المشروع الإصلاحي السنغالي وتحدي المرحلة
(*) محمد بشير جوب
كل المشاريع المجتمعية سواء كان في شكل جماعةٍ أو حزبٍ أو منظمةٍ مدنيةٍ بحاجة إلى وقفاتٍ مع نفسه بين الفينة والأخرى، لتقييم التحديات التي تواجهه، واتخاذ القرارات المناسبة مع كل تحدي مرحليٍّ على حدة، وبذلك يستطيع ضمان وجوده واستمراريته وإثبات فاعليته، والمشروع الإصلاحي السنغالي كأحد المشاريع المجتمعية ليس استثناء من هذا الواجب، ومن خلال ملاحظتي ومتابعتي له في ظل الظروف والمعطيات الحالية، رأيت أنه توجد جملةٌ من التساؤلات تنتظر إجاباتٍ شافيةً، وخاصة في البعد السياسي والحزبي الذي يغلب على الواقع السياسي اليوم، بسبب الانتخابات التشريعية التي نقبل عليها، ومن أكثر التساؤلات رواجاً مايلي:
ما موقع المشروع الإصلاحي في المشهد السياسي السنغالي؟
ماهي مساحة الخيارات التي في متناول القاعدة الشعبية لهذا المشروع؟
ما هي مهددات وفرص المشروع، في ظل زوبعة التحالفات التي وصلت إلى شكل غير مسبوق على الإطلاق في التاريخ السياسي السنغالي؟
نحاول في هذه الدراسة الحصول على تلك الإجابات الشافية؛ حسب رؤيتنا للواقع السياسي السنغالي، والانعكاسات التي ستخلِّفها إفرازات هذا الواقع على مستقبل هذا المشروع بصفة عامة.
الإطار المفاهيمي للمشروع الإصلاحي السنغالي.
كانت نهاية الاستعمار إعلاناً لبداية عمليةٍ مهمَّةٍ وصعبةٍ هي عملية بناء دولةٍ حديثةٍ، تتوفَّرُ فيها شروط الدولة المعاصرة والحديثة، ولم تكن النّخبة المسؤولة على القيام بهذه العملية الشاقّة في حالة انسجامٍ فكريٍّ إيدولوجيٍّ تؤهلها بالقيام بالمهمة دون حدوث ضجيجٍ، حيث رأى جزءٌ منهم وهم قادة اليسار الوسط المنبثق من رحم المستعمر الفرنسي، أن صياغة الدولة الحديثة يجب أن تكون وفق النموذج الغربي البحت وخاصة النموذج الفرنسي، باعتباره أفضل تجربةٍ بشريَّةٍ عرفها التاريخ حتى تلك اللحظة، ولم يروا ضرورة مراعاة الإرث الديني والثقافيّ الذي شكّل هويَّة الدولة، والذي من أجل الحفاظ عليه؛ كان السبب الرئيسي لنضال رجال المقاومة الدينية ضد الاستعمار الفرنسي طيلة فترة وجوده.
بينما يرى الجزء الآخر وهم أصحاب التوجّه الثوريّ في أقصى اليسار، الذين تأثروا بالأفكار الشرقية الشيوعية، ضرورةَ التخلي عن بعض المبادئ الغربية، والتخلُّص الفوري من نفوذ المستعمر بشكلٍ نهائيٍّ، والاستفادة من العمق الأفريقي لبناء الدولة الوليدة، وإذاكان هذا التيَّار الأخير أشدّ تمسُّكاً وحرصا ًبالمبدأ الثوريّ والقطيعة مع الغرب، إلا أنهم يلتحقون في الفكر مع اليسار الوسط من جانب إقصاء العامل الديني من معادلة بناء الدولة، ولذلك لم ير الطرفان غضاضةً في أن يكون شكل الدولة علمانيةً، وأنه هو الأمثل لتجاوز التحدِّيات الماثلة آنذاك.
