رحلتي إلى الشيخ….. قراءة أسلوبية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من طبيعة التأليف العلمي لدى أي قوم أن يكون مرآة يعرف من خلالها حالة أصحابها على مستوياتها المختلفة، كما أنه يأخذ منحى تصاعديا وفق طبيعة أهله، – وإن كنا نجزم بأن تلك القاعدة ليست مطردة استنادا إلى القرن السابع الهجري وحالتها السياسية مقارنة بمؤلفاتها الغزيرة – فإننا نرى أنها قاعدة تصلح لكثير من الأزمنة والأمكنة، ولذلك لابد لقارئ أي مؤَلف ما أن يراعي أبعادا كثيرة تتنوع وتتكاثر وتتجمع بحسب العلاقات الطردية والعكسية، ولا يمكن لأي دارس للطريقة المريدية أن لا يراعي فيها أربعة أبعاد تتحكم فيها سلبا أو إيجابا مدا وجزرا – ولا يعني ذلك أيضا أنها مفعولة به لا فاعلة – لكنه الزمن ومتقلباته التي يخضع الجميع لها وهذه الأبعاد الأربعة هي:
- البعد الإسلامي
- البعد الصوفي
- البعد الأفريقي
- البعد الوطني
ولا شك أننا نرى نشاطا متجددا على كل المستويات الأربعة ومن ضمن تلك الجهود ما تقوم به مشكورة الرابطة الخديمية للباحثين والدارسين ولن أسهب كثيرا في ذكر إنجازاتها المشرقة، فجهودها كفيلة بشرح غاياتها ومقاصدها، ومن تلك الجهود وأعظمها تلك الرواية التي أصدرها أحد أعضائها والتي أعدها أبرز ملامحها التجديدية وذلك لأنها – فضلا عن كونها طريقة تأليف لم يعهد عندنا، وغرضا فنيا لم ينتشر بعد بالشكل الملائم له في القطر السنغالي – فإنه في المؤلفات المريدية أعز من عنقاء مغرب، وذلك لطابع تقديسي وعوائق معتقداتية ذات طابع تراثي قد يحول بين المؤلف وبين مايريد، وذلك ما يجعل مجرد اقتحام المجال بادرة شجاعة تستحق الدعم والتأييد لكن هذا لا يمنعها من قراءة نقدية تصب في توجيه ما قد يشوبه من مشوهات فنية، وبما أن القراءة العامة مما يكاد يتفق عليه الجميع فإني أفضل أن تكون قراءتي ذات طابع أسلوبي ليقيني – كما يقول سامي العجلان- بأنه مصدر تفاوت الشعراء والروائيين وهي الطريقة الوحيدة التي من خلالها نكتشف ملامح الأحادية والفرادة لأنها في نهاية المطاف الطريقة الشرعية لفهم التفكير الداخلي للإنسان.
ويمكن تقسيمها أسلوبيا إلى ثلاثة مستويات:
أولا – الأسلوب اللغوي:
حسب اللغة العامة للكتابة – والتي كنت أحب أن أراها أقوى مما هي عليها- ترى أنفسنا بين حلقتين من مخزوننا التراثي :
1- ما يسميه البعض بالأدب الإسلامي الذي يجعله قصة هادفة لتحقيق غرض ديني أكثر من كونه وسيلة لتحقيق غرض فني ولا شك أن القارئ سيجول في ذهنه كثيرا كتب عبد الرحمن الباشا (صور من حياة الصحابة) لا من حيث كونهما جميعا روايات إسلامية تاريخية ولكن من حيث التشابه في كونها على طريقة سردية حكائية لا يستثمر اللغة كأداة للتشويق يبعث في القارئ رغبة المواصلة التي تشد قارئ الروايات، إذ يكتشف أنه أحداث ونصائح تصاغ كما هي بدون الصياغة الفنية الملائمة، وذلك على عكس روايات تحمل الطابع نفسها من حيث الرسالة (كشتاء دافئ للعريني).
