الطرح السياسي لــ “سونكو”…الفحوى والتحدي
محمد بشير جوب
من المألوف في المشهد السياسي السنغالي وجود ظواهر عارضة؛ يكون الفاعل الأساسي فيها شخصيات تتوحد أحيانا في الطموحات، ولكنها تختلف في المناهل، إلاّ أن النهايات المحتومة لهذه الظواهر تكاد تكون واحدة، فتروح غاياتها المرسومة أدراج الرياح، وتستمر الحلقة المعهودة ذاتُها تتكرر كالرحى تدور حول نفسها. إنه سنة الحياة السياسية في السنغال منذ انفتاق بذرتها، يتعدَّد فيها العازفون وتُبدَّل الأوتار؛ بينما النغم يبقى واحدا لا يتغير، وصيحات التغيير تتْرى لاستئصال جذور الدولة العميقة وفلولها؛ من الصقور السياسيين والعسكرين والمتستِّرين وراء الطابور الخامس. أولئك الذين جثموا على متن الطريق لاغتيال كلّ حلم نحو المستقبل. ففي هذه المرة كأن الرياح جرت حيث تستهيها السفينة؛ فتمخضت من القدر شخصيةٌ جديدةٌ، شقت طريقها بنفسها من خلال طرحٍ مختلفٍ، استجمعت قواها من مخاض الماضي وأنَّات الحاضر؛ وتحاول رسم تباشير الجذل للمستقبل.
ظهور الزعيم السياسي “عثمان سونكو” في الساحة السياسية السنغالية، وفي هذا السياق المتفلِّت، يدعو الذهن إلى استحضار المزاج السياسي السنغالي وتقلباته منذ نشوء الدولة عشية الاستقلال، لنتمكن من فرز هذه الشخصية وفكِّ شفراتها ولَمْلَمة ملامحها؛ للوصول إلى تحديد موقعها ومكانتها ومستقبلها في المشهد السياسي السنغالي. ويساعدنا في ذلك، الإجابة عن الأسئلة المحورية الآتية:
هل “سونكو” شخصية متكررة أم ظاهرة عابرة؟ وكيف يمكن تفسير العلاقة الازدواجية بين الشخصية والظاهرة في أطروحات سونكو؟ وإلى أي مدى يستطيع هذا الطرح الصمود أمام التحديات المتزاحمة؟
سونكو.. شخصية أم ظاهرة؟
أول سؤال حضر لي وأنا أحاول تفكيك هذا الاسم وسبرَ مركباته هو سؤال الهوية، لست أعني بالهوية هنا هوية الشخص؛ ولكن أقصد هوية الشخصية المقترنة بالظاهرة. فالشخص ذاتٌ يقترن بطبيعة النوع وبعض الخواص العرضية اللازمة وغير اللازمة، فيكفي فيه الوجود العيني، أما الشخصية فيطغى في شأنها البعد الخارجي الذي يكونها؛ بجانب العامل الفطري والزمني الذي يعطيها البعد التاريخي، حتى تتحدد معالمها في لحظة معينة وبعوامل محدودة. فالشخصية جملة من الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والعقلية التي تحدد هوية الفرد وتميزه عن غيره، وهذا الوصف هو المقصود هنا عند المقارنة بالظاهرة.
تتسابق ملامح شخصية “سونكو” إلى مخيلة الناظر المتجرد؛ لتُفرز له شخصيةً فريدة من نوعها، دون دواعي النظر المكلف لتبرير القناعة المتشكِّلة عنده، ويكرِّس نظرته هذه السياقُ الزمني، والظهورُ العيني. فالطرح السياسي السنغالي المملُّ والمتكرِّرُ، والمبنيُّ على الغشِّ والمداهنة، والإفراط في تكريس الفوارق الطبقية، جعل المشهد السياسي السنغالي شبيهاً بحلَبة صراعٍ، الأقوياء فيها هم من بلغوا في الفحش السياسي حدّ الثمالة. ولا يستطيع المقاومة في ظلِّ هذه الزوبعة إلا شخصٌ يملك مناعةً قوية تحصنه من الخبث السياسي الفتّاك، ومُدججٌ بسلاح الجرأةِ والإقدامِ معاً، يغوص في أعماق الوحل السياسي مقبلاً غير مدبرٍ، مع السيطرة على الوضع والحذق الذي ينجيه من رؤوس الأفاعي. تلك هي الملامح التي يحاول “سونكو” أن يتمثلها، ونجح -إلى حدٍّ بعيدٍ- في اقتنائها، ويظهر ذلك جليا في أطروحاته، ولا داعي لتنكُّر ذلك، بل هذا ما جعله يكسب ثقةً زائدةً من شرائح مختلفة في المجتمع. وهذه النظرة الاختزالية -وهي ربط الملامح المكونة للشخصية السياسية لـ “سونكو” بالشخص نفسه- استقرت لدى كثيرين، فاعتبروه شخصية حجزت مقعدها في الحلبة السياسية بالقوة الذاتية لا غير.
