سكْرَةُ السياسة بين الاحتضار والانتعاش – قراءة في الواقع الغامبيّ
(*) عبد الرحمن كان
تسير الحياةُ على الأرض بمشيئة مالكها، وبأمره تستقرُّ الأحوال أو تتبدّد، وبقدرته جعل عباده خلفاء على الأرض ليعيشوا تجربة الإدارة والقيادة؛ ومن تلك التّجربة القياديّة ما كانت سياسات البشر فيها سليمة بُنيت على أسسٍ إنسانيّةٍ حكيمةٍ؛ إلّا أنّها تشعّبت تطبيقاتها، واختلفت أفكار البشر حولها، فأصبحت سياساتهم على سكْرة من الغفلة والجهل والظّلم دون أن يُدرك السّاسةُ أنّ هذه السّياسة بمختلف أنواعها عبارةٌ عن روح تتمثّل أنفاسها في العطاء والممارسة؛ ولكنّ القوم فوجئوا بشدّة سكراتها لضعف الإنسانيّة والكفاءة فيهم ونتج عن ذلك غفلتهم التي كانت في عقول دون أخرى؛ حتى أتى الانتعاش السّياسيّ من عقولٍ ناضجةٍ حفّزتها عقولٌ تائبةٌ لاجئةٌ.
في غامبيا اليوم المشهود
شهدت دولة غامبيا الشّقيقة يوما مشهودا في عالم السّياسة، وستبقى هذه الذّكرى مسجّلة في التّاريخ، بعد أن عاشت غامبيا سنوات قاسية تحت حكمٍ ديكتاتوريٍّ، مرّ شعبها بويلاتٍ من الاستبداد في غضون ٢٢ سنة، ومن المشهد سُكِّرتْ أبصار الذين ظلموا حيث فوجئوا بالواقع وأدركوا أن الملك بيد الله؛ فالسنّة الكونيّة للسّياسات البشريّة تُظهر دوما قوّةَ القادة وبطشَهم وزعامتَهم واستيلاءَهم على حقوق النّاس، وبجانب ذلك يؤكّد الواقع شرارة السّكرة والاحتضار السياسيّ لديهم حين تنفد قواهم وتختلّ موازينهم فيصبحوا في مزبلة التّاريخ منسيّين أو عبرةً لغيرهم.
ولهذا الحدث العظيم ثقلٌ سياسيٌّ في الواقع ما يعني أن الشّعوب باقية ما بقيت الحياة مستمرّة وليكن ذلك عبرة لمن نصبوا أنفسهم في أفريقيا وفي غيرها ملوكا على أقوامهم لسنوات طويلة من غير توفير حتّى أبسط الحقوق لهم، وأن المسار واحد؛ فعليهم أن يسلكوا طريقة الرّئيس “يحيى” الحيّ الذي اختار الحياة بدلا من الموت المخزي، وفي تطبيقات المشهد الغامبيّ الجديد حياةٌ للشّعوب وإنعاشٌ لروح الوطنيّة والثّقافة والسّياسة في نفوسهم من أجل مستقبلٍ فريدٍ.
العرس الدّيمقراطيّ من جيش ديكتاتوريّ.
في الحقيقة يجب أن تكون العقول مشغولةً في البحث عن هذا التغيّر المثير، في لحظةٍ إجرائيّةٍ سياسيّةٍ قصيرة استطاع الجيش الدّيكتاتوريّ في غامبيا برئاسة يحيى جامي في تغيير القليل من سمعتهم السّياسيّة وذلك بتطبيق الدّيمقراطيّة وإرضاء الشّعب ومنحهم الحقّ في الاختيار مع تقبّل الهزيمة بصورةٍ مفاجئةٍ؛ وهذه التّوبة السّياسيّة مع ما يشوبها من شوائب إلأ أنها تعدّ من أرقى التّطبيقات العادلة للحكم في واقعنا الحاليّ.
والذي يجب التّبصير به هو تلك الدّيمقراطيّة الخفيّة التي كانت مطبّقة من الغامبيّين وذلك في سلميّة المعارضة، والتّخطيط للمستقبل، والعمل الجادّ للحصول على البديل، ومحاولاتهم الجادّة في إيصال الواقع المرير الذي عاشوه عبر وسائل الإعلام المتاحة لديهم من غير خنوع أكثر من عقدين؛ ولهذا كلّه، ثبت الوعي السّياسي في أكثرهم فكانت سلميّتهم أقوى من رصاص الدكتاتوريّ، وبخططهم وتماسكهم أجبروا المستبدّ على التّوبة، ووفّروا له فرصة المصالحة فكان ممدوحا سياسيّا على فعله واستجابته لرغبتهم، فكانت النّتيجة عرسا ديمقراطيا تمّ طبخه ابتداء من الشعب مكمّلة تجهيزاته من حاكم ديكتاتوريّ، وما كان ذلك ليكون لولا أنّه كان وطنيّا أحبّ دولته ولكنّه أخطا حين فضّل ملكه على شعبه.
سنغامبيا مجدّدا !
في مادّة جغرافيا تأتي المعلومة: “ودولة غامبيا داخل السنغال على شكل شريط”، ونجد الواقع حولنا يحكي أن السّنغال وغامبيا عبارة عن أسرة واحدة، فما أكثر السّناغلة الغامبيّين وما أكثر الغامبيّين السّناغلة، زياراتٌ متبادلةٌ، وثقافةٌ واحدةٌ، والسّنغامبي له أسرة ٌكاملة الاركان في كلتا المنطقتين؛ لذلك يأتي التأسّف على هذه الحالة متمنّين تجديد العلاقات وتحسينها على مستوى عال بعد أن غابت العجرفة السّياسيّة في دولة غامبيا، ويجب السّعي الحثيث بين الحكومتين في حلّ أزمة كازماس، والحوار الجادّ في سبيل حماية المواطنين السّنغامبيين، ورأب صدع الخلافات السّياسيّة في حدودهما والتي كانت مشتعلة في عهد الرّئيس “جامي” ؛ ليبقى السّلام والاستقرار عنوان الدّولتين نحو اتّحاد جديد.
نجد حقيقة جمال الانتعاش السّياسيّ في تطوير الدّول وتمهيد مستقبلها، وعليه فإنّ على الحكومة الغامبيّة الجديدة برئاسة “آدم بارو” تأمين مستقبل المتعجرف المنتهية ولايته واتّباع سياسة المصالح وتقليل المفاسد، والسّعي في بحث حلول كافية لتطوير الدّولة، وتسديد سياساتها مع دول الجوار ودول العالم، وعلى هذه الطّريقة سنجدها دولة صغيرة في حجمها عظيمة في سياساتها وتطوّرها كما هي عظيمة في تثبيت الدّيموقراطيّة بعد أمد بعيد من غيابها في البلاد.