المعرفة الكولونيالية في الخطاب الأنثروبولوجي مقاربة ابستمولوجية نقدية
بقلم الباحث/ شيخ سيسي– معهد الدوحة للدراسات العليا _قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا
تقديم:
تعتبر الأنثروبولوجيا من المجالات المعرفية الأكثر ارتباطا بظاهرة الكولونيالية كحدث تاريخي، وذلك لأن الكولونيالية وإن كانت في ظاهرها فرضَ سلطةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ على الشعوب المستعمَرة للاستفادة من ثوراتها ومواردها البشرية والطبيعية، فإنها كذلك كانت ضمنيا فرضَ سلطةٍ رمزيةٍ تَتَمثل في إعادة تشكيل التركيبة الثقافية والمجتمعية والمعرفية لهذه الشعوب لتسهيل ما جاءت الكولونياليةُ من أجله، وللتَمَكُنِ من المواجهة والقضاء على كل ما يُمْكن أن يُشكل سلطةَ المقاومةِ في المستعمَرات. إن السلطة الرمزية للكولونيالية والتي تَمَثَلَتْ في إنتاج معرفةٍ كان الهدف منها إعادةَ صياغةِ الأحداث والوقائع التاريخية والاجتماعية وتشكيلها بشكل يُوافق ويُطابق الأهدافَ السياسيةَ والاقتصاديةَ للاستعمار، ما كانت لتَتَرسخ جذورُها في هذه المجتمعات بدون دراسات مُمَهِدة لها وتصنيفات طبقية عرقية. والأنثروبولوجيا كمجال معرفي اتسم في بداياته الأولى بكونه يَهْتم بالآخر المختلف ودراسة مَكامن هذا الاختلاف كان يُمثل أفضل وسيلة لهذه التمهيدات والتصنيفات بالنسبة للمستعمِر.
هكذا اتصلت الشعوب الأوروبية ببقية شعوب العالم ليست لأول مرة في التاريخ لكن المرة هذه ستكون مختلفة عن سابقاتها، إذ أنها سترافقها مجموعةٌ من الخطابات والمعارف التمثيلية التي أنتجها الأوروبيون نيابة عن هذه الشعوب لتمثلهم ولتَعْكس صورَهم في العالم.
فكيف تَشَكَلَتْ هذه الخطابات والمعارف الكولونيالية؟ وإلى أي حد يمكن مقاربتها مقاربات منهجية تهدف إلى إعادة النظر فيها؟
هذه هي المعضلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذه الورقة، ومن أجل ذلك سننطرق إلى ما يُقصد بالخطاب الكولونيالي وبالمعرفة الكولونيالية قبل أن ننتقل إلى ربط هذه المفاهيم بالأنثروبولوجيا كحقل معرفي ارتبط بشكل وثيق بالكولونيالية كظاهرة تاريخية، ثم النظر إليها نظرة نقدية مزدوجة نَنْظر فيها إلى بعض المعارف والخطابات الكولونيالية كإنتاج معرفي تمييزي، وإلى بعض ردود الأفعال المضادة لهذه الخطابات والمعارف كإنتاج تعصبي من نوع آخر.
أولا: في الخطاب الكولونيالي:
أعتقد أنه لا يمكن الادعاء بوجود نظام كولونيالي مُوَحد بين الشرق وشمال افريقيا وغربها، وذلك أن السياسة الكولونيالية الإنجليزية ليست نفس السياسة الكولونيالية الفرنسية، وهذه الأخيرة ليست نفسها الاسبانية ولا البرتغالية، أضف إلى ذلك أن اختلاف الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي وجدها المستعمِر في المجتمعات المستعمَرة ساهمت وانعكست على السياسات التي اتبعها كل نظام كولونيالي على حدة. غير أن الشيء الوحيد الذي لا نجانب الحقيقة إذا ادعيناه هو أن الفعل الكولونيالي بغض النظر عن تعدد أشكاله وسياساته حاول بناء صورة للمستعمَرات تتوافق مع ما يقتضيه هذا الفعل وسياساته، الشيء الذي أسفر عن انشقاقات كرست تراتبية الأجناس البشرية بشكل هرمي يُشَرْعِنُ الاستلاء الأوروبي وهيمنتها على الشعوب الأخرى.
