بيان الحال في شد الرحال:
(*) محمد مصطفى جالو
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من المسائل التي احتدم فيها الجدال بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين معاصريه؛ ما أدى إلى تأليف ردود علمية بين الطرفين، وسبَّب انقسام الناس ما بين مؤيد للإمام تقي الدين ابن تيمية، وبين ذاهب إلى أنه مخالف لإجماع الأمة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل المعروفة عند الباحثين.
ولم يزل الناس منذ ذلك الزمان منقسمين حيال هذه المسألة ما بين ناصر لشيخ الإسلام فيها، وبين متيقن بأن الإمام ابن تيمية جانب الصواب في هذه المسألة، بل خالف إجماع الأمة في مشروعية شد الرحال لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد يكون في الفريقين من يسلك مسلك التعصب له أو ضده، الأمر الذي يجعل الباحث ـ إن لم يتريث ـ يتخذ الموقف القريب من اليقين تأييدا أو مخالفة دون تحقيق.
وقد رأيت أن أتناول هذه المسألة بالمعالجة محاولا أثناءها الالتزام بالإنصاف والعدل، وراجيا من الابتعاد عن كل ما ينقص قدرهم؛ لأنهم كانوا مجتهدين في المسألة قاصدين إصابة الحق فيها، ويكفيهم أنهم يترددون ما بين مصيب له أجران، وما بين مخطئ له أجر الاجتهاد.
وأنا على يقين بأن موقف القارئين لهذا البحيث لا يشذ عن موقف الناس حول ما كُتب في المسألة منذ اشتعال نار الجدال فيها من مؤيد له ذاهب إلى أنه لا بأس به، ومن مخالف له قائل بأن فيه كلَّ شيء إلا الإنصاف والموضوعية والتحقيق، ومع ذلك فإني أقول للذي يراه جيدا، أن لا يمنعه ذلك من إبراز مواطن الخلل فيه، كما أقول للذي يرى عكسه: إني لم أقصد ـ وأنا أكتبه ـ إلا المعروف، وحسبي أني أروم وراءه الخير، وحتى يلتمس لي العذر فليتذكر هذا البيت الشعري:
لأشكرنك معروفا هممت به إنَّ اهتمامك بالمعروف معروف.
ويتمحور البحيث في النقاط التالية:
النقطة الأولى: حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون شد الرحال:
النقطة الثانية: تحرير محل النزاع في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف.
النقطة الثالثة: الأدلة التي يستدل بها كلا الطرفين في المسألة.
النقطة الرابعة: أسباب الخلاف في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف.
النقطة الخامسة: العوامل التي ساهمت في حدة الجدال في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف مع أنها مسألة فرعية.
فأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقني للسداد، ويرزقني تناول الموضوع كما ينبغي، وأن يجعله خالصا لوجه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
النقطة الأولى: حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون شد الرحال:
أجمعوا على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون شد الرحال، واختلفوا في درجة هذه المشروعية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب جمهور الأئمة إلى استحباب زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام(1).
القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أن زيارة قبره عليه الصلاة والسلام سنة مؤكدة قريبة من الواجبات(2).
القول الثالث: ذهب بعض الظاهرية إلى أن زيارة قبره عليه الصلاة والسلام واجبة(3).
الأدلة:
وجدتُ لهذه الأقوال بضعة أدلة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، سأكتفي بذكر بعضها الدالة مباشرة على الحكم من السنة، وكذلك بعض الأدلة العامة التي رغبت في زيارة القبور عموما، حيث تدخل فيها زيارة قبره عليه الصلاة والسلام من باب أولى.
من الأدلة الدالة مباشرة على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
ــ ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي ).
وقد ذهب أكثر علماء الحديث إلى تضعيف هذا الحديث، منهم الحافظان الذهبي، وابن حجر رحمهما الله، لكن ابن حجر بعد تضعيفه لطرق الحديث ذكر أن ابن السكن صححه لأنه أورده في أثناء السنن الصحاح، وكذلك عبد الحق الإشبيلي حيث إنه ذكره في الأحكام الوسطى وسكت عنه، كما ذكر أن التقي السبكي صححه بمجموع طرقه(4).
ــ ما رواه الدارقطني أيضا عن ابن عمر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني ).
وهذا الحديث لا يكاد يختلف في الحكم عن السابق، حيث مال أكثر أهل الحديث إلى ضعفه، بل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات(5).
من الأدلة الدالة عموما على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: … (فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).
وجه الدلالة: أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في هذا العموم، بل قبره عليه الصلاة والسلام أولى ما يمتثل به هذا الأمر النبوي(6).
