حَيَاةُ الْحَاجِ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ الرَّبَّانِيَّةُ قِرَاءَةٌ وَتَأَمُّلٌ
(*) مُحَمَّدٌ الْمُخْتَارُ جُوبْ
عِنْدَ مَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَنْشُرَ رَحْمَتَهُ بَعَثَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامَهِمْ أَبَا الْقَاسِمِ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَنَصَرَهُ نَصْرًا عَزِيزًا فَاسْتَطَاعَ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ جِدًّا أَنْ يَصُوغَ أُمَّةً هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (( أُمَّةً تَحَدَّتِ الْعَالَمَ بِمُثُلِهَا وَمَبَادِئِهَا وَقِيَمِهَا وَمَقَاصِدِهَا الْعُلْيَا فِي الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى مَدَاهَا الطَّوِيلِ، وَأَحْقَابِهَا الْمُتَعَاقِبَةِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُقَدَّرِ لِبَقَاءِ الْعَالَمِ.))1
وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْفَظُ هَذَا الدِّينَ إِلَى أَنْ يَرِثَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا آتِيًا بِقَوْمٍ مُصْطَفَيْنَ أَخْيَارٍ، يُورِثُهُمُ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَيُؤَيِّدُهُمْ بِنَصْرِهِ، لِيَقُومُوا بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ تَعَلُّمًا، وَتَعْلِيمًا، وَالْتِزَامًا، وَإِبْلَاغًا، وَدِفَاعًا، لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))3 وَهَؤُلاَءِ الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارُ هُمُ الْكِبَارُ. وَالْكِبَارُ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ كَبِيرٌ، وَهُوَ مُصْطَلَحٌ عِرْفَانِيٌّ، يُقْصَدُ بِهِ الصَّالِحُ التَّقِيُّ الْمُرْشِدُ الَّذِي اصْطَبَغَتْ شَخْصِيَّتُهُ بِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، فَانْدَفَعَتْ قِوَاهُ نَحْوَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَأَصْبَحَتْ حَيَاتُهُ مَعْلَمًا مِنَ الْمَعَالِمِ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْجَنَّةِ، لِكَوْنِهَا حَيَاةً رَبَّانِيَّةً وِمِثَالًا حَيًّا لِتَعَالِيِم الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
هُمُ الْكِبَارُ الْمَصَابِيحُ الَّذِينَ هُمُ كَأَنَّهُمُ مِنْ نُجُومٍ حَيَّةٍ صُــــــنِعُوا
أَخْلَاقُهُمْ نُورُهُمْ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ أَقْبَلْتَ تَنْظُرُ فِي أَخْلَاقِهِمْ سَطَعُوا
الْحَاجِّ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ بِفَضْلِ الَلهِ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْكِبَارِ الْأَبْرَارِ، الْمُصْطَفَيْنَ الَأَخْيَارِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَرَّسُوا حَيَا تَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إِنَّ الْحَاجِّ أَحْمَدَ الصَّغِيرْ لُوحْ كَانَ مُؤْمِنًا، مُخْلِصًا، أَوَّابًا، نَقِيًّا، طَاهِرًا، صَادِقًا مَا عَاهَدَ اللَهَ عَلَيْهِ، ثَابِتًا عَلَى الْحَقِّ وَالْمَبْدَأِ، مُتَفَانِيًا فِي تَنْفِيذِ وَتَطْبِيقِ تَعَالِيمِ الْإِسْلاَمِ الْمُتَمَثِّلَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّة.
