الشيخ عبد الكريم دَفْ: الفقيه الزاهد ودوره في نهضة «فوتَ تورُ» في القرن الثامن عشر
د محمد سعيد باه
شكر وإشادة:
في البداية نشكر لكم هذه المبادرة المهمة والمتمثلة في إحياء تاريخ أمتنا بالحديث عن هذه الشخصية العلمية الدينية التي كانت لها مساهمة معتبرة في إحياء العلم وتحرير الشعب الفوتي من الطغيان وتخليصه من براثن الحكام الفاسدين والاحتلال الأجنبي، كما نأمل أن تتواصل هذه الجهود لنصل الأجيال الجديدة بتاريخها الصحيح والمشرف لتستعيد هويتها وتفتخر برموزها الحقيقية بدلا من الانبهار بالآخرين والجري وراء السراب.
أولا، توطئة: فوت تور قبل قيام دولة الأئمة:
على صعيد الوضع الاجتماعي، فالتركيبة السكانية بمنطقة فوتا تورو تتسم الآن بالتجانس إلى حد كبير، لكن ذلك يعتبر وضعا طارئا وقد جاء نتيجة لتحولات اجتماعية كثيرة تمت في فترات زمنية متلاحقة بفعل حركات الهجرة المتتابعة التي عرفتها المنطقة في الاتجاهين ( الداخل – الخارج).
وحتى قبيل قيام دولة الأئمة وانتشار الإسلام بعدة عقود، كانت الخارطة السكانية تتسم بالفسيفسيائية حيث كان عدد من الشعوب والقبائل تتجاور أو تتعاقب فنجد الحسا نيين ذوي الأصول البربرية والسوننكي والسرير والولوف….، لكن يبدو أن قيام مملكة «فوتَ تورُ» على يد أسرة «دينينكوبي» في القرن الخامس عشر أدى إلى نزوح الولوف والسرير بصورة جماعية حتى لتكاد المنطقة تخلو من غير الفلانيين إلا بعض الجيوب التي يشكلها الولوف والسوننكي بصورة متناثرة وأما الآخرون فلم يعد لهم أي وجود.
الخلاصة التي يمكن الوصول إليها في هذا الصدد هي أن منطقة فوت تور، وهي تشكل الجزء الأكبر والأهم لمنطقة وادي نهر السنغال، كانت طيلة حقبة طويلة تعيش وضعا حضاريا متقدما كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين الذين وصفوها بقولهم: كانت منطقة وادي نهر السنغال محور جذب ومحل تنازع كبير بين القوى الإقليمية. (1)
«لقد تحدث بعض الرحالة الأوروبيين الذين زاروا المنطقة، حوالي القرن السابع عشر، عنها بإعجاب وقال بأنّه وجدها مسلمة بكاملها ويقطنها شعب يصل تعداده إلى مليوني نسمة ويحكمها إمام تنصبه أو تخلعه أوليغارشية دينية مؤلفة من مجلس يضم أصحاب العقارات السبعة الكبار». (2)
ويتحدث الباحث بَيْلا وَنْ عن العوامل والظروف التي مكنت من قيام نهضة عمرانية معتبرة في بلاد فوتا تورو ويقول بأن الإمكانات الزراعية والرعوية الضخمة التي يتمتع بها الجزء الأوسط لوادي نهر السنغال سهلت استقرار ونمو وازدهار تجمعات بشرية فيه وليصبح بالتالي مركزا مهما للإشعاع الحضاري وقد حمل اسم فوتا تورو منذ القرن الخامس عشر الميلادي. (3)
وأما على المستوى الثقافي، فكان متقدما كذلك إذا قايسنا ذلك بالمستوى العام الذي كان سائدا في معظم أنحاء المنطقة إذا استثنينا تلك المناطق التي عاشت تحت دول وأنظمة قوية مثل مملكة مالي ودولة سنغاي.