ويمكن استحضار ما جاء في خطاب “جيل فيري” أحد وزراء التربية في فرنسا أثناء الحقبة الاستعمارية، في خطاب معنون ب (الرسالة التحضيرية) أكد الوزير “جيل فيري” أمام مجلس النواب أن على (الأجناس العليا) تحضير (الأجناس السفلى).[1]
ويضيف “إرنيست مرسيي” الذي كان عمدة بلدية قسنطينة الجزائرية في عهد الاستعمار” إن الأهالي في حاجة إلى حُكْمٍ، لأنهم أطفال كبار غير قادرين على التصرف بمفردهم، يجب أخذهم بحزم وصلابة ولا يجب أن نتحمل منهم أي حماقة، لابد أيضا من قمع كل من يفقد العزيمة ويحبط الهمم، وفي الوقت نفسه يجب حمايتهم وتوجيههم أبويا وخاصة استعادة تأثيرنا عليهم كالمثابرة على إبراز تفوقنا الأخلاقي عليهم”[2]. كان هذا الخطاب الكولونيالي خطابا تبريريا لما طرحه الفعل الكولونيالي من تناقضات في المجتمعات الأوروبية، إذ أنه كانت فيها أقليات تَرفض الاستلاءَ الأوروبي على هذه الشعوب كما تساءلت هذه الأقليات عن الحضارة التي تدعيها أوروبا كيف يمكن أن تتوافق مع الفعل الكولونيالي. فمثلا اعتراض جماعة كويكر الدينية في بريطانيا لتجارة الرق وافتراضهم القائم على” كلنا من دم واحد”[3] كان بالضرورة أن يَتلَقَى ردا تبريريا من طرف القائمين بالفعل الكولونيالي. هكذا ظل الخطاب الكولونيالي لإنتاج مفاهيم وشعارات تمييزية وتبريرية ستكون بالضرورة من التمهيدات الأساسية لما ستقوم عليها المعارف الكولونيالية فيما بعد. ومن هذه المفاهيم والشعارات، شعار” التأهيل من الطبيعة المتوحشة” حيث كان الخطاب الكولونيالي ينظر إلى المستعمَرات ككائنات أقرب إلى الطبيعة والحيوان من الانسانية ويجب تأهيلهم وإنقاذهم.
ومنها ثنائية ” الذات والآخر” وثنائية ” التحضر والبربرية” وثنائية “الأبيض والأسود” وغيرها من المفاهيم التي لا يسع المقام لذكرها بشكلٍ مُفَصَلٍ والتي تَشَكَلَتْ منها معارف كولونيالية فيما بعد.
فكيف تحول هذا الخطاب الكولونيالي إلى معرفة عن الآخر المختلف؟ هذا ما سنناقشه في المحور التالي.
ثانيا: من الخطاب الكولونيالي إلى إنتاج معارف لخدمة السلطة الكولونيالية:
سبق وأن بينا بأن الاستعمار كان بمثابة قوى عسكرية وسياسية سيطرت وهيمنت على بعض الشعوب للاستفادة من مواردها الطبيعية والبشرية، كما أنه تقدم وأن ناقشنا كيف أن الاستعمار كان فعلا يطرح تناقضات لما ادعته أوروبا من تحضر وتقدم عند بعض الأوروبيين، فكانت من الضرورة بمكان بالنسبة للقوى المستعمِرة تشكيل وعيٍ وخطابات تبريرية للفعل الكولونيالي كما رأينا، غير أن الكولونيالية لديمومة سلطتها على هذه الشعوب كانت تنظر إلى أبعد من استغلال الذوات، بل حاولت تجريدها من انسانيتها وأصولها وحاولت “تحويل هذه الذوات إلى أشياء”[4].