وَعَلَى هَذَا نَوَدُّ أَنْ نَدْرُسَ سِيرَةَ هَذَا الرَّجُلِ الرَّبَّانِيِّ الْفَاضِلِ الْعَارِفِ بِاللهِ الَّذِي كَانَ عَالِمًا جَلِيلًا، وَفَقِيهًا كَبِيرًا، وُمُرَبِّيًا مُحَنَّكًا، وَ رَبَّانِيًّا مَفْتُوحًا عَلَيْهِ. وَلَاشَكَّ أَنَّ فِي سِيَرِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ، رِجَالِ اللهِ الرَّبَّانِيِّينَ دُرُوسًا وَعِبَرًا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى(( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))1
((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ)) الْحَاجِّ أَحْمَدُ الصَّغِيرْ لُوحْ عَاهَدَ اللهَ بِصِدْقٍ، وَانْتَظَرَ اللقَاءَ بِشَوْقٍ، وَقَدْ لَقِيَ اللهَ مُخَلِّفًا وَرَاءَهُ مَنْبَعًا صَافِيًا نَقِيًّا طَاهِرًا. كَانَ هَذَا الْمَنْبَعُ وَلَا وَلَنْ يَزَالَ يُنْجِبُ أَبْطَالًا، وَيَهْدِي أَفْوَاجًا، وَيَبْنِي عُقُولًا، وَيُسَاهِمُ مُسَاهَمَةً كَبِيرَةً فِي صِنَاعَةِ التَّارِيخِ وَبِنَاءِ الْإِنْسَانِ وَتَصْحِيحِ الْمَسِيرَةِ، وَذَلِكَ بِإِعَادةِ مَنْظُومَةِ الْقِيَمْ الْإِلَهِيَّةِ. الْحَاجِّ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ وَاحِدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ وَأْوْلِيَائِهِ الصَّالِحِينَ، الْمَجْهُولِينَ فِي الْأَرْضِ وَالْمَعْرُوفِينَ فِي السَّمَاءِ، الَّذِينَ لَا يَتَحَّرَّكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَتَحَرَّكُونَ وَيُضَحُّونَ فِي اللهِ مِنْ أَجْلِ الْآخَرِينَ. الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ وُجُودًا خَارِجَ مَيْدَانِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مَيْدَانِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ وَ التَّضْحِيَةِ.
فَقَدْ نَجَحَ الْحَاجُّ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ فِي شَيْئَيْنِ:
أَوَّلًا: الْقِيَامُ لِلَّهِ عَمَلًا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ(( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ))
ثَانِيًا: التَّفَانِي فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَمَلًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى(( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدوا)) فَقَدْ كَانَ شَبِيهًا بِهِ فِي كُلِّ حَتَّى فِي شَخْصِيَّتِهِ
فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَتَمَيَّزُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أَوَّلًا: الْهِمَّةُ
وَ الْهِمَّةُ هِيَ الْإِحْسَاسُ الرَّفِيعُ الْكَبِيرُ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي أَنَاطَهَا اللهُ عَلَى أَعْنَاقِ أَوْلِيَائِهِ تِجَاهَ النَّاسِ وَعَنِ النَّاسِ. لِأَنَّنَا عِنْدَ مَا نُرَاجِعُ الْحَرَكَةَ النَّبَوِيَّةَ فِي مَكَّةَ وَفِي الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ وَمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى وَفَاةِ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ وَرَحِيلِهِ عَنِ هَذِهِ الدُّنْيَا، نَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَكْتَفِي بِأَنَّهُ يَعْرِفُ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَعْبُدُهُ وَبِأَنَّ لَهُ مَكَانَةً رَفِيعَةً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَ لَمْ يَكُنْ يُفَكِّرُ فِي احْتِكَارِ الْإِيمَانِ بِاللهِ لِنَفْسِهِ، وَفِي احْتِكَارِ الْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللهِ لِنَفْسِهِ. وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ بِمَعْنَى فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَاسِ بِالْمَسْئُولِيَّةِ تِجَاهَ النَّاسِ، تِجَاهَ الْبَشَرِيَّةِ، لَيْسَ فَقَطْ تِجَاهَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ عَاصَرَهُمْ، وَعَاشَ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَنْطِقُ بِهَا، وَفِي كُلِّ فِعْلٍ يُمَارِسُهُ، فِي حَيَاتِهِ وَسِيرَتِهِ، وَحَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي الْآيَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْقُلُهَا بِأَمَانَةِ الْوَحْيِ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَانَ يَنْظُرُ فِي كُلِّ هَذَا إِلَى الْأَجْيَالِ الْبَشَرِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ كُلَّ هَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَيَتَمَنَّى لَهُمْ كُلَّ الْخَيْرِ. كَانَ يُرِيدُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ، وَكَانَ يَسْعَى لِيَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْفَلَاحِ، مِنْ أَهْلِ النَّجَاحِ، مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهُمْ ذُلٌّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا خِزْيٌ وَلَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ.