ثانيا: خريجو مدرسة «بِرْ سانْياخورْ» ومشروع الإصلاح:
مدرسة «بِرْ سانْياخورْ» أسسها العالم والقاضي عَمَرْ فال الذي يعتبر من أكثر علماء غرب إفريقيا تأثيرا، وقد نقل مدرسته من «فوت تورُ» إلى بلاد كجور حوالي سنة 1603م وذلك بعد أن اشتدت عليه الضغوط في بلاد فوت التي ولد فيها من جد مهاجر من كجور ودرس فيها وخاصة عند مدرسة الشيخ مصطفى باه بمدينة هايرى لاو وعند البياضين في الشمال، ونظرا لهذا الدور الإشعاعي الذي أدته المدرسة فقد حاربها الاستعمار بكل الوسائل وانتهى الأمر أن قام فليار (WALIYAR) أحد مسئولي الإدارة الاستعمارية تحت ولاية بني لا براد بحرقها ومكتبتها الشهيرة سنة 1869م. (4)
نجح خريجو هذه المدرسة من أبناء «فوت تور» في إحداث انقلاب هائل وعميق الأثر في واقع المجتمع الفوتي وفي البلاد المجاورة كذلك حين قاموا بثورتين الأولي علمية معرفية عندما جلسوا للتدريس والتوجيه والثانية حين تحركوا لتحرير المنطقة من الظلم المركب الذي كانت تعيش تحت وطأته داخليا وخارجيا.
ثالثا، الشيخ عبد الكريم ووزنه العلمي:
قبل الحديث عن الشيخ/ عبد الكريم دف نشير إلى أن بلاد «فوت تور» و«فوت ماسِنَ» قد أنجبت عددا كبيرا من العلماء ينتمون إلى قبيلة «جاونْبى» ساهموا في الحركة العلمية بالمنطقة نشير إلى على سبيل المثال إلى بعض منهم: آلفا جعفر بوكم، عبدل إلمان بوكم الذي هو أول أشياخ موسى كمر.
يعتبر الشيخ عبد الكريم دف، بشهادة علماء المنطقة وكبار مؤرخيها من أعظم العلماء الذين أنجبتهم بلاد «فوت تور» على مر التاريخ، وفيما يلى نعرض بعض الشهادات:
«أما علماء «جاوَنْبى» فمنهم تشارن عبد الكريم دف الفقيه من قيبلة دَفْ في سينُ باللْ وكان معاصرا لألمام عبدل وكانا متحابين في الله تعالى». (5)
من المعايير التي يمكن الاعتماد عليها لمعرفة وزن الشيخ/ عبد الكريم دف العلمية المستوى العلمي لتلامذته الذين تخرجوا على يديه الذين يأتي على رأسهم ابنه العالم العلامة/ أحمد حليمة الذي تتلمذ عليه الحاج عمر الفوتي تال وقال عنه العلامة الشيخ/ موسى أحمد كمر، بعد أن ذكر تعلمه من والده:
«تعلم منه علم الفقه كله فصار عالما لا يبارى وفقيها لا يجارى». (6)
من هؤلاء الذين ورثوا العلم عنه حفيده تشارن بوبُ بن تشارن أحمد حليمة الذي هاجر مع الحاج عمر الفوتي تال إلى بلاد السودان الغربي للجهاد فعبر الحاج عمر عن ثقته بعلمه وتقديره له بتعيينه قاضيا له وهو المنصب الذي تميز فيه بالعلم والعدالة واتبع طريقة خاصة في الفصل بين المتحاكمين حيث لم يكن يراهم ولا يرونه تحريا للنزاهة وتحقيقا للعدالة.
من أقوى الأدلة على المكانة العلمية العالية التي كان الشيخ/ عبد الكريم دف يحتلها ما أورده بعض المؤرخين من أن أهل «فوت تور» تحاكموا مع الإمام/ عبد القادر كن إليه حين أبى تولى منصب الإمامة واستطاع بالبراهين الفقهية أن يقنعه بوجوب تولى المنصب فرضخ الشيخ/ عبد القادر كن لفتواه.
لدينا كذلك دليل آخر يتمثل في أن صيته العلمي قد تجاوز حدود المنطقة حيث نجد أن طلبة العلم قد بدأوا يتوافدون عليه من البلدان المجاورة كما يؤكد سفره إلى فوت جالون لإجازة أحد طلابه ولما رأوا ما عليه من العلم الغزير والدين القويم قال له والد تلميذه الشيخ/ محمد علو:
«الأفضل لمثلك إن أتى لمثل هذه البلاد أن يأتي إمامها وسلطانها، فقبل الشيخ ذلك منهم فذهب معهم إلى إمام فوت جالون فأحسن إليه الإمام جدا…». (7)
رابعا: دلالات ترشيح الشيخ عبد الكريم لمنصب الإمامة:
عندما شارف الشيخ سليمان راسن بال على إنجاز مشروع تحرير «فوت تور» من الاحتلال الأجنبي والذي كان يتطلب أيضا إسقاط حكم «دينِيَنْكوبي» الذي كان قد أصبح عبئا ثقيلا على السكان، بدأ يدرس إستراتيجية إقامة دولة إسلامية على أسس من العدل والحكم الرشيد.