تنبيهان مهمان:
التنبيه الأول: إن الأقوال التي سبق سردها في بيان حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم يستدل أصحابها بهذه الأدلة، فالجمهور يحملونها على الاستحباب والظاهرية يحملونها على الوجوب(7).
التنبيه الثاني: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يخالف في سنية زيارة القبر الشريف في هذه الحالة، وفي حالة إذا شد المسلم رحله لقصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ويزور القبر في تلك السفرة، بل يَعتبر هذه الزيارة في هاتين الحالتين من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله؛ لأنه إذا كانت زيارة قبور المؤمنين عموما مشروعة فقبور الأنبياء والصالحين أولى(8).
وقد بالغ بعض من خالف ابن تيمية في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف فنسب إليه ما لم يقل، ولا خطر في باله أبدا، ولعل هذا هو ما دفع الإمام أبو الفداء ابن كثير رحمه الله إلى هذا النقل الآتي عنه قال رحمه الله:
(… والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذا الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول ( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة) والله سبحانه لا يخفى عليه شئ، ولا يخفى عليه خافية، ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )(9).
النقطة الثانية: تحرير محل النزاع في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف:
سبق في النقطة السابقة أن العلماء لم يختلفوا في مشروعية زيارة القبر الشريف إذا لم يكن فيها شد رحال، وسأتناول في هذه المسألة حكم شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف.
ــ أجمعوا على مشروعية شد الرحال إلى المسجد النبوي للزيارة.
ـ أجمعوا على مشروعية زيارة القبر الشريف بدون شد الرحال، وقد سبق تحرير ذلك في النقطة الأولى، واختلفوا في جواز شد الرحال لمجرد زيارة قبره عليه الصلاة والسلام(10) على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى القول بسنية شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف(11)، بل بعضهم يحكي الإجماع على سنية زيارة القبر الشريف التي يندرج تحتها شد الرحال إليها، كالقاضي عياض، والحافظ ابن حجر(12).
القول الثاني: ذهب إلى القول بتحريم شد الرحال إلى القبور عموما ابن بطة العُكبري(13)، وابن عقيل الحنبلي(14)، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد رأيت كثيرا من العلماء ينسب هذا القول إلى القاضي عياض رحمه الله، لكنه يشكل عليه أنه لما حكى قول أبي عمران المالكي في وجوب شد المطي إلى القبر الشريف أوَّل هذا القول وحمل الوجوب هنا على أنه وجوب ندب وترغيب الذي يستعمله المالكية، ما يدل على أنه وافقه في مشروعية شد الرحل إلى القبر الشريف؛ وهذا يضعف ـ في رأيي ـ نسبة تحريم شد الرحال إلى القاضي عياض(15).
ولعل ما حملهم على نسبته إليه هو ما جاء في إكمال المعلم لما كان بصدد شرحه لحديث:
( لا تشد الرحال…)، لما قال: بخلاف غيرها أي المساجد مما لا يلزم ولا يباح بشد الرحال إليها إلا لناذر، ولا لمتطوع لهذا النهي، إلا ما ألحقه محمد بن مسلمة من مسجد قباء…(16).
وأرى أن كلامه يتجه إلى المنع من شد الرحال إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، لا منع شد الرحال إلى القبر الشريف، خصوصا إذا جمعت هذا مع إجازته لذلك لما حمل قول أبي عمران في وجوب شد المطي إلى القبر الشريف على أنه وجوب ندب وترغيب.
النقطة الثالثة: الأدلة التي يستدل بها كلا الطرفين في المسألة:
أدلة القائلين بجواز شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف:
ويمكن تقسيم أدلة القائلين بسنية شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف إلى قسمين:
القسم الأول: الأحاديث الواردة في فضل زيارة القبر الشريف، ومنها:
ــ ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي ).
ــ ما رواه الدارقطني أيضا عن ابن عمر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني )، وغيرها من الأحاديث الواردة في فضل زيارة القبر الشريف.
وقد سبق بيان ميل أكثر المحدثين إلى تضعيف هذ الأحاديث، بينما نقل الحافظ تصحيح بعضها عن ابن السكن بناءً على نقله أثناء السنن والصحاح، كما نسب إلى عبد الحق الحكم نفسه بناءً على سكوته عنه في الأحكام الوسطى، كذلك أشار في التلخيص الحبير إلى تصحيح الإمام تقي الدين السبكي لبعضها نظرا لتعدد طرقها.