كان بين خطّ تيّار اليسار الوسطي وأقصى اليسار، خطٌّ ثالث تمثَّل في تيّار اليمين المحافظ، فعلى الرغم من قلَّةٍ في التجربة ونقص المعلومات في الحديث الدائر آنذاك؛ كان لهذا التيّار طرحٌ مختلفٌ تماماً مع الأطروحات الموجودة، حيث كان يرى أن نضال مابعد الاستقلال؛ يجب أن يكون امتداداً لما قبله، باعتبار الاستقلال نتيجةً لجهود المقاومة الطويلة التي قام بها رجال الدين من مختلف توجهاتهم، وبالتالي فمشاركتهم في حسم الأمور وصنع القرارات حق اكتسبوه نتيجة تضحياتهم، ولايجب اعتباره تفضلاً أو منحةً يتكرم بها أحدٌ لهم، فضلاً عن أي محاولة إقصاءٍ متعمَّدٍ.
كان الاتفاق بين التيّارات الثلاثة صعباً مُمتنعاً، لأن الاختلاف كان في الأصول وليس في الفروع، ولذلك كان الصدام بينهم نتيجةً طبيعيّةً وحتميةً، فبرز لوو بول سدار سنغور كقائدٍ كارزميٍّ لتيّار اليسار الوسط مع حزب الاتحاد التقدمي السنغالي (U.P.S)، فيما برز قادة تيار أقصى اليسار مع حزب التجمع الأفريقي (P.R.A)، وبعد تردُّدٍ واختلافٍ في الرُؤى لدى غالبة الممثِّلين لتيّار اليمين المحافظ، برز الشيخ أحمد التجاني سه المكتوم، أحد أبناء الشيوخ بطرحٍ جديدٍ، حيث رأى عدم جدِّية خطوة المجلس الأعلى للزعماء الدينيين، وقرر عدم ترك المشهد بأيدي اليساريين فقط، مادفعه إلى إنشاء حزب التضامن السنغال (P.S.S).
كانت انتخابات 22 مارس 1959 بمثابة القشَّة الأخيرة التي ستحسم مبدئياًّ المعركة بين هذه التيارات الثلاثة لصالح تيار اليسار الوسطي، فوصل الحزب الاشتراكي إلى سدَّة الحكم، فيما كان مصير محمود جوب أحد كبار قادة اليساريين السجن والنفي لاحقاً، وبما أن التوجّه الذي انتهجه الشيخ أحمد التجاني سه لم يكن محلَّ اجماعٍ لقاعدته فلم تكتب لتجربته النجاح مع وجود عوامل أخرى يصعب سردها هنا.
ملامح المشروع الإصلاحي السنغالي:
يتضح من هذه الصورة أن الفكرة الإصلاحية لفترة ما بعد الاستقلال برزت مع بداية نشأة الدولة السنغالية الحديثة، وبفعل خضوعها للتقلُّبات السياسية المتلاحقة، ظلّت تتكيّف مع الظروف والسياقات المختلفة، وتتَّخذُ في كلّ ظرفٍ أو سياقٍ معيّنٍ شكلها ومعالمها الأساسية، فالمشروع الإصلاحي ليس وليدة اليوم، بل هو حلقاتٌ متّصلةٌ بدأ كردّة فعلٍ طبيعيٍّ ضد فئةٍ قليلة قامت باختزال اهتمامات شعبٍ بأكمله في رؤية ضيّقة، واتخذوا وفقها قراراتٍ مصيريةٍ ما مازال الشعب يدفع ثمنها باهظاً حتى الآن، حيث أهملت هذه الفئة الكثير من الجوانب الجوهرية التي بدونها يبقى مصير أيّ أمةٍ عرضةً لرحلةٍ طويلةٍ عنوانها البحث عن الهوية واستدراك الذات، لذا لم يكن نضال القائمين بهذا المشروع من أجل الحصول على أمورٍ ثانويّةٍ قابلةٍ للتفاوض أوالتجاوز، فلذلك فشل كل الجهود المحاولة لوأْدِه عن بَكرة أبيه، وإن نجح بعض المحاولات في تقليل مفعوله إلا أنه لا يلبث فترةً طويلةً إلا ويظهر في ثوبٍ جديدٍ ليتبنّى نفس المطالب.
