دعوتنا والحاضنة الاجتماعية الجزء الثالث
(*)عبد القادر انجاي عبد الرزاق
التفاعل الايجابي مع الناس “المجتمع” ومشاركتهم آمالهم و آلامهم وأفراحهم وأحزانهم واهتماماتهم واحتياجاتهم النبيلة وقيمهم الأصيلة وأوضاعهم الصحيحة ومناصرتهم فى قضاياهم العادلة حاجة وضرورة لكسب قلوبهم ونيل حفاوتهم والفوز بتعاطفهم وتضامنهم. ولا بد منه لإقناعهم بدعوة الاصلاح والتنوير التى نحملها إليهم. وكيف ندعو الناس الى الفكرة التي نؤمن بها ونضمهم فى صفها ونحن نعتزلهم أو نناصبهم العداء؟
وهذا ما يفسرأهمية ووجاهة قاعدتنا الثانية او فقرتنا الثانية من شعارنا الجامع لكسب الحاصنة الاجتماعية لدعوتنا الاصلاحية وهي: *الاندماج لا العزلة*.
يقول علماء الاجتماع في تعريف الاندماج الاجتماعي:
*هو مفهوم ينشئه كل مجتمع وكل جماعة بهدف انتقال الافراد أو الجماعات من حالة المواجهة والصراع الى حالة العيش معا.*
فالاندماج إذا بناء جسور التواصل مع المجتمع تدعمها الروابط والعلاقات الاجتماعية وخلق بيئة اجتماعية يسودها السلام والمحبة والتنافس البريء وبيئة فكرية تحفها أجواء الحوار والتسامح وقبول الاخر وتوثيق أواصر الأخوة والمواطنة مع محافظة كل جماعة أو فرد فيه بقناعاته الفكرية وخصوصياته الثقافية وهواياته الفنية في حدود القانون والعرف العام. وهذا ما يضمن للمجتمع الهدوء والاستقرار ويتيح لكل جماعة أو فرد فيه الأمن والأمان والحرية الكاملة في ممارسة عباداته والتعبير عن هويته والدعاية لها دون الاخلال بالنظام العام أو إيذاء الغير او إقصائه و إنكار وجوده وحقه في التميز والاختلاف. وفى هذا الجو الاجتماعي والفكري الهادئ لن تتبلورأو تزدهر سوى الأفكار والمشاريع الجادة الجديرة بالحياة والبقاء لأنها التى تتجاوب مع فطرة الانسان حين تكون صافية منتعشة. (ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ) {سورة الرعد ءاية 17}.َ
وهذا التصور لشكل التعايش السلمي في المجتمع خيار استراتيجي من الناحية العملية لما أشرنا من جوانب الاندماج الايجابية لدعوتنا ومحتمعنا وما سنشير إليه من آثار *العزلة* المدمرة لكنه أيضا توجيه شرعي نتلمس إيحاءاته فى نصوص كثيرة من القرآن والسنة اخترنا منها هذه الحزمة باختصار يقتضيه المقام مع بعض التعليقات:
1- يعتبر الاسلام الأخوة القومية أساسا متينا لها وزنها وقيمتها في العلاقات الانسانية لنقرأ مثلا فى سورة الشعراء هذه الايات حيث تثبت بوضوح الأخوة القومية بين الأنبياء المذكورين وأقوامهم الكافرين:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِين * ََإِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُون) الشعراء 106َ. (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ) الشعراء 123-124. (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ) الشعراء 141-142. (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ) الشعراء 160-161. يقول شيخنا العلامة يوسف القرضاوي “حفظه الله تعالى” في كتابه “الوطن والمواطنة فى ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية” ص 33 معلقا على هذه الايات:
*فكل هؤلاء الأقوام كذبوا رسلهم وكفروا بهم ومع هذا عبر القرآن عن علاقة رسولهم بهم بأنه علاقة (الاخوة) “قال لهم أخوهم” وذالك لأن هؤلاء الرسل كانوا منهم ولم يكونوا أجانب عنهم فتربطهم أخوة قومية.
2- يدعو الاسلام الى “التعارف” أي التواصل والتعايش السلمى بين البشر وإذابة كل الحواجز التي يمكن أن تقطع هذا التواصل المطلوب فى بوتقة الأخوة الانسانية. يقول الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) سورة الحجراتءاية 13. يقول الشيخ محمد الغزالى،رضي الله تعالى عنه فى كتابه “خلق المسلم” ص 155:
*ليست هناك دواع معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتا متنافرين. بل إن الدواعى القائمة على المنطق الحق والعاطفة السليمة تعطف البشر بعضهم على البعض. وتمهد لهم مجنمعا متكافلا تسوده المحبة ويمتد به الأمان على ظهر الأرض. والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم الى أبوين اثنين ليجعل من هذه الرحم الماسة ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق.*
3- السلام والتفاعل الايجابى بين البشر هو الأصل في الاسلام فى العلاقات الانسانية وليس الصدام أو المقاطعة. والاختلاف فى الدين أو الأيدلوجيا لا يعكر صفو التعايش السلمى بينهم مادام محصنا بسياج الوئام والاحترام المتبادل. يقول الله تعالى:
)لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) سورة الممتحنة ءاية8.