مناقشة هذه الأدلة:
لا يخفى على الباحثين ميل أكثر أهل الحديث إلى تضعيف تلك الآثار، وترددها بين أن تكون ضعيفة أو موضوعة، وحتى الذين نُقل عنهم تصحيحها، إنما صححها بعضهم بجمع جميع طرقها، ما يعني أن كل حديث منها بمفرده لا يصلح أن يستفاد منه حكم هذه المسألة التي أثارت ضجة كبيرة في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وسببت ردودا علمية حادة بين بعض المختلفين فيها، وقد يصل الأمر أحيانا إلى الطعن في دين المخالف، أو الحكم عليه بسوء الطوية، أو عدم حب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عدم توقيره صلى الله عليه وسلم، أو الانسياق وراء الهوى.
القسم الثاني: حكاية الإجماع على جواز شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف:
يحكي القائلون بجواز شد الرحال إلى القبر الشريف لمجرد الزيارة إجماع العلماء عليه، وممن حكى الإجماع العلامة القاضي عياض، والحافظ ابن حجر رحمهما الله.
قال الإمام القاضي عياض رحمه الله: ( وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها…)(17).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن الزيارة من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع(18).
يعتبر هذا الدليل من أقوى الأدلة التي استدل بها القائلون بالجواز، لأنه نقل إجماع في المسألة، ومن شأن الإجماع وجوب اتباعه، وعدم مشاقته، ولعل مثل هذا النقل هو الذي حمل المخالفين لشيخ الإسلام ابن تيمية على التشنيع عليه، حيث يذكرون مسألة شد الرحال فيردفون القول بمخالفته لها، ومن ثمَّ يطلقون على اختياره بأنه من أشنع المسائل المنقولة عنه، وهذا صنيع الحافظ في الفتح، وأبي زرعة العراقي في طرح التثريب، بل أردف أبو زرعة العراقي بذكر مصنف تقي الدين السبكي في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى: شفاء السقام وأثنى عليه حيث قال: فشفى صدور المؤمنين(19).
مناقشة حكاية هذا الإجماع:
هذا الإجماع الذي يحكى في هذه المسألة يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أن يكون المقصود منه هو بيان اتفاق الناس على مشروعية زيارة القبر الشريف في حالة شد الرحال لقصد المسجد النبوي للصلاة فيه، ثم القيام بالزيارة فإن كان هذا مقصودهم في حكاية ذلك الإجماع فهذا صحيح؛ إذ لم يخالف فيه أحد، لكن يعكر على هذا الاحتمال أن القاضي عياضا بعد حكايته الإجماع على سنيتها تطرق لمناقشة قول أبي عمران حول وجوب شد الرحال، حيث رأى أن شد الرحال إلى القبر الشريف مندوب، كذلك فإن الحافظ ابن حجر حكى الإجماع بعد حكمه على شناعة اختيار الإمام ابن تيمية رحمه الله تحريم شد الرحال إلى القبر الشريف للزيارة؛ ما يبعد هذا الاحتمال.
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود من حكاية الإجماع هو اتفاق العلماء على مر العصور على جواز شد الرحل لمجرد زيارة القبر الشريف، ولم يخالف فيه إلا الإمام ابن تيمية الذي خرق هذا الإجماع وهذا أقرب الاحتمالين.
ويمكن مناقشة هذا الاحتمال الثاني: بأن الإمام ابن تيمية رحمه الله لم يسبق إلى تحريم شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف، بل سبقه إليه حنبليان هما: ابن بطة العُكْبري المتوفى سنة: 387هـ، وأبو الوفاء ابن عقيل المتوفى سنة 513هـ، ما يعكر دعوى الإجماع الذي سبق نقله.
ولعل خلاف هذين الحنبليين هو ما حدا بالإمام المقري في قواعده أن يقول لما حدثه بعض الناس أن ابن تيمية رحمه الله يقول: من سافر لزيارة القبر الكريم لا يقصر؛ لأنه سفر معصية فقال المقري رحمه الله:
( هذا من نزغاته، وتركه عمل القدوة، بل إجماع جمهور الأمة…)(20)، فكان دقيقا لما استعمل عبارة: جمهور الأمة، ولم يستعمل إجماع الأمة الذي يفيد أن ابن تيمية هو الوحيد المخالف في المسألة.
تنبيه حول حكايات الإجماع:
ينبغي التنبيه إلى أن كثيرا من الإجماعات التي تنقل تكون بمثابة نقل عدم معرفة الخلاف في المسألة، ولا أدل على ذلك من وجود الخلاف في كثير من المسائل نُقل فيها الإجماع.
ويمكن ضرب مثال على ذلك في كتاب الاستذكار لأبي عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
ـ نقل الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى الإجماع على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبله أنه لا يعتد بوقوفه ذلك، وأنه إن لم يرجع فيقف بعد الزوال، أو يقف من ليلته فقد فاته الحج(21).
