(*) محمد مصطفى جالو
قبل بضعة أعوام جاء إلى صاحبي لفيفٌ من الشباب وبيدِهم شريط مسجل باللغة العربية، يريدون أن يترجم لهم هذا الشريط إلى اللهجة الولوفية.
أخذ أحدهم كلمة فقال:
يا أخي الكريم، في هذا الشريط مكالمة هاتفية جرت بين أحد الأخوة وبين الشيخ الفلاني الشهير ـ فذكره ـ باسمه.
وبحكم أننا لا نفهم اللغة العربية اختلفنا في مراد كلام هذا الشيخ الشهير حول أحد الدعاة في بلدنا هذا.
قال صاحبي: لأول مرة أسمع اسم هذا الشيخ الذي ذكرتَ أنه شهير.
قال مستغربا: أما تعرف هذا الشيخ الذي ذاع صيته في الآفاق، واشتهر بالدفاع عن السنة؟ ألم يبلغك أن هذا الشيخ حامل لواء كذا وكذا بشهادة بعض علماء العصر؟.
قال صاحبي: ما الداعي إلى هذا الاستغراب المشوب بالتبجيل المفرط للشيخ؟ وهل عدم معرفتي له يقدح في ديني، أو ينقص إيماني، أو يُخرجني من دائرة الانتساب إلى طلب العلم الشرعي؟
قال: لا وكلا، لكن أمثالك في الحرص على طلب العلم والدعوة إلى الله لا ينبغي له أن يجهل أمر هذا الشيخ، والاهتمام بمؤلفاته وقراءته، والسماع إلى أشرطته.
قال صاحبي: شكرا لك على حسن ظنك بأخيك وإرادتك الخير له، لكن لو سمحت لي فلندخل الآن في الموضوع الذي أتيتم لأجله.
أعطني الشريط الذي شغل بالكم ودفعكم للإتيان عندي حتى أترجمه لكم، أعطني إياه لنستمع إليه ونعيَ ما فيه لنعرف مَن منكم على صواب أو على خطأ.
ولما أعطى الشريط لصاحبي واستمع إليه بهدوء تام وتركيز كامل، وجد أن الحديث كان يدور بين شخصين: بين سائل ومجيب، ومما لا حظه صاحبي في كلام السائل ركاكة عبارة السائل، وضعفه في اللغة العربية، ومع ذلك فإن الشيخ المفتي كان يفهم في الجملة قصده وما يريد أن يستفتيه.
ومما لفت نظر صاحبي وأخذ انتباهه أن بعض أسئلة الرجل كان منصباً حول رجل من رجال الدعوة في البلد، رجل لا يُنكِر جهودَه وبصماتِه في تبصير الناس أمر دينهم، والعودة بهم إلى الكتاب والسنة إلا حاسدٌ يحمل الحقد الدفين عليه.
قال صاحبي: لما انتهيت من سماع الشريط بينتُ لهم أن الشيخ كان مصرّا على ثناء هذا الداعية الذي اختلفوا في أمره على فريقين، وأن آخر عهده به كان على الخير والصلاح، وأنه كان مجتهدا أثناء طلبه للعلم، هكذا قال الشيخ للسائل.
والغريب من أمر السائل أنه كان يحاول جاهداً في إساءة سمعة ذلك الداعية والافتراء عليه، ليجد جوابا مناسبا لهواه يتخذه تكأة للتحذير منه، وتصنيفه حسب ما يزينه له شيطانه.
بعد ما بين لهم صاحبي مضمونَ هذا الشريط باللهجة الولوفية طلب منهم أن يختموا المجلس قبل انفضاضه بأمور أتذكر منها ما يلي:
قال لهم يا جماعة الخير:
ــ علينا أن نهتم بتعلم الفرائض التي حتّمها الله علينا، وأن نركز على فقه الحلال والحرام الذي به يطيب مأكلنا ومشربنا، وهذا ـ بإذن الله ـ سيجعلنا في عداد أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفي زمرة من يستجاب لهم الدعوات، وإذا كنا كذلك واجتهدنا في أداء النوافل سوف نرتقي بذلك إلى مرتبة ألئك الذين لا يسمعون بآذانهم، ولا يبصرون بأعينهم، ولا يبطشون أيديهم، ولا يمشون بأرجلهم إلا فيما يرضي الله عز وجل.