2- الحلقة الثانية كونه منتسبا لغة ومضمونا إلى طريقة الصياغة التي عهد بها مؤلفات الطريقة المريدية وهي وإن كانت نقطة إيجابية من حيث كونها وطيدة العلاقة بما صيغت لأجله فلا شيء فنيا يبرر ذلك لأن اللغة في نهاية المطاف هي العلامة الفارقة بين أنواع الكتابات فلا يجوز بأي حالة أن تستنسخ الصياغات العلمية في صياغة الأحداث الفنية مهما اتحدتا في الأهداف.
ثانيا- التصوف الحاضر الغائب:
البعد الصوفي باستثناء المقولات المنسوبة إلى شيخنا الخديم غائبة ويبرز غيابها في استبعاد اللغة الصوفية المعروفة على مدار التاريخ الإسلامي بكونها مليئة بكثير من الإشارات والرموز والكلام المبهم وأشياء يحتمل التأويل وتأجيلات متعددة لكل مقام وحالة وجدانية تتلبس المريدين والطلاب حيال شيخهم مما ينتج حالة نفسية تتولد منها لغة مشحونة بكثير من الحب والشجن تكون بعيدة عن المباشرة ، تلك المباشرة التي دائما ما تضعنا أمام الصورة الغائبة بدون أي تأجيل مشوق للمعنى ولعل ذلك ما يتجلى أكثر في عبارة (ولما وصلنا إلى الباب خلع سرنج عافية نعليه وعمامته وخلعت نعلي ثمة فدخلت وعاينت الشيخ جالسا) هذه العبارة والحالة العظيمة المملوءة بالترقب والشوق الإلهي الذي لا يطفأه الوصال كما يقول الشيخ الأكبر ابن عربي ، هذه الحالة كانت تحتاج إلى حبكة غير هذه التي حيكت بها، إذ أنها أعظم منها بكثير .
ثالثا- البنية الفنية:
لاشك أن القيمة العظمى للرواية ليست فنية وإنما هي تاريخية من الدرجة الأولى وذلك لما اشتملت عليه من مأثورات عن الشيخ الخديم -لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار مؤلفه وجهوده المعروفة سلفا – لكن ذلك لا يمكن أن يكون مسوغا لأشياء من حيث الأسلوب تقدح في فنيتها ومن تلك الأشياء التوزيع العام لفصول الروايات حيث نتيه ونحن نبحث عن أي معيار استند في هذا التصنيف هل هو لتسلسل الأحداث أم لغرض تعليمي كما يحدث في كثير من الكتب العلمية ، خاصة وأن الزمان والمكان عنصران أساسيان في أي بناء روائي وهما ما يأخذان حيزا ضيقا في الرواية حيث وإن بدا “انجاريم” متسعا أفقيا وعموديا بسبب الحكايات التي تخرج المكان من عنق الزجاجة فإن الزمن يبقى في حلقة واقفة لا يتحرك في أكثر من مساحة (طول الله عمره) تلك العبارة التي وفق الكاتب كثيرا في اختياره إذ أضاف إلى عنواه إثارة كان يفتقر إليه أكثر مما سواه فإنه حصر القارئ في زمن لا يعرف أوله من آخره أو نقول لم يتسع الزمن في الرواية ولم ينم ولعل مما يبرر ذلك أنها براوة كتبت في مكان واحد.
لكن كل ذلك لا يمنع إيفاء الكاتب شكرا عظيما على جرأة أدبية غابت طويلا وحضرت أخيرا، فهو بحق مؤسس لحقبة بدأت بكتابه ، وطبيعة البدايات أن تكون متعثرة وقد قال سيدي محمد أبو موسى (الخطأ الذي يقود إلى الصواب جزء من العلم) فما بالك بصواب يقود إلى الأصوب، ولعل الفضل للسابق لا للاحق، من يدري؟