هَذِهِ هِيَ هِمَّةُ وَمَشَاعِرُ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي كَادَتْ نَفْسُهُ تَذْهَبُ حَسَرَاتٍ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ تَكُنْ قُلُوبُهُمْ وَآذَانُهُمْ تُصْغِي إِلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، إِلَى كَلِمَةِ الْفَوْزِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا يَقُولُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ))1 وَقَدْ بَذَلَ الرَّسُولُ الْأَكْرَمُ جُهُودًا شَاقَّةً، فِي سَبِيلِ إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَأَعَانَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْمُخْلِصُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ قَدَّمُوا تَضْحِيَاتٍ كَبِيرَةً وَجَسِيمَةً. وَهَذَا يُعَبِّرُ عَنِ الْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَاسُ الرَّفِيعُ الْقَوِيُّ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ تِجَاهَ النَّاسِ. وَأَوْلِيَاءُ اللهِ الصَّالِحُونَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ عَلَى هَذَا الْخَطِّ، وَيَنْهَلُونَ مِنْ هَذَا الْمَنْبَعِ النَّبَوِيِّ الصَّافِي هُمُ الَّذِينَ يَرِثُونَ هَذِهِ الْمُهِمَّةَ، وَيَحْمِلُونَ هَذِهِ الْهِمَّةَ، وَيُحِسُّونَ بِخُطُورَةِ هَذِهِ الْمَسْؤُولِيَّةِ
الحاج أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ كَانَ طَاهِرَ الْقَلْبِ، زَكِيَّ النَّفْسِ، نَقِيَّ الرُّوحِ، وَفِيًّا فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. كَانَتْ حَيَاتُهُ قُرْآنِيَّةً بِكُلِّ مَا لِلْكَلِمَةِ مِنْ مَعْنًى وَمُسْتَلْزَمَاتٍ. عَاشَ مَعَ الْقُرْآنِ حَيَاةَ الْقَلْبِ السَّلِيمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ، وَالْعَقْلِ الَّذِي يَنْهَلُ مِنْهُ فِي كُلِّ الْمَيَادِينِ الْفِكْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، وَعَلَى ضَوْءِ هَذَا الْقُرْآنِ أَخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْحَيَاةِ مُؤْتَمِرًا، وَمُنْتَهِيًا. كَانَ الشَّيْخُ يُؤْمِنُ إِيمَانًا قَوِيًّا بِأَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ، هُوَ أَجَلُّ وَأَكْبَرُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَأَفْضَلُ مَا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ. فَقَدْ كَانَ مِثَالًا فِي الرَّحْمَةِ، كَانَ يَعِيشُ مَعَ النَّاسِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ مُسْتَضْعَفاً فِي عَقْلِهِ، أَوْ فِي حَيَاتِهِ وَأْوْضَاعِهِ وَظُرُوفِهِ، فَيَتَطَلَّعُ إِلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، يَدْرُسُ آلَامَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُوَاجِهُونَهُ مِنْ مَشَقَّاتٍ فِي حَيَاتِهِمْ وَظُرُوفِهِمْ وَمَشَاكِلِهمِ، قَلْبُهُ يَخْفِقُ وَيَنْبِضُ وَيَتَأَلَّمُ مِنْ أَجْلِهِمْ. كَانَ وَاعِيًا مُلْتَزِمًا، قَوِيًّا بِفِكْرِهِ، وَ قَوِيًّا بِعَقِيدَتِهِ، وَقَوِيًّا بِعِلْمِهِ الْوَاسِعِ، وَقَوِيًّا بِمَنْهَجِ حَيَاتِهِ الرَّبَّانِيِّ، وَ قَوِيًّا بِعَلَاقَتِهِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَ قَوِيًّا بِامْتِزَاجِهِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَقِيدَةً وَأَخْلَاقًا وَتَشْرِيعًا، وَ قَوِيًّا بِسُلُوكِيَّتِهِ بِالسُّنَّةِ النَّبَّوِيَّةِ، وَ قَوِيًّا بِاقْتِدَائِهِ بِهُدَى رِجَالِ اللهِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ(( فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ))1 وَهَذِهِ الْقُوَّةُ لَيْسَتْ شَيْئًا فِي عُنْفُوَانِ الذَّاتِ، تَنْتَفِخُ الذَّاتُ فِيهِ، أَوْ يَسْتَعْلِي بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى بَنِي جِنْسِهِ، أَوْ تَضْطَهِدُ إِنْسَانًا آخَرَ..