عملت الكولونيالية بهذه الطريقة لإعادة تشكيل البنى المعرفية الانسانية ولفرض سلطتها وديمومتها على المستعمَرات، وأنتجت معارف عن هذه المجتمعات ويمكن تقسيم هذه المعارف إلى ثلاثة أنواع من المعارف:
أ-المعرفة التأسيسية: وهي عبارة عن بعثات من الأنثروبولوجيين أطلقتها القوى الكولونيالية لتمهد لها الطريق نحو السيطرة على هذه الشعوب بإنتاج معارف تُأَسِسُ للفعل الكولونيالي. وفيها درسوا المجتمعات بشكل دقيق لفهم بناها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. ومن أهم هذه البعثات البعثة الفرنسية ” من جيبوتي إلى داكار” بقيادة Marcel Griaule الذي كان اثنولوجيًا فرنسيًا كما كان ضابطًا في الجيش الفرنسي الكولونيالي. كانت بعثة من جيبوتي إلى داكار تهدف دراسة وفهم المجتمعات الإفريقية بطريقة تُسَهِلُ للقوى الامبريالية الفرنسية السيطرة على هذه المجتمعات، ومن هنا أنتج Marcel Griaule وفريقُه مادةً إثنولوجيةً مُهمةً شَكَلَتْ فيما بعد معارف تأسيسية للاستعمار الفرنسي في المنطقة، كما يمكن اعتبار العمل الاثنولوجي لمارسيل غريول من الأعمال التأسيسية للأنثروبولوجيا الإبمريقية الفرنسية.[5]
أعتقد أن هذا النوع من المعارف الأنثروبولوجية الكولونيالية كان يُميِزه الطابع الميداني وفيه وصف الأنثروبولوجيون المجتمعاتِ المستعمَرةِ بدقةٍ مَكَنَتْ جيوشَهم تفكيكَ البنى الاجتماعية والسياسية لهذه المجتمعات والسيطرة عليها بسهولةٍ، لكن الاشكال الذي يمكن أن يُطرح هنا هو كيف حصل هؤلاء على هذه المادة الإثنولوجية؟ أكيد أن القوى الكولونيالية كانت تختلف في سياساتها وطرقها في إنتاج المعرفة، لكن لنأخذ مثال غريول الذي كان يفرض على السكان الأصليين في غرب إفريقيا تقديمَ كل ما يحتاج إليه من معلومات حتى وإن دعت الحاجة إلى معاقبتهم لتحضير بعض الأعضاء من جثث أمواتهم[6]. في تقديرنا لا يمكن الجزم بصحة مادة إثنولوجية من هذا النوع وذلك لأمرين؛ الأمر الأول هو أن كثيرا من الإثنولوجيين الفرنسيين قاموا بها ما كانوا يتحدثون اللغات واللهجات المحلية لهذه الشعوب بل كانوا يعتمدون في كثير من الأحيان على الترجمة، الأمر الذي يُمكن أن يُؤثر على صحة المعلومات التي بُنِيَتْ عليها هذه المعارف للإشكالات التي تَطْرَحُها مسألةُ الترجمة. والأمر الثاني هو أن غريول كان يمارس سلطةً عسكريةً على هذه الشعوب مقابل هذه المادة الإثنولوجية، الشيء الذي يوحي ضمنيا بإمكانية أن يمدوا إليه أيَ معلومة بغض النظر عن صحتها، بُغية إرضائه وللتخلص من عقابه.
ب-المعرفة التبريرية:
“إن الأبيض صَنَعَ من الأسود إنسانا، وإن أوروبا ستصنع من إفريقيا عالما”[7] إن مثل هذه المقولات كانت جزء لا يتجزأ من المشروع الكولونيالي إذ أنها كانت تلعب دورا تبريريا للفعل الكولونيالي كما كان يؤثر بشكل جلي على الوعي العام الأوروبي.
تقدم وأن ناقشنا كيف أن الخطاب الكولونيالي شَكَلَ مجموعةً من المفاهيم والشعاراتِ التي بُنيت عليها بعض المعارف والنظريات في الأنثروبولوجيا الكلاسيكية، ففي الخطاب الأنثروبولوجي الأوروبي التقليدي كان مفهوم الذات يُمَثِلُ الأنا الأوروبي المتحضر في حين أن مفهوم الآخر يُمثل البربري المتوحش، بل أكثر من ذلك فإن مفهوم الآخر في هذا الخطاب مَثَلَ كلَ الأجناس البشرية الخارجة عن القارة الأوروبية، حيث تم النظر إلى هذا الآخر كمن هو إلى الطبيعة والحيوان أقرب. وبالدرجة نفسها شَكَلَتْ ثنائية الحضارة والبربرية أو التحضر والبدائي معارف أنثروبولوجية تَجَسَدَتْ في تفسير التاريخ البشري تفسيرا خطيًا بشكل حتمي، مفاده أن الشعوب الأوروبية تمثل التحضر والشعوب الأخرى تمثل البربرية والبدائية وأن على “الشعوب البربرية” اتباع نفس الخط التطوري والتحضري لأوروبا المتحضرة، ومن هنا بني الفعل الكولونيالي على فكرة إنقاذ الشعوب البدائية وتأهيلها والأخذ بزمام أمورها لتمر بنفس المراحل التي مرت بها عملية التقدم والتطور في “الحضارة الأوروبية”. كان هذا التفسير الخطي التطوري للتاريخ البشري كمعرفة أنثروبولوجية اعتمد عليها الفعل الكولونيالي كتبرير.
