي يقترب من طراز سونكو له أن يدَّعي الاستحواذ على قاعدة سياسية ما، في أي منطقة على طول البلاد وعرضها، بل يستحوذ سونكو على القاعدة السياسية الوطنية الوحيدة لباستيف وهي رهن إشارته وطوع إرادته بينما كان ممدو جاه يفتقد إلى مثل هذا التأييد الشعبي.
رابعا: لقد كان صوت الحكومة في ظل سلطة سنغور هو الصوت الوحيد المسموع في ظل غياب التعددية الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ وهذا مما مكَّن من الانقلاب على ممدو جاه ومحاكمته ثم سجنه ظلما في كيدغو دون أن يحظى بالاهتمام اللائق من الشعب، ليصبح تاريخيا يقرأ في بطون الكتب أو تقارير سينمائية تبث في محافل العرض، بينما يشهد العصر الحالي تعددية إعلامية كبيرة و انفجارا واسعا لتكنولوجيا المعلومات و وسائل التواصل الاجتماعي؛ فيتعايش الناس و يتفاعلون لحظة بلحظة مع أي حدث في العالم.
هذا بالإضافة إلى عمق العلاقة بين الرجلين التي تجاوزت السياسة وأصبحت علاقة محبة وقراية وصلت بتسمية الرئيس مولوده بالزعيم عثمان سونكو، وما يتمتعان به من أخلاق راقية وسلوك رفيع… كل هذا يبرهن على أن فرص نجاح الرهان على الوقيعة والتفريق بين الرجلين شحيحة جدا، وأن نموذج بوتين، مدفديف وأردوغان، عبد الله غول أقرب ما يتصور وجوده في الزمالة السياسية بين سونكو وجوماي.
ومع الوتيرة التي يسعى بها الأداء الحكومي، والتحديد الواضح للأدوار ومساحة العمل لكل من رئيس الدولة ورئيس الوزراء قد ينعدم أو يقلل من أسباب سوء التفاهم أو شرارة أزمة؛ حيث يدير رئيس الدولة الأمور السيادية من الجيش والأمن والعلاقات الخارجية وغيرها، ويدير رئيس الوزراء الخلفية السياسية للسلطة، بالإضافة إلى تنسيق العمل الحكومي أو بأي صيغة عمل يتفقان عليها بوضوح تام.
والخطر الذي قد يهدد العلاقة بين الزعيمين يكمن في الدائرة المقربة لهما وخصوصا من خارج الحزب، والذين لم يشهدوا مع الرجلين أيام البؤس والمحنة، ولم يعرفوا عمق العلاقة التي تربط بين الرجلين، ولا حجم التضحيات التي أوصلتهما إلى السلطة؛ فيتحيزون لهذا ضد الآخر من أجل الحفاظ على مناصبهم ومصالحهم الشخصية. لذا من الأهمية بمكان تصفية الدائرة المقربة من الرئيس ورئيس الوزراء من أي عنصر أجنبي مشبوه، وتأمين طريقة تواصل سريع وفعال بين القصر الجمهوري ورئاسة الوزراء.
وعلى هذا النهج في الأداء الحكومي والسياسي ستشهد السنغال -بإذن الله- تحولا سياسيا من النوع الذي حدث في روسيا، حيث شغل ميدفيدف منصب رئيس الدولة بعد فترتين لبوتين ما بين 2000 و2008 ليمهد له الطريق للعدوة إلى الحكم من جديد بعد أربع سنوات في 2012.
وكما تنحى عبد الله غول الذي شغل منصب رئيس الوزراء في تركيا عام 2002 ليترك منصبه لزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان الذي منع قبل ذلك من ممارسة النشاط السياسي نتيجة مشاكل قانونية.
هذه تجارب مشهودة في الوفاء السياسي تدل على أن السياسة ليست دائما غدر وخيانة بل فيها صفحات مشرقة من الالتزام والوفاء، وهي أليق بظروفنا الحالية وبنضال وأخلاق الزعيمين الواعدين سونكو و جوماي.
عبد القادر عبد الرزاق نجاي
ملحق: صور تجمع بين جوماي وسونكو