الفتاوى المعاصرة تأصيلا وتنزيلا (الجزء الثاني)

الشيخ مود بدر جوب (*)

 

 

الحجية والأهمية والخطر:

يمكن بدايةً إثبات حجية الفتوى من خلال قراءة بعض الآيات التي بها يأمرنا الله على القيام ” بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” قال تعالى: « كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهن عن المنكر وتؤمنون بالله»[ 110 آل عمران] وقوله تعالى: « وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» 122 [ التوبة].

دلالة هذه الآيات بصريح عبارتها تعني وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا المقصد الذي من مقاصد القرآن الكريم العليا، لكن بطرق معينة التي لا تخل  بالفائدة أو لا تؤدي إلى أكبر الضررين أو أثقل المفسدتين، وكذلك آيات أخرى كثيرة وأحاديث.

نستقري بعضا من الأحاديث المحذِّرة من التصدّر للفتيا من غير التأهيل. منها قوله – صلى الله عليه وسلم:

  • أ‌- أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار([1]).
  • ب‌- من أفتا بفتيا من غير تثبت فإنما إثمها على من أفتاه([2]).
  • ت‌- من أفتا الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون([3]).

والإفتاء لا تستغنى عنها فإنها مقصد ضروري في حياة الأمة الإسلامية «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» [ 43 النحل].

ولقد أجاد ابن القيم في بيانه أهمية المفتين وحاجة الناس إليهم حينما قال: “فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم عليهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء، بنص الكتاب، قال تعالى: « ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا»[ 59 النساء ([4]).

آليات الفتوى المعتبرة:

أستهل هذا العنوان بقول المقرّي في المعيار المعرب: «إياك ومفهومات المدونة (يعني مدونة سحنون) فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب و السنة، فما ظنك بكلام الناس(…) ولا تفت إلا بالنص إلا أن تكون عارفا بوجوه التعليل، بصيرا بمعرفة الأشباه و النظائر، حاذقا في بعض أصول الدين وفروعه؛ إما مطلقا أو على مذهب إمام من القدوة، ولا يغرنك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء، واحفظ الحديث تقوَ حجتك، والآثار يصلح رأيك، والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، واشفع المنقول بالمعقول ولا يستفزنك من يقول إن تلك العلوم لم تكن في السلف، فإن العرب أغنى الناس عن العربية، وأصحاب النفوس القدسية مستغنون عن بعض العلوم العقلية»([5]).

والتعليل لا يتحقق إلا بعد عمليات التشخيص للقضية، تُعَلِّل على صحة ما توصلت إليها من نتائج بعدها، وغالبا ما تكون من طرق كثيرة عبر تخريج مناط القضية؛ ومن تنقيحها وتحقيقها، وهو ما يصطلح عليه العلماء بمسالك العلة في مبحث القياس.

          والمسالك كثيرة لتحقيق المناطات؛ منها على سبيل المثال: مراعاة أساس العرف، وخاصة في واقعنا المعاصر، فإن كثيرا من القضايا لها ارتباط وثيق بالمجتمع، وعليه، يستلزم على المفتي أن يحقق المناط فيه. ويمكن له كذلك أن يستعين بأساس مراعاة الخلاف الذي أنجع سبيل وأنصب طريق لتفادي التعصب المذهبي الذي آثاره قصمت ظهر الأمة وأثقل كاهلها.

أيضا يستحسن أن ينظر إلى مصالح الأمة والأشخاص في فتواه، مع مراعاة مقاصد الشريعة الجزئية والكلية، الأسباب والغايات، ويعلمَ أن تعليله على مقتضى حُكمه قد يسوق الجاني أو السائل إلى قبول الحكم، علما أن الأحكام لا تسرد هكذا جزافة عارية عن الحِكم والعلل. وحتى الأحكام التعبدية فغايتها صلاح العبد واستقامته.

