المثقف السنغالي
بقلم الباحث عمر فال
شاهدتُ ليلة أمس المؤرخة والبحاثة بندا امباو في برنامج تلفازي، استدعيتْ إليه بمناسبة نشأة منتدى “PENCUM WARC”، (يسعى المنتدى –بتعبيرهم- إلى محاولة تحديد برنامج عن التفكير الإستراتيجي المستقل للتأثير على قرارات الساسة). فكان البرنامج التلفازي –بهذه المناسبة- يتكلم عن المثقف ودوره في المجتمع. ويلاحظ المُشاهد على البرنامج مؤاخذات عديدة. كان الحديث في هذا الموضوع عاما. تتلخص أطروحة ضيف البرنامج في أنها تلاحظ اليوم غياب المثقفين في الفضاء العام وفي مناقشة القضايا التي يرجع إليها بقاء الدولة وتطورها. وتذهب إلى أن هذا الواقع يختلف عن المعهود في أرضنا من تراث ثقافي ضخم. حيث عرف السنغال بروزَ أسماء لامعة، مثقفين مشهورين عالميا، تركوا بصمتهم في تاريخ الدولة. وممّا يلفت النظر أيضا، أن الباحثة أشارت إلى أنه ينبغي أن نعيد النظر في طريقة تديّن السنغاليين. هذا، وغيرها من كلام عام يرمي إلى انتقاد التوجه التربوي السنغالي…
أرى أنه كان من الأَولى أن يبدؤوا المناقشة بتعريف مقصودهم من المثقف عموما ومن المثقف السنغالي خصوصا. علَّهم يقصدون بالمثقف المعنى المشهور المتداول، ويعني المتعلم المتوسع في الاطلاع. أي أهل الفكر والثقافة الذين يتحملون التزامات مؤثرة تجاه المجتمع. ولكن أيّ تعلم؟ أي اطلاع؟ أي فكر؟ وأي ثقافة؟ الغربية؟ العربية؟ أم كلتيهما؟ وعلى أي، نفهم دائما عند تناول هذا الموضوع في المناقشات العامة أن لفظ المثقف يوحي عند إطلاقه إلى المتخرجين من النظام الدراسي الغربي، سواء درسوا في البلد أو حملوا شهادات جامعية في الخارج. وعند الرجوع إلى الورقة التعريفية لهذا المنتدى مثلا، نلاحظ أنهم ذكروا عددا كبيرا من المثقفين السنغاليين استئناساً بهم، انطلاقا من يُورو جو وانتهاء إلى المعاصرين. يُقارب عدد المذكورين أربعين مثقفا، ولا نجد منهم إلا مستعربا واحدا، وهو الشيخ موسى كمرا. وكأنْ لا مثقفَ غيره من المستعربين. كما أن البدء في التِعداد من المؤرخ يورو جو أيضا ملفت للنظر؛ فقد كتب مثقفون سنغاليون قبله باللغة العربية. وعلى كل حال، حَصْر مفهوم المثقف على المعنى السالف الذكر خطأ معرفي لا غير. ولكن لنفترض أن هؤلاء هم الذين يمثلون الطبقة المثقفة السنغالية، ولنتحدث عن دورهم وإنجازاتهم منذ ضحى التاريخ. فما ذا جلبوا للمجتمع؟
فقد تخرج جمّ غفير من أبناء البلد في النظام الدراسي الفرنسي، حاملين شهادات جامعية عالية في مختلف الفنون وعلى سير مستمر منذ أمد بعيد. تحصَّل بعضهم على شهادة الدكتوراه في القانون قبل استقلال الدولة من مستعمرها، مثل الدكتور لمن غي. وهؤلاء المثقفون هم الذين حلّوا محل المستعمر بعد مغادرته. أو على الأصح، هم الذين نصبهم المستعمر قادَةً للدولة، بعد أن نجح في زحزحة جميع القيادات الأخرى الدينية منها والتقليدية عن مجال الحلّ والعقد. فعاهدهم المستعمرُ على أن يتخذوا الغرب الأبَ الروحي في سياساتهم العمومية. فقادوا سفينتنا خلال أكثر من سِتّين سنة نحو شاطئ الأخطار، بشاهد العيان. فماذا حققوا من تنمية مستدامة ومن تربية وطنية تشارك في رفع مستوى الوعي العام أو في رفع مستوى الدخل المتوسط؟