4- يمتن الله تعالى على العرب بأن النبي صلى الله عليهم وسلم المرسل إليهم وإلى البشرية جمعاء منهم أي من جنسهم وابن بيئتهم يشاركهم فى الوطن واللغة والتاريخ والثقافة فيقول عزوجل:
)لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سورة آل عمران ءاية 164. ويقول جل شأنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) سورة التوبة اية 128.
5- يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فى أحاديث كثيرة من سنته المطهرة بإحياء شعور الأخوة والتلاحم وروح المشاركة والايجابية فى المجتمع المسلم ويهيب بالشذوذ والعزلة.
يروى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم اعظم أجرا من المؤمن الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني. ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). ﺭﻭﺍﻩ ﺍﻹﻣﺎﻡ ﺃﺣﻤﺪ ﻭﺃﺑﻮ ﺩﺍﻭﺩ ﻭﺍﻟﻨﺴﺎﺋﻲ ﻭﺍﻟﺤﺎﻛﻢ، ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻨﻪ ﺷﻌﻴﺐ ﺍﻷﺭﻧﺎﺅﻭﻁ ﺇﺳﻨﺎﺩﻩ ﺣﺴﻦ. ويقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف وخير الناس أنفعهم للناس). السلسلة الصحيحة للألباني رقم : 426.
يقول النووي رحمه الله تعالى فى كتابه “رياض الصالحين” ص 201 باب فضل الاختلاط بالناس…:
اعلم أن الاختلاط بالناس على الوجه الذى ذكرته هو المختار الذى كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكذالك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم. وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم وبه قال الشافعي واحمد وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين. قال الله تعالى:(ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ ) والآيات فى معنى ما ذكرته كثيرة معلومة.
6- التجسيد العملى لفكرة الاندماج في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهروجلي فى كافة مراحلها ومحطاتها فقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم فى أحداث كبار خلدها التاريخ فى مكة قبل بعثته مبادرة ومسايرة وشهد حلف الفضول الذى قال فيه: (لقد شهدت فى دار عبد الله ابن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم ولو أدعى به فى الاسلام لأجبت). انظر سيرة ابن هشام 1/184. وشهد حدث بناء الكعبة العظيم وحكم بين قبائل قريش حكما عادلا أطفأ نيران الشر والشقاق وهي تلتهب من جراء اختلافها فيمن يحوز شرف اعادة وضع الحجر الأسود فى مكانه. و لما قامت دولة الاسلام فى المدينة أعلن دستورا يرسخ أسس الاندماج والتعايش السلمى بين مختلف الحساسيات والكيانات الدينية والقبلية فيها عرف باسم “وثيقة المدينة”.
أما العزلة النفسية أو الواقعية كلاهما فحالة سلبية شاذة غير طبيعية وظاهرة مرضية غير صحية تنم عن ضعف فى الشخصية شديد وانهزام معنوي مدو أم الواقع وتحدياته واستسلام لليأس والاحباط فى الاصلاح والتغيير وتكشف عن غرور متمكن فى النفس وإعجاب بها وتزكية لها نابع من تصور ديني خاطئ وفكر معوج يجعل حامله يعاف المجتمع المسلم من حوله وينظر إليه شزرا بعين الريبة والاستعلاء. ويحتكر لنفسه وجماعته الصواب والنجاة ولمن يخالفه وجماعته الضلال والهلاك. وهذه كلها آفات جسيمة ينأى أصحاب الرؤى السليمة والبصائر الثاقبة بنفسها عنها. كما أنها تصادم طبيعة الكائن الانساني ومنطق العمران البشري في ضرورة تفاعل البشر الايجابي فيما بينهم وتعايشهم وتبادلهم المعارف والخدمات لتصلح شئون حياتهم وتهنئ معيشتهم ولذالك قال ابن خلدون كلمته الشهيرة: *الانسان مدني بالطبع*
وفى ذالك يتمثل الشاعر:الناس للناس من بدو ومن حضر* بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم.
ولهذا وذاك مما قررنا فى هذه العجالة تبقى قاعدتنا الثانية أو فقرتنا الثانية من شعارنا الجامع لكسب الحاضنة الاجتماعية لدعوتنا “الاندماج لا العزلة” حاجة ملحة وضرورة لا غنى عنها في سعينا لنشر دعوتنا الاصلاحية وإسعاد الناس بها وإسنادها بهم يفرضها علينا الشرع والعقل والواقع