رسالة إلى السيّد عثمان سونكو
جبريل لي السماوي
رسالة إلى السيّد عثمان سونكو .
القمر في ذروة السماء يقرأ أوراد الليل هادئا، ويقصّ للغرباء أقصوصة الحنين متوقّدا، والنجوم تحوم حول السماء تسبّح بحمد ربّها تعظيما وتقديسا، وكلّها روعة وبراءة، والليل المدلهمّ يختزل الظلام شقًّا لفتح الأنفاق صوب الصباح الجميل، وومض البرق يكشف للساهرين شيخوخة هذا الكون الفسيح. ها أنا أعكف بقلمي على الورقة الحبلى لأكتب إليك رسالة النوستالجيا والاشتياق، ممزوجة بالتحفيز والوصيّة وشيءٍ في داخلي …
إليك يا سيّدي عثمان سونكو (زعيم المعارضة في السنغال )
سيدي ! في حياتي لم أصفّق لزعيم سياسي إلاّ نادرا، لأنّ أغلب من يخوضون في غمار المناورات السياسية، يتقمّصون شخصيات مزدوجة، لممارسة الخدع والمكر والبراغماتية السياسية المفرطة. فأنت من الأقليّة التي صفّقت لها، ليس لأنّك صاحب الحلّ المطلق، بل لأنّني قرأت في ملامح وجهك البريء آلافا من حكايات النّقاء ومئاتٍ من صفحات الصراحة والأمانة. لاحظت بأنّك لم تتكلّف يوما ولا تتقن فنّ المراوغة ساعةً، وإنما أنت صادق مع نفسك وذاتك، وتؤمن بمبادئك التي بشّرت أنصارك بها. قرأتٌ كتابك ( Solutions ) ولأول مرة في رحلتي الفكريّة، أجد مشروعا إفريقيّا ضخما بحجم مشروعك الذي يدعو إلى التحرّر من التبعية الأجنبيّة، والاكتفاء الذاتي، والانقلاب على مصالح الاستعمار، والدعوة إلى العناية بالطاقة والمواد الخام التي تكتظّ الأرض الافريقية بها، ثم الاستثمار فيها للقفز من النكسة الاقتصادية إلى الرفاهية وتقرير المصير.
سيّدي عثمان ! لعلّ أكبر خطأ ارتكبته في هذه المغامرة السياسية هو : تنظيرك للمثالية السياسية المفرطة، فأنت لم تستطع التوازن بين المثال والواقع. فهذه المثالية السياسية التي بشرت بها أغلقت عليك الكثير من الفضاءات والمساحات السياسية.
قد حصرتَ مفهوم السياسية في العراك والاصطدام مع الدولة،بينما السياسية لعبة طويلة، مزيجة بين الحرب والمفاوضة، بين فرض الذات والتنازلات . فاللعبة السياسية مبنية على سُلّم أهداف وليست عبارة عن قفزة واحدة. وعلى الزعيم السياسي التأقلم مع الواقع، والنظر إلى الإمكانيات المتاحة على الأرض والميدان السياسي ، للتحكم على ديناميكية سيره السياسي نحو الأهداف الاستراتيجية التي رسمها في ذاكرته وخياله. ومن ضمن قواعد اللعبة السياسية، رؤية هذا السّلّم من الخيارات والاحتمالات، وعدم التركيز في تحقيق المشروع السياسي الذي لا زال على الورقة، قبل الوصول إلى السلطة .