كيف نحقق المناط والمقاصد؟

تحقيق المناط:

للإجابة عن السؤال نؤَصِّله بسيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم-: حيث كان يفتي في مجلس بأمر ثم يعدل عنه في مجلس آخر لواقع تغير، أي يفتي في تجوز أكل الصيد ولو مضى عليه ثلاثا، وبالتحريم في موقف لواقع مختلف، الأول فقير والثاني ميسور، فحكم الرسول كلا على ما يقتضيه حاله الاجتماعي.

« ومما يندرج في نطاق الحكم بالكليّ على الجزئي، ما هو معروف من سيرة الخلفاء –رضي الله عنهم- من العدول عن بعض الظواهر الجزئية لواقع تجدد أو مصلحة برزت»([6]).

يظهر ذلك في موقف الصديق مع مانعي الزكاة، والفاروق في حكم السرقة والزيادة في حدّ شرب الخمر وعلق سهم المؤلفة قلوبهم، وذي النورين في إكمال الصلاة أربعا في الحج، وكان النبي والخليفتان الأولان يقصرون، والإمام عليّ – كرم الله وجهه- القائل:” لا يقتص من القاتل حتى يجتمع المسلمون على إمام.

هذا تعطيلٌ على مقولة ” لا اجتهاد مع ورود النص”، ودليلٌ أيضا على « أن اجتهادهم قد يكون في مقابل نص بناء على واقع متجدد…»([7]).

يقول بعض العلماء:

1 – الجمود على النصوص أبدا ضلال وإضلال. القرافي.

2- العالم الرباني هو الذي ينظر في كل حالة ليقدم الحكم المناسب. الشاطبي.

3 – إن المفتي الذي يطلق  حكما واحدا في كل حالة هو مثل طبيب له دواء واحد كلما جاء مريض أعطاه إياه، بل هذا المفتي أضر! ابن القيم.

فتعريف المناط والتحقيق معروف، لكن العلماء طرحوا سؤال ” كيف نحقق المناط؟ ومن الذي ولماذا يحققه؟ السؤال الأول بحث عن الوسائل، وفي الثاني تطبيق الوسائل.

لكي نحقق علة الحكم في الفرع يجب أن نعرف الوجه المتفق عليه بين الأصل والفرع. كيفَ نعرف ذلك؟ فالطرق المؤدية إليه كثيرة يجتهد فيها المفتي لإثبات حكم معين. منها على سبيل المثال والمجمل: مراعاة أسس شرعية مهمة: العرف الذي يعتبره القرافي من أهم معايير معرفة الواقع؛ قولا وعملا. مراعاة خلاف الفقهاء الذي عنصر مهم للتفادي عن نزعة العنصرية والتعصب المذهبي، علما أن من أكبر مشاكل الأمة« النهائية التي ادّعتها مذاهب فقهية ومدارس فكرية وربط الالتزام الديني بها. وتحوّل اضطهاد المذاهب بعضها لبعض إلى مصدر للعداوة والبغضاء…. فرآى كل مذهب أنّه التجسيد العملي للنص…بهذه الطريقة رفضت معظم المدارس الفكرية رؤى الآخرين وعدّت مدارسها السلطة الأساسية في الأمور الدينية…»([8])، ومنها الاستصلاح وفقه المآلات …لذلك يقول الناظم:

أخَفُّ مكروهيْن أو حظْريْن *** إن لم يكن بُدٌّ كفي الضّريْن

قدّمْ…………………***……………………

وتحقيق المناط نوع من استفراغ الجهد والوسع في البحث عن الحكم، لذلك أصبح تحقيق المناط مبدأ شاملا واجتهادا كاملا» وله صورتان([9]):

الصورة الأولى: تطبيق القاعدة العامة في آحاد صورها، وحينئذ يكون تحقيق المناط بعيدا عن القياس كل البعد. والثاني: إثبات علة متفق عليها في الأصل في الفرع لإلحاق الفرع بها، وهذا ما أشار إليه صاحب مراقي السعود:

تحقيق علة عليْها ائُتُلِفا *** في الفرع تحقيقُ مناط أُلِفا

وعلى الأخير اهتمامُ أكثر الأصوليين. والعلة تعرف بمسالك كثيرة راجعْها في باب القياس من أي كتاب أصولي. مثاله: «تطبيق النص الذي ورد في صيغة كلية مشكك في أحد أفراده، فيكون تعيين الفرد تحقيقا للمناط»([10]).