فالمشروع الإصلاحي السنغالي أوسع مما يُعتقد، لأنه تيار يتضمَّن جملةَ من مطالب مشروعةٍ ينادي بها القائمين بأمره منذ قيام الدولة، فلا يمكن ربطه بشخصٍ واحدٍ ولابطائفةٍ معيّنةٍ ولابدينٍ أولغةٍ أوعرقٍ، فهو يتحدّد بقدر التّمسك بهذه المطالب واحترامها أو التنازل عنها وإهمالها، فتقرير المصير الداخلي، وحق المشاركة في الشؤون العامة دون أيّ قيدٍ مُسبقٍ، وحق الأفراد والطوائف بالمساواة فيما يضمن لهم التمتّع بممارسة كافّة حياتهم الدينية بالشكل والمضمون الذين يردونه، يدخل في الأمور والمطالب المشروعة، ومازالت حتى الآن تحت تقديرات طرفٍ معينٍ، يتعامل مع الأطراف الأخرى مع نوع من التّعالي والتصلُّب، ولأن أدوات الدولة وآلياتها بيده، فهو جاهزٌ لاستخدامها في صالحه لحسم أي خلافٍ محتملٍ بينه وبين الطرف الأخر.
فالمشروع الإصلاحي السنغالي هو التيّار المحافظ الذي يرى وجود ثغرةٍ في بناء الدولة، ولايمكن تجاوزها إلا بعد القيام بسلسلة إصلاحاتٍ تدريجيّةٍ؛ من خلال المشاركة في مختلف أروقة الدولة بجميع الوسائل السلمية المتاحة؛ للوصول إلى التغيير الذي يلبّي تطلُّعات الشعب السنغالي في كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد تتمخَّض من هذا التيّار جماعاتٌ أو مؤسساتٌ أو أحزابٌ في شكلٍ منظّمٍ، قد تختلف في الآليات والبرنامج ولكن من الضروري الاجماع في تبنّي المطالب التي تؤمن بها غالبية الشعب السنغالي دون تجزئتها.
منذ الاستقلال حتى الآن لم تخلُ الساحة من دعاةٍ إلى تحقيق هذا المشروع، وإنما تتحكَّمُ عليه السياقات التاريخية المختلفة، فيظهر في قوالب مختلفة، فبروز الشيخ أحمد التجاني سه بحزب سياسيٍّ منذ الوهلة الأولى، مروراً إلى المشروع التعليمي المتكامل والمضاهي للتعليم الغربي الذي أقامه الشيخ أحمد امباكي غايدي فاتما إضافة إلى جرأته على اعتراض سنغور، ثم ماحدث بعد ذلك من قيام الصحوة السنغالية المتمثلة في الحركات الإسلامية؛ والتي امتدت من السبعينات حتى عام 2000، وصولاً إلى اليقظة الحالية التي تمثّلت في تجاوز عديد من نقاط الخلاف، والتوجه إلى المشاركة الحصرية في السياسية، كل ذلك يمكن اعتباره فواصل مهمّة، مر فيها المشروع الإصلاحي مع ما له من إيجابات وماعليه من سلبيات نستغني عن الخوض في تفاصيلها في هذا المقام.
المشروع الإصلاحي في خارطة الأحزاب السياسية السنغالية.
لايمكن الوصول إلى فهم دقيق للواقع السياسي السنغالي، ثم إلى واقع المشروع الإصلاحي في الخارطة السياسية الحالية دون مرورٍ طفيفٍ إلى الماضي، لمعرفة المنعرجات التي مرت من خلالها الأحزاب السياسية السنغالية بصفةٍ عامةٍ؛ والتي تمخّض منها الواقع السياسي الذي نعيشه الآن.
المسح التاريخي لحركة الأحزاب السياسية في السنغال.