ج-المعرفة الغائية: إذا كان الاستعمار قوة عسكرية وسياسية سيطرت على هذه الشعوب بدعاوى عدم تحضرها وإخراجها من الفوضى إلى التنظيم، فإنه لا غرابة في أن تقوم على سلطة رمزية تهدف التأثير على أفراد هذه المجتمعات وخلق ذهنية جماعية فيهم تَقْبَلُ هذه السيطرةَ وتَجْعَلُ فيهم (قابليةً للاستعمار). وهذا يحيل ضمنيا إلى الارتباط الجدلي بين المعرفة والسلطة في الرؤية الفوكوية نسبة إلى ميشيل فوكو كما سنرى ذلك لاحقا، وفي هذا الصدد يحيل إدوار سعيد إلى أي حد كانت “معرفة الشرق” كما تَمَ إنتاجُها وتداولُها في أوروبا مرافقة أيديولوجية للسلطة الكولونيالية.[8] إن هذا النوع من المعرفة الكولونيالية تم إنتاجها بشكل غائي يهدف خدمةَ السلطة الكولونيالية ونزعَ أصالةِ هذه الشعوب عنهم وحذفَ ماضيهم وذاكرتهم الجمعية.
يقول فرانز فانون في هذا الصدد” الشعوب المستعمَرة ليست مجرد أشخاص تم استغلال عملهم وإنما أشخاص نَشَأَتْ في روحهم عُقْدَةُ نقصٍ بسبب موت أصالتها الثقافية والمحلية”.[9]
ثالثا: نحو مدخل نقدي مزدوج للمعرفة الكولونيالية
تَمَ تناولُ قضيةَ المعرفة الكولونيالية من طرف نقادها بطرح مجموعة من أسئلة بنيت عليها هذا النقد ومن أهم هذه الأسئلة:
ماهي الأنظمة السياسية الحكمية التي وَجَدَتْها الكولونياليةُ في المجتمعات المستعمَرة؟
ماهي المنظومة الأيديولوجية المحلية والتفاعلات التراتبية التي كانت بإمكانها مواجهة الكولونيالية؟
إن مثلَ هذا النوع من الأسئلة التي طُرحت كمداخل نقدية للمعرفة الكولونيالية تتسم بدقة علمية وتاريخية يمكن أن تساعد في فهم الواقع المحلي الماقبل الكولونيالي، لكن الإشكال المنهجي الذي يمكن أن يَحُول دون معرفة ذلك في تقديرنا هو أن أغلب المجتمعات المستعمَرة كانت ذات ثقافات شفاهية غير كتابية خاصة إذا تعلق الأمر بمجتمعات إفريقيا الغربية، الأمر الذي كان يجعل من أصالتها الثقافية والمحلية إلى الذاكرة أقرب من التاريخ المدوًن، ومن الاستراتيجيات التي وضعتها الكولونيالية لمحو هذه الذاكرة محاولة بَصْرَنَةِ تاريخ الفعل الكولونيالي في هذه المجتمعات سواء برسم الهندسة المعمارية لهذه المجتمعات وَفْق النموذج الأوروبي أو ببناء صروحmonuments تحيل إلى الزمن الكولونيالي ويَحُول بين السكان الأصليين وبين أصالتِهم الثقافية والمحلية. لا أشك في أن هذه الاستراتيجيات الكولونيالية نجحت بشكل كبير في محو الكثير من الذاكرات الجمعية لهذه الشعوب خاصة في إفريقيا، لكن هذا المحو تَحَوَلَ َفيما بعد إلى ارتباط بالماضي المفقود وغرس في ذهنية المجتمعات المستعمَرة حنينًا إلى هذا الماضي، وذلك شَكَلَ في تقديرنا عائقا ابستمولوجيا لنقاد المعرفة الكولونيالية.
وتُؤكد على ذلك واحدةٌ من أبرز نقاد المعرفة الكولونيالية في الشرق، الفيلسوفة الهندية التي تَأثرتْ كثيرا بفكر ميشيل فوكو، تقول غاياتري سبيفاك:” الحنين للأصول المفقودة يمكن أن يكون ضارا حين استكشاف الحقائق الاجتماعية الموجودة في نقد الامبريالية”[10] أعتقد أن هذا الحنين تمكن من اضفاء طابع الذاتية في أعمال كثير من نقاد الكولونيالية. وإلى جانب هذا النقد يمكن الإشارة إلى أن اعتماد هؤلاء النقاد على مفاهيم الخطاب الكولونيالي لنقد المعرفة الكولونيالية خلل إبستمولوجي في تقديرنا، إذ أن رفض هذه المعارف والخطابات التمييزية يستوجب استبدالها بمفاهيم أخرى في عملية نقدها ودحضها، وبذلك أرى ضرورة توليد مفاهيم ذات قدرات تحليلية وعلمية أكثر بدلا من محاولة نقد هذه المعرفة بالاعتماد على نفس مفاهيمها.
