عبد القادر عبد الرزاق انجاي
جاءت نتائج المحليات عاصفة هوجاء نسفت في طريقها أحلام النظام في الحفاظ على البلديات التي كان يديرها، والفوز بتلك التي كانت خارجة عن سيطرته، ومن ثم تعزيز قبضته على الحكم؛ لتعكس في مفاجآتها طبيعة الظروف الاستثنائية التي انعقدت فيها.
فبحسب النتائج الأولية حقق تحالف “تحرير الشعب” تقدما كبيرا على حساب تحالف “التجمع من أجل الأمل” الذي يحكم البلاد، وكان يدير أغلب البلديات في عموم أرض الوطن. إذ فاز “تحرير الشعب” في دكار و”تياس” و”طوبى” و”كازمانس” من المدن الكبرى وغيرها من البلديات الصغرى.. ناهيك عما حققه نحالف “إنقاذ الشعب” وباقي تحالفات المعارضة والحركات المحايدة مثل “شراكة الأكفاء” لسرين امبوب من نتائج جيدة في مدن إستراتيجية كـ”كاولاك” و “جوربيل”؛ لتكون الأغلبية من أصوات الناخبين ضد النظام الحاكم وسياساته ورجاله.
لقد أجاب الشعب من خلال هذه الانتخابات على أسئلة كانت تشغل بال المراقبين مثل: ما مدى قدرته على ترجمة ثورته المجيدة في مارس إلى مكاسب سياسية ذات شرعية دستورية؟ وما مدى توازي المسار الثوري بالمسار السياسي؟ وما هو موقف الشعب من ملف المأمورية الثالثة العالقة وإن حسمه الدستور؟ فهل سيمهد الطريق للرئيس إليها؟ أم سيردعه عن التفكير فيها؟ وهل سينزل العقوبة اللازمة على نظام ماكي صال الذي رفض برلمانه مقترح قانون تجريم المثلية” بعد أن تبناه الشعب ودافع عنه؟ أم أن سلوك نواب السلطة الاستفزازي تجاهه سيمر بدون عقاب؟
فلقد برهن الشعب من خلال نتائج المحليات على أن ثورته المجيدة في مارس التي قلمت أظافر النظام لم تكن مجرد حالة استياء عامة عفوية بلا جذور فكرية وآفاق مستقبلية، كما فهم النظام خطأ فلم يستوعب دروسها. بل كانت ثمرة تحولات جذرية على مستوى العقل الجمعي السنغالي صنعها الخطاب السياسي التجديدي الذي حمله الأجيال المتعطشة إلى التغيير في عصر الثورة التواصلية وديمقراطية العلم وحرية الكلمة ونهاية التحكم بالخبر والمعلومة. واستطاعت الثورة أن تعبر عن نفسها في صناديق الاقتراع كما عبرت عن نفسها في الشوارع، وتترجم نفسها إلى مكاسب سياسية.
وأثبت الشعب من خلال المحليات قدرته على النزول في كل الميادين التي يدعوه إليها النظام؛ فهو في استعداد لنزول ميدان الثورة حين ينغلق المسار الديمقراطي والقانوني، كما أنه في استعداد لنزول ميدان السياسة حين تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، ويفرض إرادته في كل الميادين الثورية والسياسية. ويبقى للرئيس وحاشيته شرف اختيار ميدان المعركة.
وأرسل الشعب من خلال المحليات إنذارا قويا لرئيس الجمهورية لكيلا يفكر في السعي إلى الحصول على ولاية ثالثة؛ إذ سيلقى رفضا قاطعا في الشوارع وصناديق الاقتراع. وذلك ختم على مشواره السياسي بأسوإ ختام، وخروج من السلطة مخز عبر مزبلة التاريخ.
إن رفض مقترح قانون تجريم المثلية من برلمان السلطة ألقى بظلاله في المحليات، ولعب دورا هاما في السقوط المدوي للنظام فيها. فلقد كان التصويت بالنسبة لكثير من الناخبين فرصة لا تفوت لتأديب من يعتبرونهم عراب المثليين في بلادنا الذين استفزوهم في عقيدتهم، وضحوا بإرادتهم من أجل إرضاء أهل الشر. وفي هذا درس للساسة يتعلمون احترام شعوبهم والاستماع إليهم وتحقيق مطالبهم بوصفها صاحبة السيادة والسلطة الحقيقية في الاختيار والعزل، وليس اللوبيات التي يحرصون على طمأنتها على حساب شعوبهم. وأن المطالب الأخلاقية للسنغاليين لا تقل أهمية بالنسبة لهم عن مطالبهم السياسية والاجتماعية لما للدين عندهم من أثر بالغ.