مارست النُّخب السياسة في السنغال العمل السياسي عبر الأحزاب السياسية قبل استقلال الدولة بذاتها، حيث انضم كل من لمين غي، وبليس انجانج، وغلاندو جوف وغيرهم إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي (I.S.O.F) منذ 1922 ومنه حصلوا على مناصب سياسيةٍ مرموقةٍ، ثم حاول سنغور الخروج عن المألوف وأنشأ حزبا مستقلا لاحقا سماه الكتلة الديموقراطية السنغالية (B.D.S) كان ذلك في سنة 1948 قبل الاستقلال بسنوات، وبعد عشية الاستقلال تحديداً سنة 1960 تبنّت السنغال نظاماً برلمانياً، اجتمعت فيه السلطة في حزب واحدٍ وهو حزب الاتحاد التقدمي السنغالي (U.P.S) بقيادة لوو بول سدارسنغور ومحمد جاه، حيث تمّ تقاسم السلطة بينهما، ولم تمر إلا سنتين، لتعصف على النظام البرلماني أزمةٌ حادّةٌ بين الرجلين، عُرفت فيما بعد بأزمة 1962 – 1963 وانحلّ معها النظام البرلماني ليحُلَّ مكانه النظام الرئاسي.
كانت وطأة هذا النظام في بدايته شديدةً على الأحزاب السياسية، حيث اتحذه سنغور الذي خرج منتصراً في تلك الأزمة وسيلةً لإقصاء معارضيه، ولم يعترف سنغور الذي جمع كل السلطات بيده إلا بحزبٍ واحدٍ هو حزب التجمع الإفريقي (P.R.A) ذو التوجه الشيوعي الماركسي، وهذا ماجعله يكتسح في كل الانتخابات التي أقيمت في عهده، فتارة يفوز بدون مرشحٍ معارضٍ، كما في انتخابات 1968، وتارة أخرى يفوز في مقابل معارضٍ منزوع السلاح كما جرى بينه وبين عبد الله واد، بعد مرور سنواتٍ من نظام الحزب الواحد، خضع سنغور لضغوطاتٍ متتاليةٍ؛ طالبت بفكّ القيود على النظام القائم آنذاك، فقام مؤخراً بتعديلٍ دستوريٍّ سمح فيه بالتعددية الحزبية المقيّدة في ثلاث توجهات رئيسية هي الآتية:
- الديموقراطية الليبيرالية (اليمين الوسط) وفي مقدمتها الحزب الديموقراطي السنغالي (P.D.S).
- الاشتراكية (اليسار الوسط) وتمثّلت في الحزب الاشتراكي (P.S) الاتحاد التقدمي السنغالي (U.P.S) سابقا.
- الشيوعية (أقصى اليسار) المتمثلة في الحزب الأفريقي للاستقلال (A.I).
وفي آخر ولاية لـ سنغور ظهر توجُّه جديد، حيث سمح سنغور بإنشاء حزب حركة الجمهوريين السنغالي (M.R.S)، أطلق عليهم بالمحافظين وكانوا أقرب إلى اليمين الوسط.
ظلت هذه الأحزاب شريان حياة الحركة الحزبية في السنغال لمدة عقدٍ كاملٍ، ولم يشهد الأمر تطوُّراً إلى أن رحل سنغور تاركاً إرثه السياسي لوزيره الأول آنذاك عبد جوف، وبعد وصول الأخير تحديداً سنة 1983 تم الاعتراف بالتعددية الحزبية المطلقة لأول مرةٍ في الدستور السنغالي، ومع وجود انفراجٍ ملحوظٍ في هامش الحريات في زمن عبد جوف، ازداد عدد الأحزاب، كان بعضها نتيجة انشقاقات من الحزب الاشتراكي الأم، الذي استحوذ على الساحة السنغالية لعقدين من الزمن، وبعضها الآخر أنشئت مستقلة.