والواقع، أن كثيرا من الفتاوى تنعدم هذا الاجتهاد الذي«نظرٌ في طبيعة التكليف، وأحوال مكلفين مجتمعا وأفرادا، فيكون في الذوات والصفات والمعاني…إنه حكم على الأفعال وعلى الأشياء، وهو المبرهن على ديمومة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان»([11])، فأفتوا الناس ناسين أو متناسين عن هذا الأساس الشرعي في تنزيل الأحكام، فأفضى بنا إلى فتوى شاذة ترتبت عليها تبِعات جرت مفاسد لا تعدّ ولا تحصى، وخاصة فتاوى القنوات والفضائيات؛ المباشرة أو غير المباشرة كما هو الحال في المنتديات وبعض المواقع، والفتاوى الصادرة عن علماء البلاط!

ليست الفتوى مجرد إخبار الحكم فحسب، بل عملية تشترك فيها عناصر عدة، يضعها المفتي في حسبانه لإصدار حكم قريب من مراد الله، ومناسب لطبيعة الشخص وتقواه. أما منهج الإسقاط فمن أبشع الأشياء في البحث والإفتاء. فكيف نسقط أحكاما في قرون مضت على مجتمع وأفراد عاشوا في سياق معين له مؤثراته، على قوم يعيشون في سياق مغاير تماما وفي ظروف مستجدة غير التي كانت في تلك القرون؟؟ أَوَ ليس الزمان والمكان لهما جدل مع الأحكام وتأثير فيها؟

من الذي يحقق المناط؟

القضايا المعاصرة كثيرة ومتنوعة، والسبب في ذلك هو أن العالم الإسلامي في واجهة تحديات كبيرة جدا جدا منها الحداثة الغربية التي دائما ظلت تستفز الشربعة الإسلامية، والتكنولوجيا المتطورة والنفوذ العولمي الذي رغما عنا فإنه في عقر ديورنا ولا يمكن سده.

فالذي يحقق المناط في القضايا المعاصرة قد لا يكون هو الفقيه أو المفتي إن لم يكونا من أهل هذا التخصص مجال الفتوى. وعليهم« الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع القضية واستفسارهم، والتأكد منهم عن جميع المعلومات المتعلقة بالقضية، وطلب رأيهم وتوضحهم لأي غموض أو إشكال يعترض المفتي في فهم تلك القضية وما يحيط بها من ملابسات؛ عملاً بقوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل]‏، فإذا كانت القضية تتعلق بعلم الاقتصاد، فينبغي الرجوع إلى أهل الاختصاص فيه، وهكذا»([12]).

و من الطامات الكبرى إصدار حكم التكفير على قوم بمجرد أنهم عصوا أو لم يطبقوا الشريعة أو الحدود أو يعيشون في أرض الكفار، أو أنهم يعايشونهم، أو أن قوانين الدولة(الدستور) غير شرعية!!!

الفتاوى المعاصرة وفقه الواقع:

إن لكل عصر مشكلاته وواقعه وحاجاته المتجددة، وفي عصرنا وجد الكثير من المستجدات والأحداث والوقائع التي لم يكن لها وجود في زمن السابقين ولم يكونوا يعرفونها؛ مما يستدعي علاج هذه المستجدات باجتهادات وفتاوى تبين حكم الله في ذلك، وهذا أمر ضروري لحياتنا الإسلامية، وعلاج لمشكلاتنا المعاصرة، وإلا أصيبت حياتنا بالجمود، وربما بحث البعض عن حلول غير إسلامية مما يجعل حياتنا تبعد عن الإسلام.

‏          وإزاء هذه المستجدات ربما اكتفى البعض بالبحث في الكتب القديمة ليتلمس لها نظيراً قديماً؛ ليخرج على وفقه، ويكيف على أساسه، فإن لم يجد رفض المسألة كلياً، أو ربما سارع أمام هذه المستجدات إلى أسهل الطرق وهو الرفض والتحريم والتشديد([13])، وربما حاول البعض تحت دعوى الضرورة أو المصلحة فتح الباب في هذه المسائل على مصراعيه بجواز تلك المسائل دون اعتبار أو مسوغ شرعي، والحقيقة أن هذه الأساليب لا تصلح لمواجهة المستجدات، وأنه، لا بد من بذل الجهد والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من أصولها على وفق الملابسات والمتغيرات، من خلال دراسة متأنية ‏ودقيقه([14]).