يا سيّدي عثمان ! أنت بحاجة إلى العزلة مع النّفس لنقد الذات وقراءة الواقع بشكل أدقّ. فهذه القاعدة الجماهيرية التي راهنت عليها ووثقت بها كثيرا، تحبّ أن تحارب لأجلك، لكنها لا تعرف مفهوم الثورة ولا أبجديات المقاومة، وليس معها الإدراك التاريخي والوعي السياسي، لذلك كان عليك قراءة سيكولوجية أنصارك قبل الدعوة إلى تفعيل نظرية غاتسا غاتسا التي أدخلتْك في معضلات قضائية مع الدولة العميقة. فالشعب عطشى إلى الخروج من الويلات والأزمات والانهزامات الاقتصادية وعنده إرادة -وإن كانت غير كافية – للنضال وللحرب ضدّ الفساد السياسي وسوء توزيع الثروات والتلاعب بالممتلكات العامة، لكنّه شعب محاصر من كل القوات الصلبة داخل الدولة وليس له نَفَس طويل لتصدّي هجمات أجهزة الأمن رغم التضحية والكفاح ودفع فاتورة دماءٍ وأرواحٍ كثيرة . فأكثر هؤلاء الشباب لا يصفقون لك لأجل مشروعٍ سياسيٍّ محض، بل لأنّك ملأت الفراغ السياسي فيهم من خلال خطاباتك ضدّ الفساد والطغيان السياسي ومصالح الاستعمار. واستثمرت في غضبهم على النظام، وكسبت عواطفهم وقلوبهم. ولو نجحت في قراءة نفسية هذه القاعدة الجماهيرية، لأدركت أنّها رخوة وليست صلبة، لأنّها تفتقد إلى روح النضال التي لا يتمّ تنشيطُها إلاّ من مزرعة الفهم الكامل للتاريخ والاستفادة من الماضي، ومن سلسلة طويلة لنضال الشعوب.
بعد أحداث مارس 2021 قام الرئيس ماكي صال بالتعبئة السياسية واستطاع تحرّش كل القوات الصلبة في الدولة (القضاء، الإعلام، الأمن، المجتمع المدني القادر على التأثير، الجيش ) كتهميد لفرملة وإجهاض أي مقاومة تٌنسّق ضدّه. لقد استطاعت الدولة العميقة قراءة أحداث مارس على مستوى سيكلوجية الشعب، والأمن …فكانت الدولة بحاجة إلى التحكّم على عقارب الساعة، والقيام بإجراءات استراتيجية، لأجل تقليص درجة غليان الغضب من قلب الشعب ، ولتضعيف حجة المقاومة عند المتظاهرين، وفعلتْ في اللعبة حرب الاستنزاف ضدّ الثورة لهندسة الإرهاق واللاجدوى في نفوس أنصارك. لقد كسبتَ المعركة في أحداث مارس لكنّك لم تنجح في الاستثمار على تداعياتها، وهذا الخطأ الاستراتيجي وضعك أنت وسِجّلك الانتخابي على المحكّ رغما عنك . سأهمس في أذنك وأقول لك بأنّ السياسية عبارة عن (وادي الذئاب) لذلك عليك استخدام مبدأ سوء الظنّ مع الجميع، وليس حسن الظنّ، محاولة الحصول على شهادة الشرف والتعامل مع الجميع بالحبّ والثقة الزائدة، جعلتك تذوق كأس الخيانة مرة تلو الأخرى …
سيدي عثمان! في كل الأحوال فأنت لا تخسر، فقد أصبحتَ من أولاد التاريخ الذين لا تستطيع الذاكرة محوهم من الوجود. فكما صفّق التاريخ لتوماس سانكرا ومامادو جاه وباتريك لومومبا ، كذلك سيرسمك التاريخ في صفحاته النبيلة.
يا سيدي عثمان إنّ السجن ليس إلاّ غرفة مخاضات أعظم قادة العالم، فيمكن أن تولد هناك ميلادا سياسيا جديدا، وترجع إلينا بعد مليار تجربة وكسب حنكة استراتيجية، وبثوب جديد لمواصلة سيرك السياسي إن قدر الله ذلك…
سيدي عثمان لقد كثرت الأقوال حول إضرابك عن الطعام، ولا أرى جهينة حتى أسأله عن الخبر اليقين . لكن وصيتي لك هو إنهاء الإضراب إن كنت مضربا عن الطعام
فالإضراب عن الطعام ليس حلاّ، خاصة عند شخصية قيادية، الذي يحتاج إلى اللياقة الذهنية الحاضرة للتحكم على مخطوطاته حتى خلف القضبان
ثانيا : الإضراب يسهل للدولة إجراءات القضاء عليك إن كانت تنوي الخلاص منك، ثم تفسر الأمر بتفسيرات سائغة، تعطي للشاهد انطباعات سيئة
ثالثا : تجويع النفس دليل على نهاية كل الحلول عندك، والشخصية القيادة لا يجب عليه إظهار العجز في إدارة قضيته النبيلة، ولو انقطعت عنه كل السّبل
أتمنى لك الخروج من الأسر والانفلات من القيد قريبا والعودة بثوب سياسي جديد… أكثر مرونة وذكاء ودهاء وتوازنا ويقظة.