السنغال| فوز المعارضة السنغالية بالانتخابات الرئاسية – قراءة في العوامل المؤثرة

بقلم الدكتور/ محمد مصطفى جالو

 

أُسدل الستار عن السباق الرئاسي بين الحزب الحاكم في السنغال وبين حزب باستيف بفوز الرئيس بشير جوماي فاي بالانتخابات، فطُويت بذلك صفحة هذا العراك السياسي الذي ذاق بسببه عدد كثير من الناس مرارة السجن، وأزهقت جراءَه أنفس كثيرة، ودخلت السنغال بسببه في اضطرابات مدة من الزمان.

إن العادة المعروفة والسنة المتقررة في كثير من الدول الأفريقية هي: صعوبة أو استحالة إسقاط مَنْ بيده السلطة ومقاليد الأمور عن طريق التصويت،؛ لإمكانه تغيير الأمور لصالحه، والتلاعب بالدستور أو بنتائج الانتخابات ليُدخل البلاد في دوامة الفوضى غير مكترث بما يترتب على ذلك من تبعات، أو يسلّمه لمن يريد رغما عن الشعوب المسكينة التي ما تزال تبحث عمّن يُخرجها من التخلف الذي هي فيه منذ الاستقلال، فإن لم يتمكن الرئيس من كل ذلك انتظر العسكر الفرصة السانحة للانقلاب عليه، ومن ثَمّ تخدير الشعوب بالخطابات المدغدغة للعواطف حتى ينشبوا أظفارهم هم أيضا في الحكم، فيتعاملوا مع الشعوب بعد استتباب الأمر لهم تعامل القائد مع الجنود في الثكنات العسكرية، ومعلوم أن باب الانقلاب إذا انفتح في دولة صعب على أهلها إغلاقه، وتعسر عليهم الفكاك منه بعد التلبس به.

لكن الناظر في الحالة السياسية السنغالية يجد أنها خارجة عن تلك العادة، فكل مرة يُخيَّل فيها إلى رئيس أن يجاري إخوانه الرؤساء في بقية الدول على الاستئثار بالحكم، وسلوك مسلك المستبدين، ومطاردة المعارضين، وإخماد صوتهم، كلما خُيل ذلك لرئيس سنغالي يجد أمامه عقبة كبرى تجبره على الاستسلام للواقع الذي تميزت به السنغال عن غيرها من دول المنطقة، وينزل إلى إرادة الشعب مُكرها.

احتفى بعض الأفارقة بفوز المعارضة بالانتخابات في السنغال، وأشادوا بالشاب المعارض عثمان سونكو وتمنوا أن يكون لهم مثله في بلادهم، وحق لهم ذلك؛ فإن عثمان سونكو أصبح رمزا للإباء والثبات، وجعْلِ المبادئ والأفكار والمصلحة العامة أهم من الشخصيات، لكن يا ترى ما هي العوامل التي جعلت السنغال دائما تخرج منتصرة في خلافها مع الرؤساء حين تسول لهم أنفسهم التعدي على القانون؟.
يعود ذلك في رأيي المتواضع إلى عدة عوامل تتميز بها دولة السنغال عن غيرها، من أهمها:
١- الوعي السياسي الذي يتمتع به الشعب السنغالي، ويتمثل ذلك في الاعتناء بأمر الانتخابات، بدءا بالشعور بالمسؤولية ومرورا بالاهتمام بالتسجيل في قائمة الانتخابات، وانتهاء بالتصويت وإن كان ذلك يكلفه مشاق السفر، أو البحث عن المكتب الذي يصوت فيه حال تغييره دون علمه.

٢- تلاحم الشعب واتحاده، وإباؤه للضيم وظلم الحكومات للمعارضين، فهم بمجرد أن يعرفوا أن هناك معارضا يُمارَس الظلم ضده، يقفون معه وقفة المدافع عن أنفسهم غير مبالين بما يلاقون في سبيل ذلك من مخاطر.

٣- سلامة الشعب السنغالي من داء القبَلية التي ابتُلي بها كثير من الدول، حيث إن تلك الشعوب التي دبّ فيها هذا الداء المهلك للحرث والنسل تجعل منظارها في القضايا السياسة هو: القبَلية، فلا يهم فيها المبدأ والمصلحة العامة بقدر ما يهم أن يكون المنتخَب منتميا إلى قبيلة المنتخِب، بصرف النظر عن الأهلية من عدمها، على عكس السنغال فإنها منذ استقلالها رأسها ثلاثة أشخاص من قبيلة تحتل المرتبة الثالثة من حيث العددُ، بينما رأسها شخص واحد فقط لكل من القبيلتين اللتين تحتلان المرتبة الأولى والثانية من حيث الكثرةُ، ولذا فإن الشاب المعارض عثمان سونكو مع وضوح آرائه السياسية ونصاعة صفحته الوظيفية، واتضاح مبادئه وتناغمها منذ دخوله في مجال السياسة، لو كان في دولة تُقدم فيها القبلية على المبدأ لكان في الوقت الحالي نسيا منسيا في غياهب السجن، ولصار مشروعه في خبر “كان”.