الواقع هنا هو:

يرى علماء الأصول أن الواقع أن الواقع هو « الإنسان فردا ومجتمعا…والواقعة النازلة… والواقع أيضا هو الوجود الخارجي الحقيقي الذي قد يطابق الوجودات الثلاثة: الذهنية واللسانية والكتابية، وقد لا يطابقها…»([15]). وإن « فهم الواقع هو الوسيلة لتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع، باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو وجود الواقع، أو الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة»([16]).

والواقع عند صديق حسن خان هو« ما عليه الشيء بنفسه في ظرفه، مع قطع النظر عن إدراك المدركين، وتعبير المعبرين»([17]).

وهذا الواقع كما يقول الأستاذ عبد الناصر أقسو مصاحب للنص وأنه داخل فيه، فإنه يرافقه في كل أحوال وفي كل زمان ولا ينفك عنه على الإطلاق([18]).

وفهم الواقع والفقه فيه «عند المجتهد في النص الشرعي استنباطا وتنزيلا ليس محصورا على معرفة حادثة أو نازلة معزولة لإعطائها حكما شرعيا، وإنما هو عمل اجتهادي يبحث في معارف متعددة مرتبطة بتفسير الحوادث وبيان عوامل ظهورها وأبعاد آثارها، وذلك من حيث إن فقه الوحي الإلهي في كليته ملازم لفقه الواقع…»([19]).

فالواقع له قواعد كثيرة منها:

تحقيق المناط، ومراعاة مقاصد الشريعة، مراعاة المآلات، وخاصة في قضية التكفير، الذي تدميرٌ كلي على الإطلاق للإنسان وما يمت بالصلة له؛ من دمه، وماله، وزواجه، وغير ذلك، وسد الذرائع بصفة عامة، وقاعدة الحيل، ومراعاة الخلاف، الاستحسان، وقاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد…الخ([20]).

من الفتاوى المعاصرة ” فتوى التكفير” :

فحد الكفر عند الإمام الغزالي هو« تكذيب الرسول – صلى الله علي وسلم- في شيء مما جاء به، والإيمان هو تصديقه في جميع ما جاء به»([21]).

فلا يمكن الحديث عن التكفير من دون أن نؤصّل لهذه الفكرة في تاريخ الفكر الإسلامي. إذ ظهر في ثقافة الإسلام منذ ظهور فرقة الخوارج، الذين حكموا على سيدنا علي – كرم الله وجهه- ومعاوية بالكفر.

فالخوارج من أوائل الفرق الإسلامية التي مارست الغلو الفكري في الفكر الإسلامي منذ فجر الإسلام؛« وفي وضع هذا الفكر المغالي في الممارسة التطبيق…فمنذ التحكيم في الصراع بين الراشد الرابع وبين معاوية عقب معركة ” صفين” [حيث] هتف الخوارج في معسكر عليّ” لا حكم إلا لله” مكفرين الذين ارتضوا التحكيم»، نتجرع خشونة ما اصطلح عليه بعض المتأخرين بالتكفير.

وقد حذر أيضا الرسول –صلى الله عليه وسلم- منه ووعد من يتعاطونه. « من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله» لذلك تحفظ كثير من العلماء القدامى في هذه القضية لما يستلزمها من العواقب؛ على الفرد وعلى أسرته… فاختلفوا «في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق، إلا أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد جذر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال جلال الدين السبكي:” ما دام الإنسان يتقد شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتكفيره صعب»([22]).

لقد حل الإمام الغزالي ما تبادلته الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية والطرق والطوائف الإسلامية من تبادل التهم وتكفير بعضهم بعضا فقال: «هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المنصرحين بالتوحيد خطأ»([23]).