في هذا الإطار اهتم بمجموعة من العلماء في «فوت تور»يستطيع الاعتماد عليهم في إقامة الدولة التي كان يسعى إليها بثاقب نظره وحرصه على إحياء الإسلام في فوت تور كما وصفه المؤرخ الكبير سرى عباس سه في كتابه استدراك ما فات وما كاد أن يفوت من أخبار فوت بهذه الكلمات:
«رحم الله محيي الدين ومعتق الرقاب الشيخ سليمان بال بن السيد رشيد».
لما انتهى من تلك المهمة العويصة توجه نحو هدفين:
الأول: وضع وثيقة تأسيسية للدولة الإسلامية القادمة:
” إن النصر مع الصبر… إني لا أدري هل أموت في هذا القتال أم لا! فإذا متُّ فاطلبوا إماما عالما زاهدا لا يجمع الدنيا لنفسه ولا لعقبه، وإذا رأيتموه قد كثرت أمواله فاعزلوه وانهبوا أمواله، وإذا امتنع من العزل قاتلوه واطردوه لئلا يكون ملكا عضوضا يتوارثه الأبناء عن الآباء وولوا مكانه غيره من أهل العلم والعمل من أي القبائل كان ولا تتركوا الملك في قبيلة خاصة لئلا يدعوه وراثة بل ملكوا لكل مستحق….». (8)
الثاني: ترشيح مجموعة من القيادات العلمية والدينية في فوت وفق مواصفات دقيقة ليتم اختيار الإمام القادم من بينهم:
كانت المجموعة التي رشحها تتكون من أربعة أشخاص هم: تفسير أحمد سنب لِهْ الذي اشتهر بلقب تفسيرُ بُغّلْ ببلدة جابا (JAABA)، تفسير أحمد حماد ون في كنل (KANEL)، تشارنو عبد الكريم دف في سينُ باللْ (SEENO PAALEL)، والشيخ عبد القادر كان في أَبّى (APPE).
وكان العامل الأساس الذي يجمع بين هؤلاء الأربعة المرشحين لمنصب الإمامة في «فوت تور» بأنهم كانوا زملاء في مدرسة «بِرْ سانياخور» حيث تعرف بعضهم على بعض عن كثب وعرف كل واحد منهم قيمة الآخرين ولما رجعوا كذلك توزعوا في أرجاء المنطقة وجلسوا للتدريس إلى جانب العمل الإصلاحي الذي كانوا قد تأثروا به في «بر»، وأما الشيخ/ عبد الكريم فقد ذكر بعض المؤرخين الذين كتبوا عن سيرته بأنه قد رشح لعاملين جوهريين وهما «غزارة علمه وكثرة صلاحه». (9)
أما سِرى عباس سُهْ (SIREE ABBAS SOH) فيقول بأن الشيخ سليمان راسِنْ بال لما رفض أن يكون إماما أجمعوا على اختيار الشيخ/ عبد الكريم دَفْ ليكون إماما لبلاد «فوتَ تورُ» لكنه رفض ذلك هو الآخر متعللا بأسباب خاصة ثم أشار عليهم بالشيخ عبد القادر حمَّدِ كَنْ ليكون إماما.
هنا نسجل ثلاث ملاحظات جوهرية:
1) ترشيح الشيخ سليمان بال الشيخ/ عبد الكريم ضمن هذه المجموعة الخاصة لتولي إدارة الدولة في هذه المنطقة ذات الحيوية المقدرة والتي يقول الدارسون بأن سكانها في تلك الفترة كان يتجاوز (2) مليون نسمة وعلي ملتقي الأقوام، يؤكد المستوى العلمي الذي كان قد بلغه الرجل فضلا عن الجوانب الأخرى الدالة علي قوة شخصيته ووزنه العلمي والدعوي.
