تأملات في حديث اللبنة المُجَمِّلة!
بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في حديث اللبنة المُجَمِّلة!
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل ابتنى بنيانا فأحسنه وأكْمله، إلا موضعَ لبنة، من زاوية من زواياه، فجعل الناس يُطيفون به ويُعجبون منه، ويقولون: ما رأينا بُنيانا أحسن من هذا، إلا موضع هذه اللّبنة، فكنت أنا تلك اللّبنةَ»، رواه مسلم في الصحيح.
وجاء في رواية أخرى: «هلاَّ، وضعت هذه اللّبنة؟ قال (صلى الله عليه وسلم): «فأنا اللّبنة، فأنا خاتم النبيين»!
هذا الحديث عظيم في بابه، وما أدرت فيه النظر، مع كثرة ما أراجعه، بقدر ما أستشهد به، إلا وتجلت لي فيه معاني مستحدثة، أو تجدد لي فيه فهم، وقد نفعنى الله به كثيرا، وخاصة فيما يتعلق بالإشكاليات العويصة التي يكابدها الدعاة، حول تأسيس منهجية الإصلاح والتجديد.
لذا وقر، في روعي، بأن هذا الحديث الرائع في بنائه، والعظيم في مراميه، يعطي للدارس الواعي الحريص، للسنة النبوية الشريفة، فرصة ثمينة لتعدد مجالات التفكر والتوظيف، لتلك المعاني العاليات التي يحتويها هذا الحديث النبوي الشريف، بما يفتح له من آفاق النظر.
مما يعيننا، معاشر العاملين في ميادين الإصلاح، على استكناه بعض ما في هذا النص الجميل المكتنز، المتقن حبكه، أن ننظر فيه، ومقصدنا توظيفه، ضمن مشروع إصلاحي متكامل، نبحث له عن مرتكزات صلبة، ومقاسات دقيقة لتحديد زواياه ورسم مساراته، ننتقل به إلى حيز الفعل، لأن طبيعة هذا النص، وما يومئ إليه من معاني سامية سديدة، تأبى أن يتناوله الكسالى أو يحدّث به الحالمون، ثم يحرك السامعون رؤوسهم، طربًا أو إعجابًا وانبهارًا، دون أن يعقب ذلك انفعال من النوع الإيجابي المحمود، وإنما يخلدون إلى الدعة، ولا يحركون ساكنا، ولا يسكّنون متحركا خاطئا.
في هذا السياق، نحاول تلمس بعض ما في هذا الحديث من معالم الهداية، ونفعل ذلك، ونحن نتحرك في واقع قلق، برز فيه النزوع إلى اختزال المعاني الكبرى، أو محاولة البناء على غير أسس سليمة، وربما حاول بعضنا فعل ذلك، بدون أسس أصلا، وذلك نتيجة ادعاء القدرة على استئناف المسيرة في كل شيء، ناسين بذلك، أن من سنن الله في خلقه، مبدأ التراكم الإيجابي، الذي ينهض به البناء وتستمر المسيرة الإنسانية نحو تحقيق الغايات العليا، التي وضعت لنا في هذا الوجود الأرضي.
من مواطن الزلل كذلك، في التعامل مع هذا الصنف من النصوص، عدم القدرة على النظر بإيجابية إلى ما سبق من الإنجازات، ليتم البناء عليه، فيرتفع الصرح عاليا وبأقل قدر من الكلفة.
من هذه الزاوية، نتوقف هنيهة لنلقي النظر في حديث ”اللّبِنَة”، علّنا نهتدي، في ضوء نبراسه، إلى معان جديدة نرفُد به جهدنا الجماعي، من أجل إعادة بناء أدبياتنا، فيما يتعلق بالطريقة الحسنة، للتعاطي مع أهم مطالب المشروع الإحيائي، الذي نحمله رسالة مفتوحة للعاملين، وذلك من خلال الوقفات الآتية:
الجانب الجمالي:
الجمال، في هذا الدين الجميل، ليس، ولا يمكن أن يكون، من الكماليات، أو عنصر إضافي نستطيع الاستغناء عنه، إنه مطلب منهجي مطرد، نجد لوحات الجمال مبثوثة في نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية، حين نفحص بعناية نجد الإسلام يحتفي بالجمال ويجعله غاية ووسيلة، لكن ثقافة ضحلة رانت على واقع الأمة، فولدت مفاهيم موغلة في السماجة، حين جرى قلب الحرم فصدق الناس بأن الإسلام قرين العبوس واليبوس، وقد تناولت هذه الإشكالية في مقال حمل عنوان: لماذا نهمل عرض لوحات الخير والجمال؟”.