فَقَدْ كَانَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ مَسْؤُولِيَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ تُلْزِمُ الْمُسِلَمَ أَنّ يَنْفَتِحَ عَلَى كُلِّ مَوَاطِنِ الضَّعْفِ فِي الْحَيَاةِ، وَأَنْ يَنْفَتِحَ عَلَى كُلِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ أَجْلِ إِعْطَاءِ الْقُوَّةِ. الْمُسْلِمُ الَّذِي يَمْلِكُ قُوَّةَ الْعِلْمِ، الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يُلْزِمُهُ أَنْ يُعْطِيَ الَّذِينَ يَشْكُونَ مِنَ ضَعْفِ الْعِلْمِ قُوَّةَ عِلْمِهِ. الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ يُلْزِمُهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَ الْعَوْنِ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الضَّعْفُ فِي الْحَيَاةِ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَكِّرُونَ بِسَبَبِ هَذَا الضَّعْفِ أَنَّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ النُّورَ الَّذِي يَنْدَفِعُونَ مِنْ خِلَالِهِ إِلَى الْأَمَامِ. وَقَدْ يَتَحَرَّكُونَ فِي الدُّنْيَا الْمَلِيئَةِ بِالظُّلُمَاتِ فَتَتَلَقَّفُهُمْ هُوَةٌ مِنْ هُنَا أَوْ هُوَّةٌ مِنْ هُنَاكَ، أَوْ يَصْدِمُهُمْ جِدَارٌ مِنْ هُنَا وَجِدَارٌ مِنْ هُنَاكَ، لِأَنَّهُ(( لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ، وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) دَوْرَهُ هُوَ الْإِنْقَاذُ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَالْجَهْلِ، وَالضَّيَاعِ، وَالتَّعَاسَةِ، وَالْجَاهِلِيَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ يُعْطِيَ هَؤُلَاءِ الْقُوَّةَ الَّتِي تُحَقِّقُ لَهُمْ مَعْنَى الْبَصَرِ، وَمَعْنَى السَّمْعِ، وَأَنْ يَبُثَّ نُورَ الْهِدَايَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنْ يُعْطِيَهُمُ التَّجْرُبَةَ الْمُبْصِرَةَ، وَالْفِكْرَ الْمُبْصِرَ، فَيَفْهَمُونَ بِهَذَا كُلَّ الْمَخَاطِرِ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَكُلَّ الْكَمَائِنِ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى الطَّرِيقِ كَمَا قَالَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْهُ (( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ))2 وَبِهَذَا يَكُفُّونَ عَنِ الِاصْطِدَامِ بِجِدَارٍ أَوِ السُّقُوطِ فِي حُفْرَةٍ..
هِمَّةُ الْحَاجِ أَحْمَدُ الصَّغِيُر لُوحْ كَانَتْ تَنْبَعُ مِنَ الرَّبَّانِيَّةُ الَّتِي هِيَ نِتَاجُ الْمَعْرِفَةِ. مَعْرَفَةِ النَّفْسِ، مَعْرِفَةِ الَّلِه الْخَالِقِ، مَعْرِفَةِ الْهَدَفِ وَالْمَغْزَى مِنَ الْوُجُودِ، مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ الْمُوصِلِ إِلَى الْهَدَفِ، مَعْرِفَةِ الْأَوْلَوِيَّاتِ، مَعْرِفَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي نَصْطَلِحُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْبَصِيرَةِ.
ثَانِيًا: اِنْشِرَاحُ الصَّدْرِ.
هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تُوجَدُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ لِيَكُونَ مُطْمَئِنًّا، هَادِئًا، وَاضِحًا جِدًّا فِيمَا يَطْلُبُهُ، وَفِيمَا يَقُولُهُ، مُدْرِكًا تَمَامًا لِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فِي لَحْظَةِ الشِّدَّةِ، وَفِي لَحْظَةِ الْمِحْنَةِ، وَفِي لَحْظَةِ الْبَلَاءِ. هَذَا الْمَعْنَى هُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ نَصْطَلِحَ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَمِنْ وَحْيِ سِيرَةِ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ صلى الله عليه وآله وسلم، بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ.
فَالنَّبِيُّ الْأَعْظَمُ هُوَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَالنَّمُوذَجُ الْفَذُّ لِلصَّدْرِ الْمُنْشَرِحِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ…))1 وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَوْصَافَ الِاْنشِرَاحِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَهِيَ مِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ لِلرَّسُوِلِ الْأَكْرَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. ذُكِرَتْ هَذِهِ الْمِنْحَةُ بَعْدَ سُورَةِ الضُّحَى الَّتِي فِيهَا الْمِنَحُ وَالْعَطَايَا حِينَمَا قَالَ لِرَسُولِهِ(( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى))2 وَمِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْمِنَحِ أَنَّ اللَّهَ وَهَبَهُ اِنْشِرَاحَ الصَّدْرِ.
وَمَا مَعْنَى اِنْشرَاحَ الصَّدْرِ؟
الِانْشِرَاحُ فِي الِّلسَانِ هُوَ الِانْبِسَاطُ، وَهُوَ الِانْفِتَاحُ الْبَاعِثُ عَلَى الرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةُ. وَضِدُّهُ الِانْقِبَاضُ وَالِانْكِمَاشُ وَالضِّيقُ. إِذَا قِيلَ فُلَانٌ مُنْقَبِضُ الصَّدْرِ يَعْنِي هُوَ مُنْكَمِشٌ فِي حَالَةِ اضْطِرَابٍ، فِي حَالَةِ قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ وَتَزَلْزُلٍ عَلَى الْمُسْتَوَى النَّفْسِيِّ وَالدَّاخِلِيِّ. وَفُلَانٌ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ يَعْنِي مُرْتَاحٌ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يُوَاِجِهَ الْأَحْدَاثَ، وَأْنْ يَتَعَاطَى مَعَ كُلِّ الْأُمُورِ وَالْأَشْخَاصِ بِرَاحَةٍ تَامَّةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ كَامِلَةٍ. وَهَذَانِ الْمَعَنَيَانِ تُشِيرُ إِلَيْهِمَا الْآيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ فِي سُوَرَةِ الْأَنْعَامِ(( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ))1 رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُبَارَكَةُ، سُئِلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: هُوَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَنْشَرِحُ صَدْرُهُ وَيَنْفَتِحُ. فَقَالُوا لَهُ يَا رَسُولُ اللَّهِ أَ لِذَلِكَ أَمَارَةٌ يُعْرَفُ بِهَا؟ فَقَالَ نَعَمْ ، هِيَ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَ التَّجَافِي عَنِ دَارِ الْغُرُورِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ)) 2
وَيَتَّضِحُ مِنْ خِلَالِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عِدَّةُ أُمُورٍ:
الاِنْشِرَاحُ يُؤَدِّي إِلَى الْهِدَايَةِ(( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ)) الْهِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ تَحْتَاجُ إِلَى انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَانْفِتَاحِ الْقَلْبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبِمَا أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ. الْهِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ تَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةٍ تَكْشِفُ لِلْمُؤْمِنِ الرُّؤْيَةَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، لِمَا هُوَ آتٍ لِمَا يَنْتَظِرُهُ فَلَا يَضْطَرِبُ، وَلَا يَقْلَقُ. الْهِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ يَقِينٌ بِاللَّهِ، اِلْتِزَامٌ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. تَمَسُّكٌ بِحَبْلِ اللَّهِ، عَمَلٌ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، إِيمَانٌ وَاسْتِقَامَةٌ، ثَبَاتٌ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَبْدَأِ. الْهِدَايَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَوْرَةٌ ضِدَّ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَالنِّفَاقِ وَالاِضْطِهَاِد وَالاِسْتِكْبَارِ. وَهَذِهِ هِيَ مُقْتَضَيَاتُ الْإِيمَانِ الَّتِي تُسَمَّى الْهِدَايَةَ الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ.