شكَّل وصول الحزب الليبرالي في السلطة عام 2000، مرحلةً فارقةً و حقبةً جديدةً، تشهدها الساحة السياسية، وكادت أن تخرج فيها الحركة الحزبية عن السيطرة، حيث وصل عدد الأحزاب من عام 2000 إلى 2012 فقط إلى 114 حزباً سياسياً، فيما وصل بعد ذلك عدد الأحزاب المرخصة رسمياً إلى 255 حزبا، مع العلم بأن هذا العدد الذي يمكن اعتباره رقماً قياسياً على مستوى العالم لا يعكس أفكاراً أو وإيديلوجيات جديدة في الساحة السياسة، وإنما هو ثغراتٌ في النظام القانوني الساري حالياً والمعني بضبط هذه الأحزاب.
واقع المشروع الإصلاحي في الخارطة الحزبية.
يمكن اعتبار بداية عام 2000 مرحلةً تاريخيةً جديدةً لدخول المشروع الإصلاحي في عملٍ حزبيٍّ يُعبِّر عن جزءٍ منه، عندما قرر جزءٌ من المنشقين من الحركة الإسلامية بالتحالف مع بعض المستقلّين إنشاء حزب (M.R.D.S) حركة الإصلاح للتنمية الاجتماعية، وكان الأمل أن يكون الحزب قادراً على استيعاب أكبر قدرٍ ممكنٍ من الناشطين في المشروع، بالإضافة إلى المتعاطفين والمتحمّسين الذين تشوّقوا لرؤية هذا التوجه، ولكن بعد عدّة استحقاقاتٍ انتخابيةٍ لوحظ وجود تباينٍ وهوَّةٍ بين القمة والقاعدة، ليس على مستوى الحزب؛ بل على مستوى المشروع الإصلاحي ككلٍّ، حيث أن الحماس والاستعداد الذي كان في القاعدة للاستجابة والتفاعل مع هذا الحدث، لم يلق عرضاً على مستواه من قبل جزء كبير من النشطاء في المشروع، حيث كان المنتظر احتواء الحزب ودفعه إلى المقدمة، وعدم حصول ذلك أحدث صورةً سلبيةً إلى حدٍّ ما في المشروع الإصلاحي، كما أوجد اهتزازاً في الثقة و المصداقية بين القائمين في المشروع بأنفسهم من جانب، وبين المشروع وقاعدته الشعبية من جانب آخر.
بعد تجربةٍ قصيرةٍ للعمل الحزبي ظهرت في الواجهة أحزابٌ جديدةٌ تُحسب للمشروع الإصلاحي بالرجوع إلى أدبياتهم وتصريحاتهم، في 2013 تأسس حزب الاتحاد من أجل الديموقراطية والإصلاح (U.D.R) قوة الأمل، ولم يُخف زعيمه الذي كان عضواً سابقاً لرابطة الطلاب المسلمين في السنغال (AEEMS) تمسُّكه بالخط الوسطي بين الذين في السلطة والذين في المعارضة، وعند النظر في خطاب الحزب نرى بأنه يستوعب مطالب المشروع الإصلاحي إلى حدٍّ كبير، ثم تأسس بعده بسنة حزب (pasteef) الذي ألح زعيمه على ضرورة إحداث تغييرٍ جذريٍّ في ملامح النظام السياسي القائم، وفي أدبيات حزبه تعبيرٌ عميقٌ بالتبنِّي الحصري لجوهر مطالب المشروع الإصلاحي المنشود.
بعد نشأة هذا الحزب بسنة، تأسس حزب التحالف للإصلاح والتنمية (A.R.D) نتيجة انشقاق في حزب (M.R.D.S) وزعيمه الذي كان من قيادات الحزب الأم، إلى أن انتُخبَ عمدةً في (ساغاتا غيج) دعا إلى بناء قيادةٍ سياسيةٍ جديدةٍ؛ قادرٍ على تبنى مشروع مجتمعيٍّ يضع في الاعتبار حقائق الدولة، هذا التوجه يؤهل الحزب ليكون محسوباً للمشروع الإصلاحي، ثم ظهر لاحقاً حزب تحالف الوطنيين للعدالة والتضامن (A.P.J.S) كجناح سياسي لإحدى الحركات الإسلامية، يرى الحزب أن النهج السياسي المعتاد في الساحة لاتمت بصلةٍ بنبض المجتمع السنغالي، ولذا نحَّى نفسه عن الانتماء إلى تيار اليمين أو اليسار داعياً إلى أخلاقياتٍ جديدةٍ في السياسة السنغالي، وإلى الحكم الرشيد.
