بين المصالح والمبادئ!

الكاتب/ عبد الرحمن باه

بين المصالح والمبادئ!

تلقيت اتصالها الذي أصبح لدي مألوفا؛ فأواصر القرابة مهدت السبيل لتكرار التواصل بيننا، والذي يتناول أكثر من موضوع، وإن كان طابعه العام الاطمئنان على الحال.

لكن الاتصال الأخير كان متميزا عن سابقاتها؛ فلم تطل مقدماته؛ لأنه سبقه آخر يغني عن المقدمات وكان قد ختم بعبارة: أحتاجك لأمر ما! تلك الجملة التي تبعث  الفضول في النفس، وتجعلها تتلهف لمعرفة المكنون في أحشاء الكلمات الثلاث، وكأنها بطن يحوي ثلاثة أجنة لا يدرى من تفاصيلها إلا العدد…مهما يكن فقد أزاح الهاتف عن ستار قرار أخذته الأخت هدى،  بإنهاء عقد عمل كان يربطها بجهة حكومية، لسبب عدم موافقتها لقناعات الأخت الدينية، فكان حديثها مفاجئا لي نوعا ما؛ فهي حديثة عهد بالعمل وما أكثر من يبحث عنه ثم لا ينجح في الحصول عليه، فيقارنه وسم “عاطل عن العمل” ثم إن ظروف معيشتها ليست مواتية، فرغم أنها متزوجة، إلا أن سيدها مقتّر عليه يأتيه الرزق على مهل، وكأنه يعصر له من ضرع غير دارّ، أضف إلى ذلك أنها خريجة من المدرسة الفرنسية، والتي من أخص أوصافها التعليم من أجل التوظيف، فكانت العناصر المذكورة يكفي أي واحد منها أن يحول حتى دون مجرد التفكير في الانسحاب من تلك الفرصة التي ليست مضمونة التكرار[فما أعزّ التكرار في عالم الفرص].. حاولت ثني أختي الحبيبة عن قرارها الشجاع بلطف، قائلا: لا عليك ألا تعجلي، فقد تتغير الأمور من حيث لم تحتسبي، ثم إنه قد لا يعوزنا الحصول على حل، فآخر الدواء الاستقالة! لكن ردها لم يتأخر ونزل علي كالصاعقة: وتضمن لي البقاء إلى أجل حتى أصّدق وأكن من الصالحين؟! فقلت: لا عزيزتي، كل ما في الأمر، أنني أريد مدة تسمح لنا بالتفكير مليّا حتى لا يكون هناك خطأ جرّه علينا الاستعجال، وتذكرت وأنا أحاورها في الموضوع امرأة في عقدها السادس، سبق وأن حكت لي تجربة لها مماثلة، فوجدت فيها مثلا حيا للمساعدة في المسألة النازلة، فقدمت لأختي رقمها، فكان تباحثهما مثمرا، حيث ساعد في لملمة أطراف الموضوع، وخرج بتوجيهات أعانت على خروج آمن بعد إقامة الحجة على رؤسائها الذين لم يجدوا بدّا من احترام قرارها متأسفين بأنهم لا تتوفر لديهم قسم يناسب كفاءتها ولا يخدش بمبادئها.. وقد سجلت الأخت بالنسبة لي مفخرة، حيث ضحت بمصلحة آنية في مقابل مبدأ تؤمن به، فشجعتها على الحسّ الديني، وعلى الإيمان بالمبدأ، داعيا الله تعالى لها التثبيت والتأييد، ومبشرا لها بعوض خير. ومرت أيام ألهتني عن التفكير في مستقبل الأخت، فإذا باتصال من أحد الإخوة الدعاة إمام لأحد المساجد في المنطقة، ففاتحني في موضوع هدى مخطّئا لها بكل صراحة، وناعيا عليها الجهل بالدين الذي سببه – بزعمه – تلقي تعاليم الحنيفية عن طريق الترجمة، ولمّا كان صاحبنا يحظى لدي باحترام (فهو أكبر مني سنا، وأقدم سلما)، اكتفيت في الجواب معه: بأنني لا أقدر على توجيه لوم لمن اتخذ قراره بناء على قناعة دينية!