ولقد كان تحالف “تحرير الشعب” أبرز معطى مثير للانتباه في هذه المحليات؛ إذ خرج منها منتصرا في مدن وبلديات كبرى منها العاصمة دكار. وهذا يعكس مدى الشعبية المتنامية التي يحظى بها حزب “باستيف” الذي يعتبر أهم تكوين سياسي في هذا التحالف وأسنده بثقله الكبير.
إن الانتخابات المحلية حملت وجوها جديدة شابة إلى الساحة السياسية وأحالت إلى التقاعد بعض المخضرمين من السياسيين الانتهازيين الذين أكلوا على كل الموائد، ريثما يصير النظام نفسه في خبر كان وينتهي صلاحيته، ومن هذه الوجوه السيد سرين امبوب الذي فاز ببلدية كاولاك وكان فوزه مثيرا للانتباه ومصدر افتخار لكثير من السنغاليين وخصوصا لخريجي الدارات القرآنية الذين يحسب عليهم. فالرجل ليس بسياسي، لكنه رجل أعمال أثبت جدارته وأقنع أهل كاولاك بمشروعه، فالتفوا حوله ليهزم أقطاب النظام في كاولاك على الرغم من قدرتهم الدعائية الكبيرة.
وفي طوبى ذات الوضع الخاص سحقت الورقات البيضاء قائمة “تحالف التجمع من أجل الأمل” الحاكم والذي يسمى “قائمة الشيخ” في تعبير لافت من أهل المدينة عن استياءهم من العمدة المفروض عليهم وطريقة إدارته السيئة للبلدية، وهو الذي يستمد الشرعية من “إذن الشيخ” وليس من رضا مواطنيه.
إن الحس الأخلاقي يحتم على العمدة عبد الأحد كاه الاستقالة بعد الإهانة التي لاقاها من الناخبين في طوبى، كما يحتم على القيادة الدينية في طوبى الاستماع إلى أهل المدينة واحترام إرادتهم وأخد معاناتهم ومطالبهم بعين الاعتبار، وتغيير هذا النمط في اختبار عمدة المدينة الذي يرفضه منطق الدين والأخلاق والعدالة. والملاحظ أن المثقفين السنغاليين يفضلون السكوت عن هذه المسخرة في طوبى، وهذا لا ينبغي. فالذي يجري في طوبى قضية عدالة وحكم رشيد وحقوق إنسان ينبغي أن يتصدر النقاشات الجادة الهادفة إلى التغيير والإصلاح.
وفي اتياس كانت المفاجأة الأخرى إذ شهدت تراجعا كبيرا من قصير كجور – الذي دفع ثمن التحاقه بمعسكر السلطة وتنكره لمبادئه وخيانته لكلمته – لصالح مرشحي تحالف “تحرير الشعب” ما ينبئ بخطأ ولا أخلاقية خياراته السياسية حيث ضحى بمستقبله السياسي وسمعته لقاء مناصب سياسية غير مضمونة قد تنزع منه بعد خسارته لقاعدته السياسية وفقدانه لجميع أوراق ضغطه. كما ينم عن تراجع قصير كجور في اتياس عن مدى عزة الشعب التياسي وقوة وعيه إذ أثبت أنه يصوت من أجل قناعات ومبادئ وليس من أجل أشخاص يتبعهم أنى ساروا كالقطيع.
لقد هب نسيم جديد في وطننا ينهي عهد التلاعب بالعقول وبيع الأوهام وشراء الذمم، ويؤذن ببداية النهاية لنظام ماكي صال، ويبشر بعهد سياسي جديد لجيل من الساسة المؤهلين الأكفاء الذين يستوعبون التطورات العقلية والاجتماعية لشعبهم ويعكسون تطلعاته وآماله.
24/01/2021