بدأ النبي (صلى الله عليه وسلم)، بوضع هذه الصورة الناطقة التي تجسد هذه السلسلة الذهبية من أفضل من برأ الله، ويشخص لنا تلك الصورة الفريدة بحيث نرى الأنبياء الكرام، وهم يتعاقبون على تشييد هذا المشروع الضخم، مشروع الحضارة الإنسانية الباذخة؛ يأتي نبي من بعيد، وهو يحمل طوبه المصقول، فيضعه في مكانه المحدد ثم يمضي، في طريقه، تمتد سلسلة البناة، كلما وضعت لبنة ارتفع الجدار، فجأة تتوقف عملية البناء (فترة انقطاع النبوة التي طالت زهاء ستمائة عام مع التحفّظ على الرقم).
من جوانب الجمال كذلك، في هذا النص النبوي العجيب، اللجوء إلى التشبيه المشخص باستعمال عبارات بسيطة للتعبير عن معاني كبيرة، بين هذا العمل الإصلاحي الممتدّ المتواصل، الذي نهض به المصلحون من الأنبياء والرسل، وبين ما يقوم به البناة المهرة، الذين يعدون العدة، ويتقون قياس المسافات، ويهيئون الأرض ليقوم البنيان المنشود إعلاؤه، على ركائز صلدة.
من المشاهد الرائعة، في هذا النص، تلك اللمحة المتمثلة في جموع الناس الذين يتوافدون على ذلك المكان لمشاهدة هذا الصرح الجميل، فيجعلنا النص ندور معهم ونتملّى الجمال ونمضي مبهورين بإتقان البنيان ونشيد بمن بنى وجمّل: ”ما رأينا بنيانا أحسن من هذا”!
وفي نهاية الشوط، نكتشف ذلك الفراغ، المتروك لأمهر البنائين وأتقنها صنعا، ثم نتوقف: ”إلا موضع هذه اللبنة‘’.
وهنا ينطلق الصوت المتسائل: ”هلاَّ، وضعت هذه اللبنة؟‘’.
البعد المنهجي – الرسالي:
في البدء، نلاحظ بأن النبي (صلى الله عليه وسلم)، استعمل، على ما اطردت به سنته، في صوغ المعانى وضبط المفاهيم المحورية، عبارة رقيقة متدفقة المعني، حين نبّهنا، على الوشيجة الوثقى، التي تربطه بمن سبقه من أنبياء الله ورسله (صلى الله عليه وسلم)، وهو معنى قرآني أصيل، كما ورد في العديد من سور القرآن الكريم: البقرة وآل عمران والأنبياء، كما يكرس النبي -صلى الله عليه وسلم) في قوله: «الأنبياء إخوة لعِلاّت، دينهم واحد، وأمهاتهم شتى»، أخرجه البخاري.
يجب أن نداوم على استشعار هذا المعنى بعمق، نحن معشر من يدعون الانتماء إلى مدرسة الإصلاح، الذين يتوقون إلى إعادة الأمة الإسلامية، إلى مسارها الحضاري، بعد تلك الزلة الحضارية الخطيرة، ونعتبر كل من سبقنا، في هذا الدرب اللاحب، بأنه ممن مهّد لنا الطريق، ونصب المعالم الهاديات، التي تعصمنا من التيه، في تيك المفازات الفكرية المهلكة، ولو لا ما بذلوه من الجهد، ما كنا خطونا خطوة واحدة، في هذا الطريق الذي نرجو الله أن يوصلنا به إلى الجنة.
منهجية البناء:
حين نتأمل في هذا النص سنجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قد رسم، لكل من استجاب لدعوته، الطريقة المثلى، التي يجب أن يسلكوها، حين نبههم على:
أولا، لا بد من الأيمان بأن عملية البناء، تقوم على قاعدة التسلسل المتكامل، بحيث تأخذ كل لبنة مكانها الصحيح في الجدار.
ثانيا، البناء الحضاري من الضخامة والخطورة بحيث لا يتم على يد بناء واحد ولا على أيدي جيل من البنائين، وإنما تتقاسم الأجيال المتلاحقة، عبء إيصال رسالة الله إلى عباده.
ثالثا، متطلبات إتقان البناء، أن ننظر إلى ما سبق من البناء نظرة إيجابية وأن لا يهمنا من بنا وإنما علينا أن نركز على المبنى، فلا يكون همنا الإصرار على كشف عورة بدلا من الابتهال إلى الله، فنقول: اللهم سَلِّم، اللهم سَلِّم!