2) يعتبر ترشيح الشيخ/ عبد الكريم الذي ينتمي إلي طبقة «جاوَنْبي» (الوزراء والسفراء) خطوة ذكية لتسديد ضربة قوية إلي العقلية الطبقية التي كانت تتحكم في كل مفاصل المجتمع الفوتي علي غرار ما كان يقع حوله من البلدان
3) نجزم بأن الشيخ/ عبد الكريم كان مؤهلا لحمل هذه الأمانة الضخمة بدليل ترشيحه وبدليل أن من رشحه لها، ألا وهو الشيخ سليمان راسن بال، كان يعرفه ويعرف أهليته للمنصب كما نميل إلى أن التورع قد يكون عاملا مهما في عدم قبوله وهو البعد الذي كاد أن يمنع الإمام الشهيد/ عبد القادر كن من تولي وظيفة الإمام. (10)
خامسا: ثقة الإمام عبد القادر كن بالشيخ عبد الكريم:
لم يكن الشيخ عبد الكريم مجرد عالم يعيش مع الكتب ويعاشر طلابه بعيدا عن قضايا مجتمعه بل كان مصلحا كذلك ويشاطرهم همومهم وأحد القيادات التي يمكن الاعتماد عليها في إدارة الحياة العامة ما جعله يرشح لتولي أعلى منصب في «فوت تور» في تلك الفترة، ومما يؤكد ذلك العلاقة المتينة التي كانت تربطه بالإمام عبد القادر حمد كن قول الشيخ/ موسى أحمد كمر بأنهما «كانا متحابين في الله».
وبسبب متانة هذه العلاقة ولثقة الإمام في علمه وفي تقاه التجأ إليه في أشد لحظات حياته عندما كان محاصرا وقد تحالفت قوى الشر للقضاء عليه فكتب إلى الشيخ/ عبد الكريم يطلب منه الدعاء، ثم شاء الله أن يلتحق هو الآخر بالرفيق الأعلى بعد أسبوعين فقط من استشهاد صديقه الحميم الشيخ/ عبد القادر حَمَّدِ كنْ الذي قتل صبيحة يوم الخميس 7 صفر 1221هـ الموافق 4 إبريل 1807م في غوريك (GUURIIKI) وهو شيخ يبلغ من العمر واحدا وثمانين سنة، وبهذا نعرف بصورة شبه قاطعة أن وفاة الشيخ/ عبد الكريم دَفْ كان في 21 صفر 1221 هـ / 18 شهر إبريل 1806م. (11)
سادسا، وتوصيات:
في الختام، نوصى بالاهتمام بجمع كل ما يتعلق بالشيخ/ عبد الكريم دف من مخطوطات أو مقالات أو أبحاث قصد التعريف به وبشخصيته العلمية وبدوره في قيام دولة الأئمة في «فوت تور» وفي نشر العلم وخدمة الإسلام والمسلمين.
—————
هوامش:
(1) محمد سعيد باه، دولة الأئمة في فوتَ تورُ تجربة إسلامية على ضفاف نهر السنغال: إحدى أنجح محاولات إحياء الدولة الإسلامية، دار الاتحاد للطباعة، القاهرة، 2010م..
(2) فنسان مونتاي، الإسلام في أفريقيا السوداء، ترجمة إلياس حنا إلياس، دار أبعاد، بيروت 1992.
(3) Baila Wane, Le Fouta Toro de Ceerno Suleymaan Baal a la fin de L’almamiyat (1770 – 1880), Revue Senegalaise de L’histoire.
(4) تشارن كاه الحبيب، مدرسة بر سانياخور.
(5) موسى كمر، تمييز الأشراف من الأطراف، مخطوط في حوزة الباحث.
(6) موسى كمر، زهور البساتين في تاريخ السوادين، للتوسع انظر فصل«علماء جاونب».
(7) المصدر نفسه.
(8) انظر سرى عباس سه، استدراك ما فات وما كاد يفوت من تاريخ فوت، مخطوط في حوزة الباحث.
(9) موسى أحمد كمر، زهور البساتين، مصدر سابق.
(10) محمد سعيد باه في كلمة تعريفية عن الشيخ/ عبد الكريم دف الذي اختير شخصية القافلة الدعوية السادسة لتجمع الجمعيات الإسلامية في «فوتَ تورُ»، ٢٠١٧م.
(11) سرى عباس سه، استدراك ما فات وما كاد يفوت من تاريخ فوت، مصدر سابق، وقد ذكر بأن الشيخ/ عبد الكريم قال للإمام عبد القادر بأنه لن يعيش بعده إلا خمسة عشر دون أن يحدد طبيعتها.