أما إضاعة أوقاتنا الغالية في البحث عن مساوئ المجتهدين في الدعوة، أو العلماء الربانيين، فإن ذلك لا تفيد الدعوة شيئا، بل يضر بها، فلو كان حال كل من اكتُشف في سيرته عيبٌ يُترك في حينه لما بقي للدعوة رجل؛ لأن الناس بشر يخطئون ويذنبون، وخيرهم التوابون منهم.
ــ يجب علينا ــ أيها الشباب ـ الحذر من الردود السائدة في هذا الزمان المسموعة منها والمقروءة إذ لا فائدة في كثير منها، اللهم إلا زرع الحقد والحسد في قلوب المنشغلين بها ضد إخوانهم المسلمين، خصوصا العلماء منهم والدعاة، وفي هذا إيذان للحرب بين العبد وبين ربه؛ إذ قد يكون بهذا التصرف عادى وليا من أولياء الله.
ـ إن الانشغال بهذه الردود المبنية على الهوى والبعيدة عن العلم والإنصاف يورث في القلب الحقدُ على الصالحين، والدعاة المصلحين، والعلماء الربانين، ويعوّد الشخص على فحش الكلام، وبذاءة اللسان، والفظاظة في التعامل، كما يحرمه من العلم النافع المؤصل.
وكفى بالقلب خرابا أن يكون قد استحكمت فيه صفة من هذه الصفات السابقة الذكر، فكيف إذا اجتمعت فيه هذه الخصال الذميمة.
ــ لا ينبغي بتاتا أن نصوّب سهام التهم والافتراء نحو الدعاة الذين لهم مكانة وكلمة مسموعة في المجتمع لما في ذلك من الفساد العريض الذي لا يعلم مداه إلا الله.
ــ أيها الشباب لا بد أن نعرف أن هنالك مسائلَ لها تعلق بالبيئات والظروف لا يمكن لكل أحد أن يفتي فيها وإن كان عالما راسخا؛ لما يشوبها من الأحوال والمشاكل التي لا يفقهها إلا العالم الذي يعيشها، فمن الخطأ الفاحش والجهل المركب أن نقوم بعرض هذه المسائل البيئية على علماء بلاد أخرى لا يعرفون حقيقة ما يحيطها من ظروف.
ــ إن العلماء الربانيين والدعاة المصلحين ورثة الأنبياء عليهم السلام، من آذاهم بقول أو فعل، أو افترى عليهم، أو سعى في تنفيرهم من الناس، فليعلم أن فيه خصلةً من خصال الكفرة الذين كانوا يؤذن الرسل عليهم الصلاة والسلام.
لما انتهى صاحبي من هذه النصيحة النفيسة التي تنير لشباب الصحوة الطريقة المثلى في التعامل مع الدعاة والمسائل العلمية التي يريدون معرفة حكمها انفض المجلس.
لكنَّ صاحبي فوجئ بعد ذلك المجلس أن بعض ألئك الشباب الذين كانوا يسعون إلى تشويه سمعة ذلك العالم، فوجئ أنهم أدرجوه في قائمة المصنفين والمهجورين، حيث أصبحوا لا يحضرون الدرس الذي كان يلقيه في كل أسبوع، بل استعملوا معه سياسة: ( لا سلام ولا كلام) التي كانوا يستعملونها ضد كل من خالفهم في رأيهم، أو نصحهم.
وأخيرا قال لي صاحبي: لا أشك في حب هؤلاء الشباب للسنة والغيرة لها، لكن عدم فقههم وعدم استماعهم إلى علماءنا والالتفاف حولهم، إضافة إلى ذلك استحكام أمراض القلب التي تصد عن رؤية الحق كالغرور والعجب بالنفس، وتزيين الشيطان لهم سوء أعملهم هو الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه، فهم بحاجة إلى دعوات خالصة ليؤوبوا إلى سواء الصراط.
وما أحوج هؤلاء الشباب إلى قراءة كتاب الإمام ابن الجوزي المسمى: تلبيس إبليس، ولعل في هذا الكتاب ما يعالج هذه الأمراض القلبية الفتاكة.
أسأل الله لي ولهم الهداية وحسن الخاتمة.
ما شاء الله، مهمّ جداً..