وهذا الإجماع منقوض بقول الحنابلة المشهور والدال على إجزاء الوقوف بعرفة والدفع منها قبل الزوال(22).
فحكاية الإجماع لا يعني دائما أن المسألة ليس فيها خلاف، بل قد يكون في المسألة خلاف ربما لم يطلع عليه حاكي الإجماع، ولذا كانوا يحذرون من إجماعات ابن عبد البر، واتفاقيات ابن رشد، ومن خلافيات الباجي رحم الله الجميع(23).
ولا يعني هذا التحذير الحط من قدر هؤلاء الجهابذة، وإنما لبيان صعوبة الوصول إلى الإجماع الذي ليس فيه خلاف، بل حتى الكتب المؤلفة خصيصا لحكاية الإجماع لم تسلم من نقد واستدراك في كثير من نقولات مصنفيها.
أدلة القائلين بتحريم شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف:
ويمكن تقسيم أدلة القول بتحريم شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف إلى قسمين:
القسم الأول: الحديث الوارد في المنع من شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى).
وجه الدلالة: أن المساجد أفضل بقاء الأرض، وقد ورد النهي عن شد الرحال إلى غير الثلاثة، فيكون ما دونه في الفضل كقبور الأنبياء والصالحين داخل في النهي من باب أولى(24).
ويناقش: بأن النهي خاص بالمساجد غير الثلاثة، وما عدا المساجد كقبور الأنبياء والصالحين فجائز لعدم دخوله في النهي(25).
مناقشة وجه الدلالة والاعتراض الذي اعترض به المجوزن:
يبدو جليا للباحث أن وجه الدلالة في الحديث، وما اعترض به المجوزون لشد الرحال لقصد زيارة القبر الشريف لا يعدو أن يكون مجرد فهم للحديث، فالمانعون استعملوا قياس الأولى فأدخلوا فيه المنع من كل شدٍّ للرحال يقصد به القربة، بينما المجوزون رأوا أن النهي إنما ورد في المساجد وما عداها من زيارة قبورٍ للصالحين لا يدخل فيه.
القسم الثاني النقل عن الإمام مالك رحمه الله:
نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الإمام مالك رحمه الله ما يأتي:
( قال مالك لرجل سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل للحديث الوارد في النهي عن شد الرحال)(26).
وقد نقل هذا القول بمعناه عن الإمام مالك رحمه الله أبو عمرو بن أبي الوليد المالكي ووافقه على هذا النقل أخوه عبد الله بن أبي الوليد المالكي(27).
وقد أشار الحافظ ابن رجب الحنبلي في الذيل إلى موافقة ابني أبي الوليد المالكي لشيخ الإسلام في هذه المسألة(28).
مناقشة هذا النقل عن الإمام مالك:
هذا القول عُزي إلى كتاب المبسوط المفقود للقاضي إسماعيل، كما أن نقل موافقة ابني أبي الوليد لشيخ الإسلام لم يذكر في كتب المالكية، ما يجعل النقل لا يقوى كما لو نقله المالكية في كتبهم حيث يقطع الطريق أمام من يحكي الإجماع على جواز شد الرحال لمجرد زيارة القبر الشريف، وينقل المسألة من مسألة مجمع عليها إلى مسألة مختلف فيها.
ولعل الله إذا وفق الباحثين للعثور على كتاب القاضي إسماعيل المفقود سوف ينقل هذه المسألة إلى مسار آخر غير المسار الذي أخذته منذ أن اشتعلت نار الجدال فيها.
النقطة الرابعة: أسباب الخلاف في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف:
يمكن حصر أسباب الخلاف في هذه المسألة فيما يأتي:
ـ الخلاف في تصحيح الأحاديث الواردة في الباب.
ـ الخلاف في حكاية الإجماع في هذه المسألة.
ـ اختلافهم في فهم الحديث المتفق على صحته الوارد في مسألة شد الرحال.
النقطة الخامسة: العوامل التي ساهمت في حدة الجدال في مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف مع أنها مسألة فرعية:
يندهش الباحث حين يقرأ ما كُتب في هذه المسألة من الردود العلمية التي قد تخرج عن حد الإنصاف أحيانا، حيث يلحظ تارةً النيل من المخالف والطعن في دينه، أو اتهامه بالتنقص من الجناب النبوي، وقد يصل الأمر طوراً إلى نعته باتباع الهوى، أو وصفه بالجهل، ولا شك أن هذه الأوصاف تجارة كاسدة في سوق البحث العلمي الجاد.