يقول الطحاوي:« لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها؛ إذا الإسلام الثابت لا يزول بالشك، مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة الإسلام المكره»([24]).

وفي الفتاوى الصغرى:« الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر»([25]) يقول ابن تيمية:« فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع»([26]).

وعليه، يقول الغزالي:« واكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع الهوى دون النظر للدين… ودليل المنع من تكفيرهم أن الثابت عندنا بالنص تكفير المُكذِّب للرسول، وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلا، ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلابد من دليل عليه، وثبت أن العصمة مستفادة من قوله لا إله إلا الله قطعا، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع..»([27]).

والإفتاء عملية تتوقف على التفكير العميق في النازلة أو الواقع، لذلك « لابد من التفكير في مشكلة التكفير، إن أهم قضية يجب أن يتداول حولها العلماء والمفكرين هي مسألة التكفير المتبادل؛ لأنه مفتاح كل شرور. وماتفشي فتوى التكفير في مجتمع إلا ويتلاشى، وجدران بنيته سيتداعى وينهار»([28]). وعدّ من ضوابط الفتوى التيسير ومراعاة التطور العلمي والمجتمعي، والتسامح في عدم التشدد والإحراج، ومراعاة ظروف الأقليات التي تعيش في كنف الكفار، أو الأقليات الكافرة التي تعيش في كنف المسلمين، تطبيقا لمنهج الرسول في تعامله مع أهل الذمة، بل يستحسن الإحسان إليهم لكي يسمعوا كلمة الله، وتأمينهم وتضمين حقوقهم بدل تعنيفهم أو إحراجهم ما لم يؤذوا المسلمين ويضروا بهم.

حتما إن أي إخلال عن منهج الأصوليين في الفتوى أو التجزيء، قد يؤدي إلى نتائج كارثية كما هو الحال في واقعنا المعاصر حيث الكثير من المفتين لا يراعون أي ضابط تقريبا من ضوابط الفتوى وشروطها وإنما يكفيهم أن جاءهم سائل حائر فيمطرون عليه وابلا من المشقات والشدائد التي تجعله يرى في الدين الإسلامي ضنكا وضيقا على معتنقيه، وأنه لا يحنق حريتهم في العيش وما يشبه لك في المعنى.

والفتوى فاعلة مهمة في إثبات استقرار المجتمعات المسلمة، إذا أحسِن التعامل فيها، وأنها أيضا يمكن أن تكون مصدر تطرف واضطراب إذا أسيئ التعامل معها، بل تكون مصدر عنت وتعب وصدّ الآخرين عن الدخول في الإسلام، فيكون المفتي في ذلك الوقت منفرا بدل من أن يكون مبشرا، معسرا في مقابل ميسر. والدين يسر، لا يريد الله بكم العسر. فهل يعي حقيقة هؤلاء الشواذ ما يترتب على فتوى استباحة دم المسلم؟

المصادر والمراجع:

(*) باحث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال- المغرب العربي في قسم الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الثقافة الإسلامية