رابعا، أن نعتني كل الاعتناء لمعرفة المكان الصحيح لتلك اللبنة التي علينا أن نضعها .
خامسا، بعد معرفة المكان الصحيح للبنة الناقصة أو المكملة يأتي واجب التدقيق في طبيعة لبنتنا حيث الحجم وصلابة معدن ودقة المقاسات ثم نضعها ونحن موقنون بأنها المناسبة.
اللبنة الأنموذج:
فلننظر في قول المصطفي (صلى الله عليه وسلم): «فأنا اللبنة»، إذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم)، بجلالة قدره، وسمو مقامه عند الله، وثبوت إمامته للأنبياء والرسل قاطبة، قد اعتبر نفسه لبنة، في ذلك الجدار العظيم، الذي ظلت البشرية تحتم به، كلما طارتها أبالسة الإنس والجنس، فمن يجسر منا على أن يتجاوز مقامه ويسيء الأدب ويحاول ألا يكون، في أحسن الأحوال، مجرد لبنة، بل يدعى زورا بأنه الجدار كله؟!
إن أعلى مقام يمكن أن يتطلع إلى أحدنا، إذا أكرمه الله وسلكه في زمرة المصلحين المعلمين الناس الخير، أن يكون لبنة من تلك اللبنات المكمّلة المجمّلة، التي بها يتكمل بناء الصرح الحضاري العظيم، صرح عماده الحق ولحاه الجمال ومحتواه الخير المطلق.
واضع اللبنة:
لماذا لا يعتبر كل منا نفسه أنه اللبنة التي ينتظرها الجميع والتي يكمل بها البناء ويجمل؟
إنها الإيجابية بأجلى صورها؛ ما موقف معظمنا حين يلاحظون خللا؟
على هذا السؤال تجيبنا قصة الملك الذي تعمد وضع صخرة على الطريقة ليراقب سلوك الناس أمام المشاكل التي تعرض للمجتمعات البشرية:
السلبي الأناني الذي هز رأسه فبحث عن أسهل حل يتخلص به من الوضع ثم ترك المشكلة متفاقمة.
السلبي الثاني، هو الكسول الذي لا يملك خيارا إلا أن ينقلب على عقبيه وهو يصب ويلعن من وضع الصخرة في مدرجه، دون أن يكلف نفسه، حتى مجرد البحث عن السبب الكامن، وراء ما اعترض الناس من معوقات.
أما المسارع إلى النجدة، الحامل للطوب المجمل، السائر على خطى الكليم عليه السلام، الذي ورد ماء مدين ثم أنجد المرأتين الذادّتين قبل أن يأوي ظل شجرة حيث مد كفين ضارعتين يستدر رحمة الله.
أما إمام الأنبياء، فقد أزاح الصخرة وأجاب على سؤال الطائفين، حين هتف عليهم قائلا: أنا اللبنة!
ألم ينعته القرآن بقوله: «شاهدا ومبشرا ونذيرا»؟
الخلاصة:
لدينا في هذا النص النبوي الرائع، مفردات تتطلب منا أن نتأمل فيها كُلا على حدة، ثم نديم النظر فيها، بعد ذلك، حين تكون قد انتظمت في سلك واحد، فلنتأمل في هذه المفردات ” رجل”، هنا استدعاء معنى الرجولة والنهوض بقسط من المسؤولية بعد استيفاء شروط الرجولة البانية؛
“بنى”، من الحركية والانهماك في مشروع محدد، بعيدا عن المنى والأحلام وهو معنى يؤكده لنا القرآن الكريم في إبراهيم وهو يرفع القواعد لبناء البيت الحرام.
” بيتا”، إنه تعبير دقيق وكناية لطيفة عن الصرح الحضاري الذي يجب على صلحاء الأمة أن يشيدوه لتستظل به البشرية،
“فأحسنه وأجمله” إذا على مصلحي الأمة أن يبتنوا هذا البيت وأن يوفروا له كل مواصفات السلامة والجمال والهناء؛ وذلك على طريقة الأنبياء والرسل الذين جاء إمامهم ليضع اللبنة الأخيرة فيكمل بذلك البناء الحسن.
“اللبنة” تمثل هذه اللبنة مدار الحديث ونقطة ارتكازه، لا يمكننا أن نتصور طريقة أفضل وأقوى لرسم مفهوم التكامل وتوضيح مراميه أعلى من صيغة اللبنة الناقصة بل المكملة.
هات لبنتك وضَعْها هنا ليكمُل الصرح!
الدكتور محمد سعيد باه
#كوالالمبور #Kuala_Lumpur #مقالات #Kuala_Lumpur_Forum