ومن ناحية أخرى يتعجب الباحث ويتساءل كيف يمكن أن تصل مسألة فرعية فقهية إلى هذه الدرجة من الخلاف، مع أن العلماء كانوا معروفين بسعة الصدر في مثلها.
ولعل من العوامل التي أدت إلى تكبير هذه المسألة ما يأتي:
ــ ما سبقه من الخلافات والنزاعات بين شيخ الإسلام ومخالفيه في مسائل كثيرة، كمسألة الطلاق.
وفي هذا يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله لما كان بصدد سرد تلك المسائل:
( وفي آخر الأمر دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء وذلك كفر…)(29).
ـ كون المسألة متعلقة بالجناب النبوي، وهذا كثيرا ما يحرك العواطف والمشاعر، لا سيما صاحَبه اتهام ابن تيمية بالتنقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا شك أنه كفر.
الخلاصة:
يمكن تلخيص ما سبق تناوله في هذا البحث خلال النقاط الآتية:
ــ إن الخلاف بين المجوزين لزيارة القبر الشريف وبين المانعين من ذلك محصور فقط في شد الرحال، أما إذا لم يكن فيه شد رحال، أو كان قصده المسجد النبوي ثم زار القبر الشريف فهم لم يختلفوا في هذين الحالين.
ــ حكاية الإجماع على جواز مسألة شد الرحال لمجرد الزيارة، وتناول المسألة على أنه لم يخالف فيها إلا تقي الدين ابن تيمية غير دقيق؛ لما سبق من نقل موافقة ابن بطة العكبري، وأبي الوفاء ابن عقيل لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ــ لم يتضح لي نسبة المنع من شد الرحال لزيارة القبر الشريف إلى القاضي عياض، بل قوله في الشفا يدل على أنه من الذين يرون جواز ذلك.
ــ توصلت إلى أن مسألة شد الرحال لزيارة القبر الشريف مسألة فقهية اجتهادية لا أقل ولا أكثر، وقد أفتى بذلك جماعة من العلماء في زمان شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكره الحافظ ابن رجب في الذيل(30).
ــ وأخيرا، ليس في المختلفين من لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب كل فيما ذهب إليه؛ لأن اجتهاده في المسألة أداه إلى أن اختياره في المسألة هو عين توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك يترددون بين المصيب الذي له أجران، وبين المخطئ المغفور الذي له أجر واحد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) كاتب وباحث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(1) انظر: نيل الأوطار، للشوكاني (5/113)، الموسوعة الفقهية الكويتية (24/83).
(2) المصدران السابقان.
(3) انظر: نيل الأوطار، للشوكاني (5/113).
(4) انظر: التلخيص الحبير (2/570).
(5) انظر: المصدر السابق (2/569 ـ 570)، البدر المنير (6/299)، المغني عن حمل الأسفار، للعراقي (ص:306).
(6) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (24/84).
(7) المصدر السابق.
(8) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (27/ 329ـ331).
(9) انظر: البداية والنهاية (14/143).
(10) انظر: تتمة أضواء البيان، لعطية محمد سالم (8/339).
(11) انظر: سبل السلام، للصنعاني (1/598)، نيل الأوطار، للشوكاني (5/113).
(12) انظر: الشفا، للقاضي عياض (2/83)، فتح الباري، لابن حجر (366/).
(13) انظر: الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة العكبري (ص:178).
(14) انظر: المغني، لابن قدامة (2/195)، إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/195)، الفروع، لابن مفلح (5/155)، المبدع، لبرهان الدين ابن مفلح (2/114ـ 115).
(15) انظر: الشفا، للقاضي عياض (2/84).
(16) انظر: إكمال المعلم، للقاضي عياض (4/449).
(17) انظر: الشفا، للقاضي عياض (2/83).
(18) انظر: فتح الباري، لابن حجر (3/66).
(19) انظر: فتح الباري، لابن حجر (3/66)، طرح اتثريب، للعراقي (6/43).
(20) انظر: قواعد الفقه، للمقري (ص:393).
(21) انظر: الاستذكار، لابن عبد البر (4/281).
(22) انظر:الإرشاد، للشريف الهاشمي (ص:179)، التعليقة الكبرى، للقاضي أبي يعلى (2/87/88)، الكافي، لابن قدامة (1/519ـ520).
(23) انظر:مواهب الجليل، للحطاب (1/522).
(24) انظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (8/103).
(25) المصدر السابق.
(26) انظر: الرد على الإخنائي، لابن تيمية (ص:24).
(27) انظر: العقود الدرية، لابن عبد الهادي (ص: 369ـ 370).
(28) انظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (4/518ـ 519).
(29) انظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (4/518).
(30) انظر: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب (4/518ـ519).