أما عند النظر المقترن بالملاحظة والتحليل، ومحاولة ربط الشخص بالمنعطفات التاريخية للسياسة السنغالية؛ ومنعرجات النماذج النادرة لبعض فحولها؛ قد تختلف المحصلة ويتغير المعطى، فالصراع الناعم بين حمائم الدولة وصقورها لم ينقطع يوما، بل يتشكل ويتكيف استجابة للمعطيات المصاحبة له. فدعوة “سونكو” إلى نظام سياسيٍّ جديدٍ دون التعويل على الأشخاص والرموز؛ يمكن اعتبارها صدى لدعوة “محمد جاه” منذ الوهلة الأولى إلى “رفض الهياكل القديمة”. تلاشت دعوة الأخير، لعدم وجود ممثل سياسي لها يتبناها، ولكنها ظلت حيةً في القلوب تخفق بين الفينة والأخرى في المشهد السياسي السنغالي، وتمكن “سونكو” من البوح به في لحظة فارقة، ظهر فيها جيلٌ ناشزٌ ومن تكوين مختلفٌ، لديه الجهوزية في التفاعل مع هذا الطرح؛ للتخلص من العلقم السياسي الذي لم يعد يمثله في شيء؛ بل لسان حال هذا الجيل هو الانفصال عن الماضي وهياكله ونظامه الممقوت، والاستغناء عن الخطابات والدعايات المجوفة التي ليس لها هدف إلا تكريس نظام الدولة العميقة.
استطاع “سونكو” -بقدر ما- أن يوظف مطالب هذا الجيل -ذو التمثيل الضعيف في النظام السياسي- في مشروعه، وانسجم ذلك مع تكوينه الشخصي، ويستتبع هذه النظرة -عندي- القولَ بأن “سونكو” شخصية محورية تعبّر ﻋﻦ ﺳﻠﻮﻙ واحد ﻣﺸﺘﺮﻙ، نجده عند كثير من ﺃﻓﺮﺍﺩ ﺍلمجتمع السنغالي؛ الذين ﻳﺘﺼﺮﻓﻮﻥ إزاء مواقف معينة بطريقة نمطية قطعية، بغض النظر ﻋﻦ ﺍﻟﻔﺮﻭﻕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ. وبالتالي يحق لنا القول بأن “سونكو” تقمَّص هذه الظاهرة فمثلها، وهذا مصداقٌ لمن يقول بأنه ظاهرة وليس شخصية.
سونكو.. الجديد في الطرح
سواء قلنا بالظاهرة أو بالشخصية، يبقى الحبل السري الذي يربط بين القاسمين هو الطرح السياسي المختلف الذي جسَّده”سونكو” في أرضٍ خصبةٍ، اجتمعت فيها عوامل شخصيةٌ وسياقيةٌ جعلت خطابه متناغماً مع الجمهور، ومؤهلاً لاختراق الرأي العام السنغالي، وفرض نمطٍ سياسيٍّ جديدٍ يكون من شأنه؛ إنهاض الطبقة السياسية الغارقة في الكساد الأخلاقي، وكسر أذرع الدولة العميقة المدمنة على اغتيال بصيص أمل التغيير، أو على الأقل تغيير العرض السياسي المفلس الذي يعاني منه المجتمع السنغالي.
تتجلى ملامح الطرح السياسي عند “سونكو” بالوضوح والشفافية والمكاشفة، معتمدا على البساطة في الأسلوب، هذا ما جعل علاقته التواصلية مع القواعد الشعبية حيةً، وفي الوقت نفسه قابلةً لخلق مساحة تفاعلية عريضة –نوعا ما- مع الشعب. أضف إلى ذلك أن “سونكو” استطاع أن يزاوج هذا الطرح بالعمل السياسي الذي يجب أن يصاحبه، وهو النزول إلى الشوارع والاحتكاك بالناس دون انتظار وقت الصفر -كعادة كثير من الإصلاحين-كما تميز طرحه أيضا بالعمق وقوة الأدلة بفضل ملكة التقصي التي يتمتع بها للوصول إلى الحقائق دون الاعتماد على الإعلام أو الأجهزة المتخصصة والمنوطة بهذه الوظيفة، لكونها –في الغالب- متورطةً ومتواطئةً على التعتيم الممنهج لصالح الجهات المحسوبة على الدولة العميقة.