لكن لم ينقض عجبي وأنا أتأمل حجج الأخ في تخطئة الأخت بل شُبَهه المغلّفة في رداء العلم وتحت عباءة دعوى فهم الواقع؛ إذ اعتمد في فتواه الذي لم يلق قبولا – والحمد لله – على:

  • أن هذا هو الخط الذي يمشي عليه النظام في الجمهورية، فلا وِزر على الموظف المسكين الذي يتلقى تعليمات رؤسائه، من أن يمارس بعض المخالفات مراعاة لمصلحته.
  • كم من المحجبات الائي يمارسن ما ترفضه هذه الأخت المتنطعة، وهي التي لا تبلغ مدّ واحدة منهن ولا نصيفها!
  • إن الظروف التي تعيشها المستقيلة لا تناسب قرارها، فكان حريا بها التأخير إلى أن تجد البديل، أما أن تنسحب صفر اليدين فغباء لا أقل ولا أكثر.

تلكم هي “الأدلة الدامغة” التي سردها سيدنا الإمام للتنديد بقرار الأخت النابع عن معين القيم والمبادئ، لا عن سراب المصلحة ووهم المنفعة. وذكر “أدلة” إمامنا المذكور يغني عن الرد عليها، لكن الطامة: أن الساحة تضج بمن على منوال صاحبنا، ممن أعمت المادة عينيه، فلا يرى غيرها، وكأنها معيار الخير الذي يهنّأ من حازه ويغبط، وفقدها علامة الخسران، فيحزن الحبيب ويسر العدوّ. بهذه النظرة العوراء ركب بعضهم الصعب والذلول لهثا وراء المادة، وكدّا لتحصيلها بأي ثمن، ولو على حساب العقيدة والمبدأ والقيم، وبذلك تحوّل قامات إلى أبواق تسبح بحمد الموسرين وذوي السلطان، متنكرة لكل ما كانت تعرفه من المبادئ والقيم.

واستمرأ آخرون تسوّر حمى المحظورات، من زاوية أخرى: فارتكبوا الحرام سعيا وراء الحطام، وضربوا عرض الحائط الأدلة المحكمة، وخاضوا وحل التأويل الباطل لملأ الجيب أو إشباع البطن، فجمعوا بفعلتهم النكراء بين فعل المحظور وكسر هيبته لدى العوام، فكانت النتيجة ما نراه من طغيان المادية على جميع مظاهر الحياة، مقابل اضمحلال المبادئ والقيم.

ولقد كان الخطب يهون لو لم تكن النخبة التي تعزى إلى الدين مصابة بالداء فأصبحت بدلا من أن تعدّل الصفوف وتقوّم المسار هي التي تتزعم – إلا من رحم ربي – الركون إلى المادية، فتتفوه بملء الأفواه بالخطب الجوفاء، أن ازهدوا وأخلصوا واتقوا الله …بينما تمارس بسلوكياتها جرائم نهب الخاصة والعامة بشتى الحيل، وبضروب من الوسائل. والله المستعان على كل حال، وعليه وحده التكلان.

ولا يفهمن قارئ من هذه السطور بأنها دعوة إلى تحريم الطيبات، أو التخلي عن الواجب في إعمار الكون بجهاد العمل ومقاومة أقدار الضراء بأقدار الجهد البناء. كلّا بل إنها محاولة لرصد ظاهرة مرضية عنوانها: حب الدنيا وما تستلزمه من إيثار المادية والإخلال بالقيم والمبادئ، ولا تغفل عن اقتراح حلول لعلها تذكّر الغافل، وتشدّ من أزر العازم. فإن وفقت في ذلك فحبذا، وإلا فأستغفر ربي ولا يخيب من إليه قد لجأ!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.