على الرغم من أن تراب الوطن من أخصب الترب معدنا وزراعة ووَساعةً، فلم نزل نعاني معانات لا حدود لها من نواحي كثيرة، حتّى في أساسيات التنمية والتربية. فلم يكد مثقفونا إلى الآن يجيدون لقومهم مشروعا اجتماعيا متفقا عليه يقود البلد نحو الازدهار. يذهب الاقتصادي أحمد بمب جانج المشهود له بالبراعة في الفنّ، مقارناً حالتَنا الاقتصادية مع تلك التي كانت فيها الدولة زمن الاستقلال، إلى أنه لو وُزّعت الميزانيةُ الوطنية على المواطنين فردا فردا في زمن الاستقلال لحصل كل فرد منهم على 1400 فرنك سيفا. ولو وزعناها اليوم عليهم لكان فرضُ كل واحد منهم 1500 فرنك سيفا. مما يدل على أننا لم نزل في نقطة الانطلاق، ولم نحقق أي تقدم يستحق الذكر. وقد صار البحر الأبيض المتوسط مَقبرا لأبنائنا الذين يرغبون في مغادرة البلد ولا يجدون طريقا سواها. هذا البلد الذي ولدوا وترعرعوا فيه وأحبوه بأعماق قلوبهم، بلا شك. إلا أن الفقر المدقع يلجئهم إلى المغادرة، فلم يعودوا يتحملون معاناتهم المادية. أين مثقفونا الذين كانوا وما زالوا يمسكون زمام الأمور منذ ستين سنة؟ وهل يحق لنا أن نتحدث عن دور المثقف في المجتمع بعد هذا التشخيص الحزين المُبكي؟
أما المستعرب السنغالي فهو مثقف بثقافة غير الثقافة الرسمية لوطنه. لقد أشرت سابقا إلى أن الأصل في معنى لفظ “المثقف” هو المتعلم الواسع الاطلاع. وزاد بعضهم من شروطه أن يلتزم بواجبات تجاه مجتمعه أو أن يكون صاحب رسالة. (ولسنا في حاجة للرجوع إلى أصلها اللغوي من كلام العرب القديم أو إلى كون معناه الحديث مولدا).
إذا وقفنا على الشطر الأول من التعريف وحاولنا تنزيله على المستعرب السنغالي نجد أن التعريف ينطبق عليه بدون زيادة ولا نقصان. إن كثيرا من المستعربين اليوم أكاديميون وجامعيون؛ يحملون شهادات راقية في مختلف التخصصات. وهم من أوسع الناس اطلاعا؛ يدرسون من الكتب ويحفظون من صفحاتها ما يجهل غيرُهم بقصة وجودها. ويتجشمون من عناء القراءة ما لا يخطر في بال غيرهم. إلا أن عند إطلاق لفظ المثقف في الوطن لا تنصرف الأذهان إلى المستعرب، وقد كان يعتبر إلى وقت قريب أمّيا في رقعة بلده. ذلك لأن اطلاعه الواسع مُولًّى نحو وِجهة معينة. ولا ضير. “فلكل وجهة هو مولّيها”.
يطلع المستعربون على الثقافة الإسلامية العربية ويعرفون فيها ما لا يعرفون في غيرها من الثقافات والتخصصات العلمية. والتوجه إلى تخصص أو إلى ثقافة علمية بِلُغَةٍ معينة هو الأصل والغالب في التحصيل. فلا يسع لأحد أن يطلع على كل شيء؛ فالعلم بحر لا ساحل له، فلا يملك أحد أن يغوص إلى جميع كنوزه. فلا بد من اختيار ولا بد من توجه معيّن. وقد شاء القدر أن يتجه المستعرب إلى الدراسات الإسلامية أو العربية، أن يدرس دينه ويتقنه وينشره لِقصة أقدم من وجوده. إلا أن الدولة التي ينتمي إليها قد ارتأت أن تختار لمواطنيها لغة وثقافة وتربية تخالف اختياره الشخصي أو الجماعي المبني على أسس ركينة. فالمستعرب السنغالي مثقف بمعنى الكلمة ولكن بثقافة غير الثقافة المختارة السائدة في دولته.