لا تخلو تجربةُ العمل الحزبي لدى تيّار المشروع الإصلاحي من عثراتٍ في بدايتها، أدت إلى نوعٍ من الضبابية في الرؤى، منع ذلك من بلورة رؤيةٍ مشتركةٍ فيما بعد، والعمل معاً في صيغةٍ تكامليةٍ، تسمح بتشبيك الجهود والتقوِّي من الآخر، استدراكاً لبعض الأخطاء، كان ذلك خطوة من شأنها، أن تُمكِّن المشروع من حجز مقعده في المشهد السياسي السنغالي، ويكون له ثقلٌ ووزنٌ يستطيع به بناء خطٍّ دفاعيٍّ قويٍّ، والحصول على أدوات مواجهةٍ مناسبةٍ، يقدر بها ردُّ الاعتبار إلى نفسه ومنافسة الآخرين، ونحن نقبل على انتخابات تشريعية، كان الوقت مناسباً ليستثمر المشروع الإصلاحي هذا الظرف المناسب، ويبني جبهة قوية، لتقديم نفسه بصورة أكثر وضوحاً، ولكن مع إعلان القائمة النهائية للأحزاب والتحالفات التي ستخوض الانتخابات جاءت الأمور مخالفةً للتوقُّعات.
الانتخابات التشريعية القادمةُ وتوازنات المشروع الإصلاحي.
بعد شهر من الآن ستقام الانتخابات التشريعية وفق التقويم الجمهوري للدولة، هذا على الرغم من الشكوك والمخاوف التي نلاحظها من خلال التصريحات الرسمية وغير الرسمية؛ والتي تشير على احتمال تأجيل الانتخابات إلى إشعارٍ آخر، وبما أن الموقف الرسمي للدولة يشير إلى احترام الموعد، فإن الخارطة السياسية النهائية للأحزاب والتحالفات التي سوف تخوض هذه الانتخابات أصبحت واضحةً، وصار معلوماً موقف الأحزاب والحركات السياسية بمختلف توجهاتها ومرجعياتها، ومن حق كل المهتمين بالمشروع الإصلاحي في السنغال؛ الحصول على صورةٍ واضحةٍ حول موقع هذا المشروع في خضمِّ هذه التحالفات.
كان من المستبعد أن نجد أياًّ من الأحزاب المحسوبة على تيار المشروع الإصلاحي الانخراط في أي تحالف مع الحزب الحاكم أو مع أحزاب المعارضة الرئيسية، باعتبار المطالب التي يدعو إليها المشروع الإصلاحي يتعارض مع الإقدام إلى مثل هذا التوجه، إلا إذاكان الأمر من قبيل تكتيكٍ سياسيٍّ لعبور مرحلة معينةٍ، ومع استبعاد هذا التوجه لم يكن أمام هذه الأحزاب إلا ثلاثة خياراتٍ، خيارُ تكوين تحالفٍ مستقلٍّ يجمعهم في جبهةٍ واحدةٍ، أو خيارُ الالتحاق إلى التحالفات الأخرى غير الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة الرئيسية، أو خيار خوض الانتخابات مستقلَّةً دون تحالفٍ.
كان الخيار الأول وارداً ومتصوراً، بل كان مطلباً من القاعدة الشعبية للمشروع الإصلاحي، حيث سيسهل لكل منتمٍ إليها عملية الاختيار، ولا يضعه في حرجٍ أو تشتيتٍ ذهنيٍّ، أو حساباتٍ معقَّدةٍ، إلا أن خيار الأحزاب تأرجح بين الخيار الثاني والثالث، فانضمَّ حزبا (M.R.D.S) و (Pasteef) إلى تحالف (Ndawi askan wi / Alternative du peuple) مع أحزابٍ وحركاتٍ سياسيةٍ أخرى، فيما دخل حزب (U.D.R) قوة الأمل في تحالف (Front National – Baatu askan wi)، بينما قرّر حزب (A.R.D) خوف الانتخابات في قائمةٍ مستقلةٍ مستغنياً الدخول في تحالفٍ مع أيٍّ حزبٍ، هذا ما انتهى إليه ترجيحات الأحزاب، وحتى كتابة هذه السطور لم أُوفَّق في الوصول إلى موقفٍ رسميٍّ صريحٍ من حزب تحالف الوطنيين للعدالة والتضامن (A.P.J.S)، ويلاحظ من أول النظرة انفصامٌ كبيرٌ في داخل التيار الإصلاحي، سيقلِّلُ ذلك حتماً من فرصه، ليصبح قوةً فاعلةً ذات تأثيرٍ قويٍّ في البرلمان القادم.
أول مشكلةٍ ستواجه القاعدة الشعبية لتيار المشروع الإصلاحي في هذا المشهد المربك، هي الترجيح بين الخيارات المتعدِّدة أمامها، وقد يؤدي ذلك في النهاية إلى شعور الفرد بالإحباط أوعدم جدوى صوته الذي قد لا يحدث التغيير الذي يحنو إليه، كما يضع التجمعات الشعبية التي تحمل همّ هذا المشروع في حرجٍ كبيرٍ، ويعرض قراره بأي حالٍ من الأحوال لانعكاسات ستؤثر سلباً في مستقبل المشروع، كان الأولى تجاوز العُقد النفسية والمصالح الفردية والجهوية، ووضع المصلحة العامة للمشروع الإصلاحي فوق كل اعتبارٍ، للحفاظ على شعبية المشروع من التشتُّت والانهيار.
خاتمة:
أن يخطئ أحدٌ في السياسة أمرٌ واردٌ حتماً، فليس السياسي أو الناشط والحركي _ في أيِّ تيارٍ أو حزبٍ كان_ مطلوباً منه من عدم ارتكاب الأخطاء، وإنما المطلوب منه هو أخذ دروسٍ وعبرٍ من الأخطاء وعدم تكرارها، وتقدير المواقف المستقبلية على نحوٍ يَجبر به الأخطاء الماضية، وقد خلُصنا إلى أن المشروع الإصلاحي أكبر وأوسع مما يعتقدُ، والصامتون فيه لاعتباراتٍ كثيرةٍ، سواء في البيوتات الدينية أو الحركات الإسلامية، أو الأحزاب التقليدية، أوفي منظمات المجتمع المدني أو المستقلّين، أوفي بقية شرائح المجتمع أكثر بكثيرٍ من الناشطين فيه، ولذا وجب احتضانه، وتعلية شأنه، في وقتٍ خاب الأمل من النهج الساسي المفروض على الشعب السنغالي منذ ستين سنة دون تحقيق النتائج المرجوة منه، والكل يبحث عن البديل الذي يُرجى أن ينبثق من هذا المشروع الإصلاحي، إذا أحسن توظيفه، ولايوجد الآن مجالٌ لتفويت أيِّ فرصةٍ مناسبة؛ لتصحيح مسار هذا المشروع ولو بعد الخروج من مأزق هذه الانتخابات.
ما شاء الله، مقالة قيمة وشيقة، في غاية الأهمية، بارك الله فيك فضيلة الدكتور…
مقالة قيمة جدا..ذهب بنا إلى عمق البحر ثم أتى بنا إلى الشاطئ حيث نتمكن من الرؤية للأحداث بنظرة غير تعصبية ولا مقولة نجدها بين القيل والقال..جزاك الله أيها الكاتب..زادك الله بسطة في العلم والجسم
ماشاء الله ، وضعت النقاط على الحروف ، بارك الله فيك.
ما شاء الله يا مرشدنا و حبيبنا المحترم لا فض فوك و لا سلمت يدك
مقالة في غاية الأهمية بمكان