٤- الإرث الديمقراطي المتراكم الذي يصعب على المحيط السياسي أن يتركه يضيع هكذا، ويتمثل ذلك في رفض كثير من الساسة قضية تغيير موعد الانتخابات لكون ذلك يهدد ذلك الإرث التليد، ويعيد السنغال إلى نقطة الصفر، وإن كان أغلب هؤلاء الساسة ليسوا مثاليين في نظر الشعب، ولا يحب أغلبهم أيضا عثمان سونكو لتباين اتجاهاتهم السياسية مع اتجاهه السياسي.

هذه العوامل الأربعة في رأيي جعلت صوت الشعب دائما يعلو على صوت الأنظمة الحاكمة في بلاد تيرنغا، وقد ساعدت تلك العوامل على نجاح نضال عثمان سونكو الذي جعل المصلحة العامة والتمسك بالمبادئ أهم من الالتفاف حول شخصيته، ولذا لما تيقن من حرمانه من المشاركة في الانتخابات، فعّل مباشرة خطته البديلة التي كانت في ترشيح أحد مقربيه في الحزب، فلو كان السيد عثمان سونكو أنانيا لما تمكن مشروعه من الإطاحة بالنظام الحاكم، ولذهبت الرئاسة إلى يد من يسميهم بالسيستم.

إن هذا الموقف الذي يستحق الإشادة هو الذي جعل كثيرا من الناس يتوقعون بأن حزبه إذا استمر على هذا النهج، ونجح في تحقيق مشاريعه على أرض الواقع، فإن ذلك يرشح أعضاء الحزب لأن يتعاقبوا على قيادة السنغال مدة طويلة، على عكس الأحزاب التقليدية التي تربط فيها الأحزاب بالأشخاص، حيث يكون طلوع نجمها وأفولها تابعين لشخصيات تلك الأحزاب.

ومما تميز به حزب باستيف أيضا الجمع بين البنافريقية والواقعية، وبناءً على هذه الرؤية المتوازنة؛ فإنه يرحب بالتعامل مع جميع القوى على أساس الندية والمساواة في إبرام عقود الاتفاقيات والصفقات، والحزب بهذه الرؤية وسط بين القادة الأفارقة الذين هم مجرد وكلاء لدول الاستعمار السابقة في نهب خيرات أفريقيا، وبين أولئك القادة الذين يتخلصون من تلك الدول التي كانت مستعمرة بحجة أنها تنهب الخيرات دون مراعاة مصالح الدول الأفريقية، ثم يستبدلونها بقوى خارجية أخرى، يقبلون لها ما رفضوه لدول الاستعمار، فيكونوا بذلك قد جلبوا لأفريقيا مستعمرين جددا لكن عن طواعية هذه المرة.

مَنْ يريد استنساخ التجربة السنغالية الناجحة في الإطاحة بالأنظمة عن طريق الصناديق الاقتراعية في أفريقيا ، وتطبيقها في بلاده لا بد أن يسعى حثيثا إلى اجتثاث العنصرية القبلية من أصلها إذا كانت بلاده مبتلىً بهذا الداء، ويربي الناس أيضا على الوعي السياسي، لا على التطبيل للمستبدين، أو التصفيق لهم لمجرد قيامهم بواجبهم، ويرسخ في عقولهم أيضا أن مصالحهم مشتركة، وأن المبادئ والمصالح العامة هي أساس نهوض الدول، وبدون مراعاة هذه العوامل، فلا يكون حال هذا المتمني إلا كحال مَن أعجبه التمر فجلب نخيلا لغرسها في أرض لا تصلح فيها، ثم ينتظر ثمارا طيبة.

ينبغي التنويه بأن السياسة اجتهاد، وبناء على الذي ظهر للناظر، فعمل السياسي هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه، فهي أشبه بالعمل بالظن في الفقه، وإن كان العقل لا يحيل وجود احتمال آخر.

فاللهم وفق الرئيس بشير جوماي، وارزقه البطانة الصالحة، واجعله هو وعثمان سونكو وجميع من معهما عند حسن ظن الشعب بهم، وانفع بهم العباد والبلاد، وجنبهم داء الطمع ونكث العهد، وخيانة الأمانة، وانفع بهم العباد والبلاد.

2 تعليقات
  1. غير معروف يقول

    أحسن الله إليكم شيخ مصطفى

  2. غير معروف يقول

    أحسن الله إليكم شيخنا الفاضل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.