وكذلك إذا انتقلنا إلى الشطر الثاني من التعريف أي “أن يكون صاحب رسالة”، نجدهم أصحاب رسالة سماوية، يسعون جهدهم لتحقيقها في الواقع السنغالي بمردودية ضئيلة مَرثية وبعزائم ثابتة ماضية. إنهم يحملون أجمل رسالة ويتحملون مسؤولية نشرها بين أوساط قومهم. فهم أئمة المساجد وفرسان منابرها، أصحاب المعاهد القرآنية والمدارس العربية الفرنسية، كما تعرفهم الليلُ والقرطاس والقلم. إلا أنه ليس لعَملهم دولةٌ ترعاه ولا إعلام يُظهره ولا جمهور كبير يُجلّه ويصفق عليه.
حاولتُ التفريق فيما سبق بين المثقف السنغالي المتفرنس والمثقف السنغالي المستعرب. ونظرا لكون النزاع لا يصبّ في صحة تَثَقُف الأول، فقد ارتأيت أن أوجه قلمي إلى الدور الذي كان من المفروض أن يقوم به في تاريخ الدولة. أما الثاني، فلم أعْدُ أن أُثبت كونه مثقفا. لم أتكلم عن دوره على صعيد الوطن لأن ليس بين يديه زمام الأمور؛ فلا يُنفخ في رماد ولا يُنقش إلا بعد إثبات العرش. وقد يقول القارئ، بعد هذا الحجاج، ما ذا تقول عن المستعرب الجامع بين الثقافتين؟
صحيح أنه لا تخلو الساحة من مستعرب جامع بين الثقافتين، ولا نزاع في أن المستعربين السنغاليين أصناف: منهم من اكتفى بتعلم اللغة العربية وعلومها. ومنهم من تعلم، علاوةً على ذلك، اللغةَ الفرنسية ويحوي فيها مستوى متوسطا. وهذا الصنف هو الأكثر انتشارا. ويوجد صنف آخر يتعلم الثقافتين على حدّ السواء، وهذا الصنف قليل نسبيا. وهؤلاء أيضا أصناف، بعضهم درسوا الفرنسية وهم صغار قبل أن يتحولوا إلى مستعربين. وبعضهم حسّنوا مستواهم الفرنسي بعد التخرج من الثانوية. ويتميز هذا الصنف الأخير بفارق آخر وهو أن أغلبهم يميلون إلى الفرنسية وثقافتها، بحدّ يُوشك أن يجعلهم متفرنسين أقحاح. والنقطة المهمة التي ينبغي تسليط الضوء عليها هي أن الدراسات الإسلامية أو العربية مادة علمية كبيرة، تستغرق دراستها وإتقانها أعواما عديدة وجهدا بليغا تكاد تمنع دارسها الإلمامَ بثقافة غيرها. وبعبارة أخرى، أن يكون الشخص مستعربا بمعنى الكلمة (بإلمام مادتها العلمية) ومتفرنسا بمعنى الكلمة، من النوادر التي لا حكم لها، والاستثناءات التي لا تخلو قاعدةٌ منها. فلم يعد ذلك القرار الذي أشرنا إليه سابقا سارياً على جميع المستعربين السنغاليين وصالحَ التطبيق على كلهم.
ماشاء الله تبارك الله
المثقف الحقيقي هو الذي ينتفع بما لديه من علم وينفع به مجتمعه من جوانب شتى دينيا وخلقيا وعقليا وساسيا واقتصاديا. وهذه الصفة لا تكاد تراها في من يدعى بالمثقف الحامل بصمة الغرب إلا قليلا منهم، ولكن تجدها في كثيرا ممن تعمقوا في الثقافة الإسلامية والعربية_ وليس الخبر كالعيان_.
مقالتك ثرية جدا وفيها من الحقائق ما لا يمكن جحدها إلا الأعمى.
هائل???
أسعد الله أوقاتكم بكل خير وسعاده….