اِنْشِرَاحُ الصَّدْرِ يُوجِبُ التَّخْفِيفَ مِنَ الْأَعْبَاءِ وَالْأَثْقَالِ((وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)) وَالْمُؤْمِنُ الْمُنْشَرِحُ الصَّدْرِ يَتَجَاوَزُ مَرْحَلَةَ الْبَلَاءِ وَالاِمْتِحَانِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدْرِكُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُ لِعِبَادِهِ سُوءً، وَعَلَيْهِ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ وَمِنْحَةٌ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ. وَلِذَلِكَ نَجِدُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلَا يَتَكَبَّرُ، وَلَا يَكُونَ مَغْرُورًا إِذَا انْفَتَحَتْ أَمَامَهُ كُنُوزُ الدُّنْيَا، وَلَا يَضْطَرِبُ، وَلَا يَتَحَيَّرُ، إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ(( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)).
. الشَّيْخُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَزْمِ وَالْإِرَادَةِ، وَالثَّبَاتِ وَ الشَّجَاعَةِ. فَقَدْ أَقَامَ الْمَنَارَةَ الْقُرْآنِيَّةَ فِي وَقْتٍ عَسِيرٍ جِدًّا فِي السَّنَةِ الَّتِي اِشْتَعَلَتْ فِيهَا الْحَرْبُ الْعَالَمِيَّةُ الثَّانِيَةُ. وَ التَّارِيخُ يُعَلِّمُنَا كَيْفَ كَانَتِ الظُّرُوفُ قَاسِيَةً، وَكَيْفَ كَانَ الْعَدُوُّ وَقِحًا وَحْشِيًّا، وَكَيْفَ كَانَتْ أَسْلِحَتُهُ فَتَّاكَةً، وَكَيْفَ كَانَتْ كَثْرَةُ جُنُودِهِ. الْأَمْرُ الَّذِي جَعَلَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقِفُونَ بِجَانِبِهِ، لِأَنَّ الْمَعْنَوِيَّاتِ كَانَتْ مُحَطَّمَةً، وَالْبُؤْسَ يَعُمُّ مُعْظَمَ الْوُجُوهِ. لَكِنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الصَّغِيرُ لُوحْ كَانَ مُتَوكِّلاً عَلَى الَّلهِ، مُؤْمِنًا بِنُصْرَتِهِ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَاثِقًا بِهِ، مُصَدِّقًا وَعْدَهُ(( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ))
مُوقِنًا بِأَنَّ اللَّهَ مَعَهُ، لِهِذَا كُلِّهِ، رَسَخَتْ قَدَمَاهُ فِي الْأَرْضِ. فَلاَ خَافَ، وَلَا اسْتَوْحَشَ، وَلَا وَهَنَ، وَلَا ضَعُفَ، وَلَا اسْتَكَانَ، وَلَا حَزِنَ. وَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْعَنَاصِرِ فِي الْحَيَاةِ الْجِهَادِيَّةِ للِشَّيْخِ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ هُوَ الاِسْتِعْدَادُ الْعَالِي لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ فِي سَبِيلِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَهَذَا لَيْسَ عَجَبًا، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَبْرَارَ الْمُجَاهِدِينَ كَانُوا يَنْهَلُونَ مِنَ الْمَنْبَعِ النَّبَوِيِّ الصَّافِي النَّقِيِّ(( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ))1 وَالرَّسُولُ الْأَكْرَمُ صلى الله عليه وآله وسلم هُوَ الْمَثَلُ الْحَيُّ الْفَذُّ فِي التَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ، هُوَ الَّذِي عَانَى، وَتَأَلَّمَ، وَجَاعَ، وَصَبَرَ، وَهُدِّدَ، وَهُجِّرَ، وَعُذِّبَ فِي نَفْسِهِ، وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَ فِي أَصْحَابِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ كَلِمَتَهُ الْمَشُهُورَةَ(( مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ)) وَسِيرَتُهُ الْعَطِرَةُ النَّقِيَّةُ تُخْبِرُنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَوْقِعٌ أَوْ مَوْقِفٌ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِيهِ وَهَنٌ أَوْ ضَعْفٌ أَوِ ارْتِيَابٌ أَوْ شَكٌّ أَوْ خَيْبَةٌ أَوْ نَدَمٌ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ. كُلُّ الْآلَامِ وَالْجِرَاحِ وَالْمُعَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُصِيبُهُ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَتْ تَزِيدُهُ عَزْمًا وَحُبًّا وَإِشْرَاقًا وَفَنَاءً وَتَأَلُّقًا وَاسْتِعْدَادًا لِلسُّقُوطِ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ الْقُدْوَةُ وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى وَالْمَرْجِعُ الْأَكْبَرُ فِي هَذِهِ الْمَسِيرَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْإِصْلَاحِيَّةِ. وَ تَعَالِيمُهُ هِيَ الَّتِي صَاغَتْ هَؤُلَاءِ الْمُجَاهِدِينَ الْأَبْرَارِ، وَلِذَلِكَ اسْتَطَاعُوا شّقَّ طَرِيقِهِمْ فِي الْحَيَاةِ فِي ظُرُوفٍ قَاسِيَةٍ جِدًّا
فَقَدْ نَجَحَ الْحَاجِّ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ فِي إِزَالَةِ ثَقَافَاتِ التَّخَلُّفِ فِينَا، الَّتِي جَاءَ بِهَا الْمُسْتَعْمِرُونَ الْخُبَثَاءُ، وَ مِنْهَا:
1- ثَقَافَةُ الاِسْتِسْلَامِ لِمَنْطِقِ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ الْقَاهِرَةِ. بِمعْنَى الثَّقَافَةِ الْمَادِّيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي تُسْقِطُ كُلَّ الْقِيَمِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْمَعَايِيرِ الصَّحِيَحَةِ.
2- ثَقَافَةُ التَّخَلِّي عَنِ الْمَسْئُولِيَّاتِ تِجَاهَ الْقَضَايَا الْكُبْرَى، تِجَاهَ النَّفْسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(( لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)) وَتِجَاهَ الْأُسْرَةِ وَالْأَهْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) وَتِجَاهَ الْأَقَارِبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)) وَتِجَاهَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ(( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) الْقَوْمُ هُنَا مَعْنَاهُ الْمُجْتَمَعِ. وَتِجَاهَ الْعَالَمِ(( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا))
3- ثَقَافَةُ الْقُعُودِ عَنْ نُصْرَةِ الْحَقِّ
كَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْيَوْمَ، أُصِيبَتْ نُفُوسُهُمْ بِالتَّصَاغُرِ وَالنُّكُوصِ ، فَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ، وَانْهَارَتْ إِرَادَاتُهُمْ. ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا الْمُؤْمِنِينِ(( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ يَتَمَتَّعُ بِالصَّلَابَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، فَهُوَ دَائِمًا يُحَوِّلُ الْهَزِيمَةَ إِلَى نَصْرٍ، وَالسُّقُوطَ إِلَى انْتِفَاضَةٍ. فَهُوَ لَا يَنْهَزِمُ لِأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، وَمَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ لَا يُبَالِي
4- ثَقَافَةُ الْيَأْسِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَ الْإِصْلَاحِ
الْيَأْسُ مَرَضٌ خَطِيرٌ يُصِيبُ النُّفُوسَ الضَّعِيفَةَ الْمُنْهَارَةَ، فَتَدْفَعُهَا إِلَى الرُّكُوعِ أَمَامَ الْمُشْكِلَاتِ وَالشَّدَائِدِ . وَ هَذَا الْمَرَضُ يَرْجِعُ إِلَى شُعُورٍ ذَاتِيٍّ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَا تَتَّسِمُ طَبِيعَةُ النَّفْسِ بِالتَّشَاؤُمِ نَتِيجَةَ تَرَاكُمِ صُوَرٍ مِنَ الْفَشَلِ أَمَامَهُ. وَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ الْجَهْلَ بِعَوَامِلِ التَّأْثِيرِ وَالتَّغْيِيرِ فِي التَّارِيخِ.
