دمعة على سادن المعبد
(*) الحاج مصطفى امباكي
ليلة السادس عشر من شهر مارس كان السنغال على موعد مع حزن عميق لا أشك أنه قد كانت له بوادر تنذر به، لكن قليل من يفهم تلك البوادر، حزن أخرج من بين رئتيه مخزونا هائلا من الحب كأنما كان ينتظر اللحظة المناسبة لتعبر عنه.
استيقظت على إثر خبر يوحي بأن ركنا من أركان الوطن قد استقال من المهمة الصعبة التي حملها على عاتقه مايقارب قرنا من الزمن.
نعم لقد رحل الفسلسوف الضالع الذي خبر أعماق الفلسفة، الصوفي الناسوتي، السياسي الذي خبرته التجارب، الوطني الذي طالما حاول المسح عن جبين بلده غبار الغزاة المحتلين، الزعيم الديني الذي كان باحثا لم ينقطع عن البحث منذ أن بلغ الحجا، الديبلوماسي الذي كان عنده من الحكمة ما يكفي لحل الأزمات، الأديب الذي خلف تراثا شعريا يصنفه في خانة كبار شعراء بلد التيرنغا، ذاكم هو الذي غُيب في الثرى، لينضم إلى قافلة العظماء الذين أدوا ما عليهم ثم خلدوا إلى الأرض لكي ينتظروا جزاء ما قدموه في يوم الآخرة، تلك القافلة التي كان آدم عليه السلام أول من أعطى إشارة البدء بانطلاق سيرها ثم ركبها كل من أنجبتهم الدنيا من الأنبياء والعباقرة والمصلحين.
اليوم تكتحل السنغال بالسواد لتودع واحدا من نوادر فرسان المعبد، واحدا ممن كانو رمزا للتفاؤل والكد، بقية من زمرة نالت احترام المجتمع على اختلاف توجهاته الفكرية والسياسية، غادر السنغال في ظل ظروف أقل ما يقال عنها هي أنها استثنائية، ولها أبعاد كبيرة على مستقبل الوطن وكأنه يلوح لهم بيديه إلى تجاربه كي يستنيرو بها إذا تاهو في بيداء الوحشة.
أيقونة النضال واحد من أول من طرقوا باب الحرية الحقيقية، اليوم غادر ذلك الصراخ الذي كان يقض مضاجع أذناب المستعمر في الستينات، لأنه كان يرى جيدا ما وراء الحجب، كان يخترق تلك الغشاوة الملمعة وينبئ الناس بأن مافيها سراب ووهم خادع يجب أن نمحو ظله قبل أن تشكلها الأحداث إلى حقيقة، كان يرى شبح المستعمر بعين بصيرته فيوقن ويقول: إنه لم يغادر بعد لكن لكن لكن…………..
غادرالظل الكبير لشيخ أحمد امباكي غايدي فاتما، غادر وخلف جروح معركة شرسة كان يغالب فيها قوى الشيطان برمتهم، و لم تكن أطرافها متكافئة؛ لكن حسبه أن أخبر الوطن بالمكان الذي خُبّئ فيه المفاتيح، حسبه أن دلنا على الطريق الذي يجب أن نسلكه إن أردنا الوصول إلى القمة يوما ما، حسبه أنه كان من رموز المعركة وواحدا من أبطالها، وحسبه أنه كان يتكلم بصوت الحق، حسبه أنه نال انتصارا مؤجلا سيقطف ثمره جيل لم يشهدوا وقائع المعركة.
الشيخ أحمد التيجاني المكتوم هو من أشعل الكبريت الأزلي، وأطلق الناقوس الأول، واندلعت منه شرارة الحرائق الجميلة، ودق الإسفين الأول على نعش العلمانية، ودعا إلى الإذعان لحكم الله عبر صناديق الاقتراع، وكسر الهيمنة والروتين اللذين فرضا قسرا على من يطلق عليهم(زعماء الدين) وكان ضد هذه العلمانية التي وجدنا أنفسنا فجأة قابعة بين أسوارها، ودعا إلى استعمال قوة الحق لا حق القوة ليقينه أن التغيير يجب أن يكون تدريجيا، ولن تمطر السماء ذهبا، ولعلمه أيضا أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
لكن ما بال رجل فهمه أمته متأخرا، أولم يبتلى الأنبياء إلا بهذا! وهل يلام رجل جاء قبل عصره أو بعد عصره.
آه يا علاء جانب أو كنت تعنينا حينما تقول:
لم يفهموك فدع قوما وما اعتنقو لو أنهم فهمو نوحا لما غرقو
لقد كنت كشجرة كبيرة تولد جميلة تأنس الناظرين، وتشب لتفيدهم عبر ثمار طيبة، وبعد فترة تودعهم وتترك لهم حطبا يقاومون به برودة الشتاء، فكلها بركة حال وجودها وحال غيابها.
بل كنت كالمطر يكون بشارة وخيرا حال نزوله، وسببا لنبت الزرع بعد ذلك
لن أخلع عليك صفة الكمال فهي لله وحده، ومن عدا المرسلين فليس بمعصوم، لا ضير في أن لا يتساوى الجميع في فهمك فالنص الجميل يحتمل قراءات كثيرة، لكن لا نشك ولا للحظة أنك كنت تحمل هم أمة تناوشت عليها كلاب لبسوا ثياب الخروف فعريتهم جميعا لكننا قوم لانحب أن نفهم.
كنت أكبر من جلباب الطائفية، وكنت كنهر الأمازون لا تزيدها الدنيا إلا جمالا.
رحلت ونصبت نفسك تمثالاعلى ساحة الأساطير يدعو الناس ويرشدهم إلى مكامن القوة والضعف.
لم تفقد يوما هويتك الوطنية والدينية مع أنك كنت مطلعا على كثير من تراث الأمم السابقة، ولم يحل الانبهار بالحضارة الغربية لتجسد الكمال المحمدي في أبهى صوره في وجه الغرب قائلا بملء صوتك
الغرب أصبح عالما مجنونا وغدا بشكل جنونه مفتونا.
ها قد رحلت وقد خلفت لمن بعدك كنزا يجب أن يكون زادا للسياسي وللمستعرب وللديبلوماسي وللخطيب وللشعراء ولكل أطياف المجتمع.
اليوم ترحل وأنا أعلم يقينا أن محمود درويش كان متلبسا بروحك الطاهرة حينما كان يقول:
إذا سقطت وكفي رافع قلمي
سيكتب الناس فوق القبر لم يمت
وأخيرا سأقولها لك بملء صوت روحي: أنا أحبك يا سيدي أنا هائم بك وبتجربتك وموعدنا في الجنة _إن شاء الله _لأخبرك به.