لكل هذه الميزات وقْعٌ وأثرٌ بالغٌ، خاصة إذا تعلق الأمر بنظام سياسيٍّ منخورٍ، شبَّ وشاخ على ذرّ الرماد على العيون والتلفيق والمرواوغة، ولعل ما جعل هذا التميُّز في خطاب “سونكو”؛ هو كونه تخرج من تكوين سياسي منفصمٍ تماما عن تكوين الجيل الكلاكيسي المعهود في السنغال، مع خبرةٍ مستمدةٍ من داخل أروقة الدولة مكَّنتْها من الاطلاع على أمور حساسة، أضف إلى ذلك أن صفحته السياسية بيضاء -حتى الآن- فبفضل كل هذه العوامل فهو الأقدر على التفاعل مع الجيل الحاضر؛ مدعوماً بمصداقية تجعل طرحه مقبولا على مستوى واسع في المجتمع.
سونكو.. موعدٌ مع خبايا التحدي
النجاح في تحقيق الأهداف السياسية لـ”سونكو” ليس مرهوناً فقط على حسن تقمص ظاهرة التجديد السياسي التي يعبر عنها الجيل السياسي الجديد، ولا على بلورة طرح سياسي مختلف ونادر، ولا على الملكات الذاتية والملامح الشخصية التي يتمتع بها. بل – كأي عملية تغيير سياسي- يوجد العديد من العوامل التي تمثل نصف الشوط من هذه العملية، ويجب استحضارها بعد تقييمٍ دقيقٍ للسياق؛ مع حسن تقدير الملابسات الآنية والمستقبلية، للتجاوب مع كل الافتراضات، والوصول إلى التوظيف الصحيح والمواتي للتصور العملي المراد إسقاطه على الواقع.
تنفرد تركيبة المجتمع السنغالي بسماتٍ ذاتيةٍ وعرضيةٍ، انعكست على المشهد السياسي فجعلته معقدا، رغم أن ظاهر المعطيات يُظهر -مع النظرة المجردة- ببساطة المشهد. فالمدافعة السياسىية، واختلاف مراكز القوى وتنافسها فيما بينها، وتذبذبات المصالح المتناقضة، وتداخل النفوذ وتعارضها أحيانا، كل هذه العوامل تتحكم بشكل جوهري وحاسم على مفاصل الحركة السياسية وتؤثر فيها حتى النخاع. هذه التركيبة المعقدة والمتضاربة لم تمنع من وجود أذرع مختلفة في المشارب لكن متلائمة في المصالح، تواطأت مع بعض مؤسسات الدولة فشكلت دولة عميقة، تسيطر على مناطق حساسة وتستطيع قلب الأمور رأسا على عقب في لحظة فارقة، إذا لم يحسب لها الحسبان.
تلك معادلة أحسبها كُبرى عقبةٍ تتمثل أمام كل مشروع إصلاحي في السنغال، بما فيه ظاهرة “سونكو” التي لا يمكن بترها عن جسم هذا المشروع، وهي المحك الذي يجب فهمه والتعامل معه بجدّ، وحسب تقديري يمكن وصف تعاطي “سونكو” مع هذه المعادلة بالتعامل السطحي -حتى الآن-، إما بتقليل شأنها، أو بدعوى إمكانية تجاهلها. وفي كلا الأمرين أخَالُه تقصيراً يجب استدراكه ضمانا لإنجاح مشروعه السياسي والمجتمعي.
نختم لنقول: أن الطرح السياسي لـ “سونكو” واقعي وغير تقليدي، ولا يقتصر فقط على الشقِّ السياسي كما هو المعهود في السنغال؛ بل يحمل في طياته مشروعا اجتماعيا وثقافيا وأبعادا أخرى جعل إطلاق الظاهرة عليه أجدر وأولى، دون إقصاءٍ معمَّد للشخصية التي تتقمصها أو التشهير بها، أو تحميلها مالايطيق. بل يجب إنزالها منزلتها بقدر ما تمثل هذه الظاهرة، وتختلف ظاهرة “سونكو” عن غيرها في كونها ولدت في ظروف استثنائية ترشحها للصمود، مع الأخذ في الاعتبار أن نجاحها يكمن في مدى إمكانية إزاحة المحك الكبير الذي يتمثل في القوى المختلفة المناضهة لها، والتي تترصد لها وتترقبها عن كثب، ولن تألو جهدا في إجهاضها متى ما أتيحت لها الفرصة.