6- ثَقَافَةُ عَدَمِ الثِّقَةِ بِاللَهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِالْأَخِ الْمُسْلِمِ . وَأَحْيَا فِينَا ثَقَافَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِيمَانِ بِنُصْرَتِهِ لِلْمُجَاهِدِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي شُؤُونِ الدِّينِ، الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ دِينَهُمْ.
7- ثَقَافَةُ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ أَيِّ إِنْجَازٍ تَسْتَفِيدُ مِنْهُ الْأُمَّةُ. وَأَحْيَا فِينَا ثَقَافَةَ الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ وَالْعَزِيَزَةِ، الَّتِي يَرْفُضُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ الذُّلَّ وَالْهَوَانَ، وَالاِكْتِفَاءَ بِبَعْضِ عَيْشٍ أَوْ طَعَامٍ. ثَقَافَةَ نُصْرَةِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ، وَعَدَمُ التَّخَلِّي عَنْهُمْ. ثَقَافَةُ التَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِ مَلَايِينَ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ ضَحَّى آلَافُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَجْلِهِمْ.
الْحَاجِّ أَحْمَدُ الصَّغِيرُ لُوحْ سَاهَمَ مُسَاهَمَةً كَبِيرَةَ فِي إِحْيَاءِ مَنْظُومَةِ الْقِيَمِ، قِيَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تَجْعَلُ الإِنَسَانَ إِنْسَانًا. فَقَدْ أَحْيَا فِينَا كُلَّ الْقِيَمِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَلَاقَةِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى الْقَادِرِ النَّاصِرِ الْمُعِينِ الْهَادِي الْمُرْشِدِ مِنْ إِيمَانٍ، وَثِقَةٍ، وَتَوَكُّلٍ، وَرَجَاءٍ.
حَقُّ الْحَاجِّ أَحْمَدُ الصَّغِيرْ لُوحْ عَلَيْنَا وَعَلَى الْأُمَّةِ.
حَقُّهُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ، وَنُحِبَّ أَهْلَهُ عَلَى قَاعِدَةِ(( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى))، وَأَنْ نَكْشِفَ لِلْعَالَمِ وَجْهَهُ الطَّاهِرَ النَّقِيَّ الرَّبَّانِيَّ الْقُرْآنِيَّ الْمُنِيرَ مِنْ أَجْلِنَا وَمِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ، لَا مِنْ أَجْلِهِ. حَقُّهُ عَلَيْنَا أَنْ نَكْشِفَ لِلْأُمَّةِ عَطَاءَاتِهِ الْعَظِيمَةَ، وَخَصَائِصَهُ الصَّافِيَةَ مِنْ أَجْلِهَا لَا مِنْ أَجْلِهِ، حَقُّهُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَعْرِفَهُ، وَأَنْ تُجِلَّهُ، وَأَنْ تَسْتَلْهِمَ رُوحَهُ وَدُرُوسَهُ مِنْ أَجْلِهَا لَا مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّهُ فِي رِضْوَانِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَكُلُّ مَا يُقَالُ عَنْهُ مِنْ مَدْحٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَهُوَ مِنَ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الَّتِي لَا تُسَاوِي شَيْئًا فِي حِسَابَاتِ أَهْلِ الْآخِرَةِ الْوَاصِلِينَ.
حَقُّهُ عَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى نَهْجِهِ، أَنْ نَحْيَا عَلَى الْخَطِّ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي رَسَمَهُ، وَأَنْ نُضَحِّيَ فِي هَذَا السَّبِيلِ بِالنَّفْسِ وَالنَّفِيسِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ خَلَّفَ وَرَاءَهُ رِجَالًا.
سَلَامُ اللهِ عَلَى الْحَاجِ أَحْمَدُ الصَّغِيرْ لُوحْ يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ انْتَقَلَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا. وَسَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ.