حبري في السجن مدى الحياة حكم محكمة عادلة أم نتيجة مؤامرة ساخرة.
(*) محمد بشير جوب
شكلت القضايا الإفريقية محور اهتمام دولي كبير، واحتلت التجاوزات القانونية الناجمة من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية حيزا كبيرا من جدول أعمال المسؤولين، ومع تعدد الأسباب التي تؤدي إلى اندلاع هذه الأزمات، فالآثار السالبة التي تخلفها على الشعوب واحدة، ومع إنشاء المحكمة الجنائية الخاصة بروندا، كأول محكمة جنائية خاصة تنشأ على مستوى أفريقيا، كأن ذلك لم تكن خطوة كافية للحد عن الجرائم الدولية المرتكبة في أفريقيا، بل مازالت عاجزة حتى الآن في تحقيق الأهداف الخاصة التي أنشئت من أجلها، بل نلاحظ زيادة وتيرة هذه الجرائم في القارة، كتلك التي حدثت في سيراليون، وليبريا، وتشاد، وساحل العاج، مازلت تحدث حتى الآن في بعض الدول.
والأحداث التي شهدتها تشاد في عهد الرئيس السابق حسين حبري، ليست منفصلة عن جملة الوقائع المأساوية التي تعرضت لها القارة، واقتضت مبادئ العدالة والانصاف، إرساء آليات قانونية، لوضع حد للإفلات من العقوبة في إفريقيا بشكل عام، ولكن التحدي الكبير يتمثل في مدى نجاعة مبادرة إنشاء الغرف الاستثنائية الإفريقية في السنغال، في المساهمة إيجابيا لتحقيق أهداف هذه الخطوة؟
إفريقيا مسرح الأحداث الأليمة:
لايشك اثنان في أن القارة الإفريقية وقعت فريسة لحروب شديدة الفتك والدمار، فعلى مدار 60 عاماً فقط، شهدت القارة حروباً متتالية تنتقل من دولة إلى دولة، فمن العام 1966م حتى أواخر القرن الماضي وقعت أكثر من 60 حرباً، إضافة إلى نزاعات مسلحة داخلية تسببت في وفاة أكثر من نصف جميع الوفيات في الحروب على نطاق العالم[1] ومع هول المشهد، تقف المؤسسات الوطنية والاقليمية والدولية، عاجزة عن إنقاذ القارة من هذه التجاوزات، ومعظم هذه النزاعات داخلية، مما يقلل فرص حلحلتها، يقول الأمين العام للأمم المتحدة سابقا بطرس بطرس غالي” في هذا الشأن: ” بات اليوم علينا أن نسلم بأن معظم المنازعات التي يتعين على الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن تسويتها، ليست نزاعات محتدمة بين الدول؛ بل ناشبة بداخلها، وعلى الأمم المتحدة أن تجابه في كل يوم الحروب الأهلية، وعمليات الانسلاخ والتجزئة، والانقسامات الإثنية، والحروب القبلية[2].
كما يشير بعض الباحثين إلى الارتفاع نسبة الانتكاس إلى العنف في إفريقيا إلى 60% من حالات الصراع، وربما تصل مستويات العنف إلى حد الإبادة الجماعية؛ مثل ما حدث في رووندا في أبريل ومايو 1994م عندما قُتل ما يزيد على نصف مليون نسمة، من التوتسي والهوتو المعتدلين على يد متطرفين الهوتو، وهو ما حدث أيضا في حالات أخرى في دول مثل أنجولا، والصومال، وبورندي، وليبريا، التي أسفر الصراع فيها عن مقتل زهاء 200 ألف نسمة في مدة ما بين 1989 – و1995م.[3]
كان لزاما -والحالة هكذا- على المسؤولين الأفارقة، تكريس جهودهم لإنهاء هذه المأساة، وفي الوقت الذي اشتكى فيه قادة الدول الإفريقية من التدخلات المتكررة على سيادة دولهم، بدعوى التدخل الإنساني، فكان لا بد من أن يتحمل الأفارقة مسؤوليتهم تجاه التجاوزات الخطيرة في القارة، بعد ما استبعدوا التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، بدعوى أنها أصبحت مسيسة من قبل القوى العظمى، توالت جهود الأفارقة لإيجاد حل لهذه الخروقات، كانت آخرها إصدار القانون الوطني النموذجي للاتحاد الإفريقي حول الولاية القضائية العالمية بشأن الجرائم الدولية، كما كان إنشاء الغرف الاستثنائية الإفريقية في السنغال، محاولة تصب في الاتجاه نفسه.
نشأة الغرف الاستثنائية الإفريقية إرادة إفريقية أم إملاءات خارجية.
كان مخاض الغرف الاستثنائية الإفريقية عسيرا لدى السنغال، فلقد مورست عليها ضغوطات دولية وإقليمية لإنشائها، كما أن ضرورة الالتزام بقانونها الوطني لم تترك لها خيارا غير الخضوع لتلك الضغوطات، فلقد وقعت السنغال وصادقت على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لسنة 1984م، ؛ علما بأن الدستور السنغالي يجعل الاتفاقيات المصادق عليها ذات قوة لازمة، ويجب تطبيقها مباشرة[4]، ومن جانب آخر جاءت المادة الخامسة من الاتفاقية تلزم الدول الأطراف بالمحاكمة أو التسليم في مثل هذه الحالات، وفي قرار للجنة مناهضة التعذيب المشرفة على الاتفاقية تم النص على الآتي:
” وفقًا للفقرة (3) من المادة (22) من الاتفاقية، أرسلت اللجنة البلاغ إلى الدولة الطرف، بتاريخ 25 أبريل 2001م، وفي الوقت نفسه اعتمدت اللجنة على الفقرة (9) من المادة (108) من لائحتها الداخلية، وقد طلبت من الدولة الطرف عدم طرد حسين حبري، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع الآخير من الخروج من الحدود السنغالية؛ إلا وفقًا لإجراءات تسليم مع البلد المعني”(5) أضف إلى ذلك حكم محكمة العدل الدولية للفصل بين السنغال وبلجيكا الذي ذهب بوجوب عرض قضية حبري على سلطاتها المختصة؛ لغرض المحاكمة في حال عدم تسليمه.[6]
وأثناء هذه الضغوطات الدولية، كانت لأفريقيا رأي آخر وإرادة قاطعة، تنقض قرار التسليم، تمثلت هذه الإرادة بإصدار الاتحاد الإفريقي قرارا نص فيه: ” إذ نضع في الاعتبار كل السوابق القضائية ذات الصلة بمحكمة العدل الدولية، وتصديق السنغال على اتفاقية مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، نقرر النظر في ملف حسين حبري باعتباره ملف الاتحاد الإفريقي، ونعطي السنغال ولاية ملاحقة ومحاكمة حسين حبري باسم إفريقيا، بواسطة قضاء سنغالي مختص، يضمن محاكمة عادلة، كما نفوض رئيس الاتحاد الإفريقي بالتشاور مع رئيس اللجنة(يقصد لجنة كبار الحقوقيين الأفارقة التي شكلها الاتحاد الإفريقي للنظر في قضية حبري) لمد السنغال الدعم الضروري؛ لاستكمال المحاكمة على نحو سلس وناجح، ونطلب من جميع الدول الأعضاء التعاون مع الحكومة السنغالية بشأن هذه المسألة، ونوجه النداء إلى المجتمع الدولي لدعم الحكومة السنغالية”[7].
ووافقته في هذا القرار محكمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (CEDEAO) إذ أوصت للسنغال بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة حبري مراعاة لمبدأ الأثر الرجعي للقانون.
كان هذا كافيا لشروع السنغال في حزمة تعديلات قانونية، بدأت بالدستور وشملت قانونها الجنائي، وقانون الاجراءات الجنائية، وانتهت بوضع اللمسات الأخيرة لولادة الغرف الاستثنائية الإفريقية.
حكم المحكمة بالإدانة سيادة إفريقية أم تبعية للخارج.
جاء في ديباجة الاتفاقية المبرمة بين السنغال والاتحاد الإفريقي ما نصه: ” الاتحاد الإفريقي ممثلاً باللجنة الإفريقية وحكومة الجمهورية السنغالية قاما بالتفاوض فيما بينهما بهدف إنشاء غرف استثنائية في داخل القضاء السنغالي، لملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية التي وقعت في تشاد من 7 يونيو 1982م، إلى 1 ديسمبر 1990م، تحت مسمى ” الغرف الاستثنائية الإفريقية ” ونصت المادة المادة الأولى من الاتفاقية صراحة على ذلك.
وبتاريخ 8 فبراير 2013م بدأت الغرف الاستثنائية عملها رسمياً بعد إجراءات طويلة ومعقدة، وفي 25 يوليو 2013م، شرعت غرفة التحقيق في التحقيقات، واستمعت خلالها لعدد من الشهود، وبعد 12 شهراً من التحقيق، توصلت الغرفة إلى أنه يوجد أدلة كافية، تقتضي توجيه التهمة إلى حسين حبري وخمسة من معاونيه، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم التعذيب، وفي 13 فبراير 2015م، صدرت مذكرة أمر بإحالة حسين حبري للمحاكمة،[8] وبعد أربعة شهور من المرافعات، صدر حكم الإدانة من المحكمة بتارخ 30 مايو 2016م.
وبما أن قضية حبري منذ اندلاعها كانت مكتنفة بعدة اعتراضات، جاء صدور الحكم بالإدانة والسجن مدى الحياة مفجرا وابلا من الانتقادات تمثله فئتان، فئة متعاطفة تنظر إلى حبري كزعيم أفريقاني، وبطل قومي ضد الاستعمارية الجديدة، نتيجة بعض مواقفه ضد السياسات الغربية، وبذلها الغالي والنفيس ضد محاولات التقسيم والتفرقة ضد تشاد كدولة موحدة، ادعى هؤلاء أن الحكم استهداف للسيادة الأفريقية باستهداف أحد رموزها، من خلال مؤامرة دولية.
أما الفئة الثانية تتخذ الجوانب الموضوعية من المحاكمة محلا للنقد، وهي اعتراضات هزت بالفعل مصداقية المحكمة، وشكك في مدى التزام المحكمة بالقواعد الضرورية لضمان محاكمة عادلة، ومن أهم ما أثاره محاموا الدفاع بخصوص ذلك، قيام النائب العام بممارسة التحقيق بنفسه، في حين أن النظام الأساسي الخاص بالمحكمة، لم يخول له ذلك، وأثاروا أيضا رفض غرفة التحقيق تقديم بعض ملفات ضرورية للدفاع، أدى ذلك إلى مقاطعة محاميي الدفاع حضور الجلسات، إلى أن اضطرت المحكمة اعتماد محامين آخرين للدفاع، رغم رفض حبري.
وعلى كل فالغرف الاستثنائية الإفريقية كانت محاولة لإيجاد توازن بين رافضي التدخل الأجنبي في الشؤون الإفريقية، ومانعي الإفلات من العقوبة في القارة.
وفي أقل تقدير فقد فرضت هذه الغرف إرادة المسؤولين الأفارقة في استقلال القارة الإفريقية في إدارة شؤونها بنفسها، مستغنياً في ذلك عن تدويل قضاياها، والاعتماد الكلي بالخارج.
الهوامش
[1] محمد بشيرجوب، المحاكم الجنائية الدولية في محاكمة المسؤولين في أفريقيا –حسين حبري نموذجا- بحث ماجستير.
[2] لعمامرة لييندة، دور مجلس الأمن في تنفيذ قواعد القانون الدولي الإنساني، جامعة مولود معمري كلية الحقوق.
[3] أيمن السيد شبانة، الصراعات الإثنية في إفريقيا الخصائص، التداعيات، سبل المواجهة، انظر في الرابط http//africanscomplex.com.
[4] أنظر الدستور السنغالي لسنة 2001م، المادة (98).
[5] Comite contre le tortur 36 em session original francaise 19 mai 2006, http//www.hrw.org/legacy/pub/2006/french/pdf.
[6] موجز الأحكام والفتاوى والأوامر، الصادرة من محكمة العدل الدولية، المسائل المتصلة بالالتزام بالمحاكمة أو التسليم، (بلجيكا ضد السنغال)، حكم صادر في يوليو 2012م.
http/www.un.org/fcjsummuries/document.
[7] Décision sur l procès hisseine Habré l union africaine (doc.assembly/au/3
[8] محمد بشيرجوب، المحاكم الجنائية الدولية في محاكمة المسؤولين في أفريقيا –حسين حبري نموذجا- بحث ماجستير.