ومن جانب آخر أرى بأن من أبرز المداخل النقدية للمعرفة الكولونيالية الرؤية الفوكوية للعلاقة بين السلطة والمعرفة، يرى ميشيل فوكو بأن المعرفة مرتبطة بالسلطة وذلك بشكل جدلي حيث أن الأولى في حد ذاتها تمارس سلطة رمزية على الأفراد، فأفكار العلماء في بعض الأحيان تتميز بسلطة التأثير على سلوك الأفراد وتوجهاتهم، كما أن المعرفة في نفس الوقت حسب فوكو خاضعة لتوجيهات واتجاهات الثانية التي هي السلطة. يقول فوكو في هذا الصدد “إن الإثنولوجيا الفرنسية لا تظهر أبعادها الفعلية إلا في السيادة التاريخية للفكر الأوروبي كما في العلاقة التي بها تواجه الثقافات الأخرى كما تواجه ذاتها”[11]. أعتقد أنه إن كان هناك شيء يجمع بين المعارف الكولونيالية بجميع أشكالها فهو ارتباط هذه المعارف بالقوى السياسية والعسكرية التي تخدمها، وبالتالي فيمكن أن يبقى معظم ما أنتجه هؤلاء من معارف نيابة عن الأهالي معارف ذاتية حضرتْ فيها الذات الأوروبية بشكل جلي يتناقض مع الموضوعية والحيادية العلمية اليوم، فيكون بذلك أقرب إلى الأيديولوجيا التي تتحول إلى أداة للهيمنة كما يراه الفيلسوف الإيطالي أنتوني غرامشي.
خاتمة
إن المعارف والخطابات الكولونيالية تَشَكَلَ بعضُها بشكلٍ تمييزيٍ مركزيٍ لتمثيل وتنميط الآخر المختلف ولخدمة القوى العسكرية والسياسية في المستعمَرات، وعلى ذلك فإن هدفها الأساسي كان التركيز على إعادة صياغة البنى المعرفية لهذه الشعوب وإخضاعها بشكل مستمر للفعل الكولونيالي. إن هذا الطابع الغائي لهذه المعارف يَسْتوجبُ مقاربتَها مقاربةً منهجيةً تَفُك ارتباطَنا بها وتُعيد تشكيلَها بشكلٍ يَتَطابقُ مع معايير الانتاج المعرفي بعيدين عن التعصب والتمييز العنصريين. وأعتقد أن عمليةً ابستمولوجيةً بهذا الحجم تَتَأتى بِبَتْر الصلة مع الحنين المفرط إلى الماضي المفقود ثم بتوليد مفاهيم علمية أخرى بدلا من محاولة نقد هذه الدراسات من خلال مفاهيمها القيمية التي نجحت إلى حد ما في غرس صور نمطية تمثل الآخر، ومحو جانب مهم من أصالة الأهالي الثقافية والتاريخية.
المصادر والمراجع:
1-آنيا لومبا، الكولونيالية وما بعدها، ترجمة باسل المسالمه، (دمشق، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر2013)
2-إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، (القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع،2006)
3-إدوارد سعيد، من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف، ترجمة محمد الجرطي، (إيطاليا، منشورات المتوسط2016)
4-أشيل مبيمبي، نقد العقل الزنجي، ترجمة طواهري ميلود، (الجزائر بن النديم للنشر والتوزيع2018)
5-عبد العظيم رمضان، الغزوة الاستعمارية للعالم العربي وحركات المقاومة، (القاهرة، دار المعارف2014)
6-فريدريك بارث، أندريه غينغريتش، روبرت باركن، سيدل سيلفرمان، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس، ترجمة أبوبكر أحمد باقادر، إيمان الوكيلي (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)
7-محمد فاوبار، سوسيولوجيا الانتاج المعرفي الكولونيالي بشأن التربية والتعليم في المغرب، مجلة العمران العدد17 صيف2016
8-نايجل سي. غبسون، فانون المخيلة بعد-الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2013)
9-والتر د. منيولو، العصيان المعرفي: التفكير المستقل والحرية الد-كولونيالية، ترجمة فتحي المسكيني، (مؤسسة مؤمنون بلا حدود، صيف2016)
10-Michel Foucault, les mots et les choses, (Paris, Gallimard 1966 P338))