  1. إثارات تجديدية في حقل الأصول، عبد الله بن بيه، ص 100
  2. ضوابط الفتوى في القضايا المعاصرة، عبد المجيد محمد السوسَوه، ص 1
  3. القاموس المحيط/ للفيروز أبادي ج4/ص375.
  4. لسان العرب/ لابن منظور ج15/ص148.
  5. معجم مقاييس اللغة/لابن فارس ج4/ص473.
  6. تاج العروس/للزبيدي ج10/ص275.
  7. الفيتا ومناهج الإفتاء محمد سليمان الأشقر/ هامش ص8.
  8. قواعد في الواقع وأثرها في فقه الفتوى، عبد الرحمن العضراوي، مجلة الأنوار، المجلس العلمي بني ملال، العدد الرابع، التاريخ 2015، ص 17
  9. تقدّم تخريجه في مقدمة هذا البحث.
  10. الذخيرة/ لشهاب الدين القرافي تحقيق محمد بو خبزه بيروت: دار الغرب الإسلامي ط1 1944 ج10 ص121.
  11. التعريفات للجرجاني/ تحقيق إبراهيم الأبياري بيروت دار الكتاب العربي ط1 1405هـ ص49.
  12. حاشية العلامة البناني على جمع الجوامع بشرح المحلّي، طبعة الحلبي، بدون تاريخ ج2 ص401، فقرة 397.
  13. شرح منتهى الإرادات/ للبهوتي، طبعة دار الفكر، بيروت ج3 ص56.
  14. انظر إعلام الموقعين/ للإمام ابن القيم، بعناية طه عبد الرؤوف سعد، طبعة دار ‏الجيل، بيروت 1973م 4/196.
  15. البرهان في أصول الفقه، الإمام الجويني، تحقيق عبد العظيم الديب، دار الوفاء، الكبعة الثالثة، 1992، المجلد الثاني، ص 870
  16. التجديد الأصولي، مجموعة من المؤلفين، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، الولايات المتحدة، 2015، ص 761
  17. نفس المرجع، ص 767
  18. البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، تحرير عبد القادر عبد الله العاني، من منشورات وزارة الأوقاف بالكويت، الطبعة الثانية، 1992، المجلد الست، ص 306
  19. الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، عبد الله دراز، دار المعرفة – بيروت، (دون تاريخ)، المجلد الرابع، ص 262
  20. بن بيه، الكلمة التأطيرية للملتقى الأول، أبو ظبي، 09-10 مارس، 2014، ص 88
  21. المستصفى في أصول الفقه، الجزء الرابع، ص 151
  22. مسند الدارمي ( المقدمة / باب الفتيا وما فيها من الشدة / الحديث رقم:157 )
  23. نفس المصدر.
  24. رواه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، ص 433
  25. إعلام الموقعين 1/10
  26. المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، أبو العباس الونشريسي، المحقق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، 1981 المجلد 12، ص 342
  27. تنبيه المراجع في تأصيل فقه الواقع، عند الله بن بيه،الموطأ للنشر، الطبعة الثانية، 2016، ص78
  28. نفس المرجع، ص 76
  29. الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر، صالح زهر الدين، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت – لبنان، 2012، ص13
  30. نفس المرجع، ص 90
  31. نفس المرجع، 94
  32. نفس المرجع، ص 90
  33. ولا يجوز الجمود على المنقول من الفتاوي القديمة؛ لأنه يوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. انظر ابن القيم: إعلام الموقعين 3/1، 78.
  34. نفس المرجع، ص 51
  35. تنبيه المراجع في تأصيل فقه الواقع، ص 42
  36. نفس المرجع، ص 41
  37. نفس المرجع، ص 51
  38. أبجدية العلوم، صديق حسن خان، التحقيق عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، 1978، المجلد الأول، ص 413/  التأصيل الشرعي لمفهوم فقه الواقع، ص 164 لسعيد بن محمد بيهي
  39. الفكرة من الأستاذ والصياغة من الكاتب
  40. مجلة أنوار، ص 21
  41. نفس المرجع، ص 31 وما بعدها
  42. فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، الإمام الغزالي، التحقيق محمود بيجو، (بدون دار للنشر) الطبعة الأولى، 1993، ص 25
  43. مقالات الغلو الديني واللاديني، محمد عمارة، دار السلام، الطبعة اللأولى، 2012، ص 16
  44. نفس المرجع، ص
  45. مقالة ” المرجعية الفكرية للتنظيمات الإسلامية المتطرفة” غيضان السيد علي، مؤمنون بلا حدود، 27 أكتوبر 2017بتاريخ 2018/ 03/ 05 الساعة 18:41
  46. نفس المرجع
  47. الملتقى الأول لمنتدى تعزيز السلم، ص 81
  48. نفس المرجع، ص 82
  49. الاقتصاد في الاعتقاد، أبو حامد الغزالي، تحقيق عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، 2004، ص 135
  50. الموسوعة الفقهية، ج12، ص 191
  51. نفس المرجع
  52. مجموعة الفتاوى، ج/ 7، ص 685
  53. فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 3 وما بعدها
  54. الملتقى الأول لمنتدى تعزيز السلم، ص 84

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.