التعصب وأثره في الحكم على أفكار الشخصيات الجدلية – مسألة رمي سيد قطب بوحدة الوجود نموذجا:

 

 

 

بقلم الدكتور محمد مصطفى جالو

 

الحمد لله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، والصلاة والسلام على من أخبر أمته بأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وعلى آله وصحبه أهل العدل والإنصاف.

وبعد: فإن سيد قطب يُعدّ من أشهر المفكرين المسلمين المعاصرين ذِكْرا في النقاشات العلمية، وتناولا لإنتاجه الفكري، وتعرضا لشخصيته بالدراسة والانتقاد، حيث كُتبت حول هذه الشخصية الجدَلية والأفكار التي رقمتها في مصنفاتها رسائل أكاديمية وأخرى غير أكاديمية، وغالبا ما يكون اسم سيد قطب حاضرا  أيضا في أروقة الجامعات الإسلامية في دروس العقيدة والتفسير، وفي الدورات الشرعية، بل يتردد اسمه كثيرا في مقام الاستفتاء، حيث استُفتِي كثير من العلماء في مختلف البلدان الإسلامية وسئلوا عن آرائهم في سيد قطب وفكره وإنتاجاته منذ إعدامه في سنة ١٩٦٦ ميلادية إلى يوم الناس هذا، ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت للناس التعبير عما يختلج في صدورهم من أفكار، فقد كان اسم سيد حاضرا  أيضا بقوة في صفحات الناشطين بمختلف توجهاتهم الفكرية وقناعاتهم المذهبية، فالسلفي يبرز موقفه منه والأشعري،  كذلك يفعل الإخواني والعلماني والليبرالي…

والمتأمل في حياة بعض الشخصيات الجدَلية يجد أن عندها صفاتٍ مشتركةً خلدت ذكرهم، وجعلت مَن بعدها تختلف مواقفهم تجاهها؛ كالشجاعة والصراحة، واطراد الموقف، وامتلاك قوة الأسلوب الساحر في تقرير فكرها، إلا أن اطراد الموقف وعدم تذبذبه وتحمل ما يترتب على ذلك وإن كان على حساب النفس يبقى أهم عامل يجعل آثار هذه الشخصيات الجدَلية باقية، ونجومها طالعة، والنقاش حولها متجددا في كل وقت وحين.

وغنيٌّ عن الذكر بأن الانبراء لنقد أفكار الناس يحتاج إلى التحلي بالإنصاف والتجرد للحق، واستحضار أنه كما يجب إحقاق الحق وإبطال الباطل، فإنه أيضا يحرم تحريما قاطعا ظلم المنتَقَد والتقوّل عليه، إلا أن الحاصل أن كثيرا ممن نذر نفسه لهذه المهمة الخطيرة لم يستطع الفكاك -وهو ينتقد الناس- عن الهوى وحظوظ النفس، والانتصار لها، ومما يدل على صعوبة الالتزام بالإنصاف في عالَم انتقاد الأفكار قول الإمام مالك رحمه الله: “ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف”([1]).

قال القرطبي معلقا على هذا النقل عن مالك رحمه الله: “هذا في زمان مالك، فكيف في زماننا اليوم، الذي عمّ فيه الفساد، وكثر فيه الطَّغام، وطُلب فيه العلم للرياسة لا للدراية!، بل للظهور في الدنيا، وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يُقسي القلب، ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى”([2]).

ولعل سبب صعوبة السلامة من التعصب في نقد الأفكار والأشخاص يعود إلى دخول كثير من الناقدين فيه بعين الرضى المطلقة التي لا تبصر أخطاء المنتَقد،  أو عين السخط التي تبدي المساوي وتكبّرها، وقد يكون للمعتقد دخلٌ في مدح أو ذم المنتقَد، وهذا ظاهر كثير في تواليف العلماء من قديم الزمان، ومن أراد الاطلاع على أمثلة حية لذلك فليراجع رسالة العلامة تاج الدين السبكي الموسومة ب: “قاعدة في الجرح والتعديل”، علما أن التاج السبكي مع إبداعه في تقعيد قواعد النقد فيها إلا أنه لم يسلم هو الآخر من الوقوع  فيما كان يعالجه في رسالته هذه، حيث تعرض لشيخه الذهبي بالتنقيص في الرسالة نفسها، وهو ما حدا بمحققها العلامة عبد الفتاح أبو غدة إلى تعقبه([3]).

والقصد  من نقل ما سبق هو بيان أن التحلي بالإنصاف في نقد الآراء والشخصيات أمر عزيز جدا، ويزداد صعوبته إذا كان  متعلقا بشخصية جدَلية ذات صيت وفكر ذائع، وصاحبَ ذلك قصد الإسقاط والتشويه بأي وسيلة ممكنة، ولذا فإذا كان السياسيون العلمانيون يستخدمون القاعدة الماكيافيلية: “الغاية تبرر الوسيلة”  للوصول إلى مآربهم، فإن بعض من شغلوا أنفسهم بانتقاد الناس يستعملونها في عالم النقد شعروا بذلك أم لم يشعروا.

والناظر  في الذين تناولوا فكر سيد قطب بالنقد يجد أن فيهم من تناوله بسوء طوية، ومنهم من تعرض له بقدسية مطلقة، ومنهم من تعامل معه بالإنصاف، وهناك المقلدة الذين يرددون ما كتبه محبوهم في الرجل، مصيبين كانوا أو مخطئين، وأحيانا يتجاوز الحب بهؤلاء المقلدة  إلى تخطئة كل رأيٍ في سيد قطب مغايرٍ لرأي محبيهم، بل قد يصل بهم الأمر أحيانا إلى القول بأن أحدا لم يفهم فكر سيد على الوجه الصحيح كما فهمه مشايخهم، وإذا حصل أن صادم رأي أصحابهم لرأي عالم  في نفس الانتماء الفكري أرفع درجةً منهم بادروا إلى البحث له عن تأويلات تعسفية متوافقة مع موقفهم في سيد رحمه الله؛ لأن القضية عندهم هي الإسقاط والإسقاط، لا التصحيح والتصويب مع الحفاظ على عرض المنتقَد.

حينما يعرض الباحث مسألة: وحدة الوجود التي رُمي بها سيد قطب ويوظف فيها قواعد النقد العلمي النزيه يكتشف عن مدى غياب التقيد بالإنصاف وقواعد العلم عند الذين رموه بها، كما يتبين من خلاله الرغبة المؤكدة في إسقاط سيد قطب، وجعله غولا وخطرا يجب التحذير منه.

وينبغي الإشارة إلى أن تناول فكر سيد قطب بالنقد، والخروج برأي يتسم بالإنصاف والموضوعية ممكن جدا؛ لأن مراحله الفكرية معلومة مسطرة، وكتبه المتقدمة والمتأخرة التي فيها فكره  بطبعاتها المختلفة متوفرة، كما أن إخوانه وأصحابه الذين كانوا معه في السجن وبقُوا على قيد الحياة بعد إعدمه كتبوا عنه، وأجريت مع بعضهم مقابلات، كل ذلك متاح موجود، إلا أنه للأسف فإن كثيرا من  الدراسات المتحاملة عليه تخطت كل تلك الوسائل المتاحة لتُخرج سيدا بصورة سيئة جدا جدا، نسأل  الله  الالتزام بالإنصاف مع المخالف والموافق.

إن دراسة آراء سيد قطب بمعزل عن تطورات حياته الفكرية، والبيئة التي كان يعيش فيها، وعدم الوضع في الحسبان بأن الرجل ما وجد فرصة لمراجعة مؤلفاته كما ينبغي لعائق السجن والإعدام، لا  أظن أن دراسة عن هذه الشخصية  تهمل تلك الجوانب  يخرج فيها صاحبه بموقف مبني على قواعد  البحث العلمي الجاد والنزيه([4]).

قد انتُقد على سيد قطب رحمه الله عدد من المسائل التي لها تعلق بالعقيدة هي مذكورة مبثوثة في بطون الكتب التي تناولتها بالدراسة، إلا أني ارتأيت ذكر مسألة وحدة الوجود  لبيان مدى بُعد بعض الدراسات التي نَسبت إليه  هذه الفكرة عن الإنصاف، مستدلا بقول سيد قطب نفسه رحمه الله لبيان بطلان تلك النسبة.

إن مسألة وحدة الوجود التي رُمي بها سيد قطب، لم يصرح  بالمصطلح “وحدة الوجود” على غرار ما يفعله غلاة المتصوفة في المواطن التي قيل بأنه تبنى فيها القول بوحدة الوجود، وإنما  ألزمه به منتقدوه من خلال عبارات فهموا منها ذلك، قد خالفهم فيها آخرون،  علما  أن سيدا رحمه الله  صرح بنفي وحدة الوجود في عدة مواضع من مؤلفاته، فكانت القاعدة التي ينبغي تعاملها مع كلامه المشتبه هي قاعدة :”لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح” إلا أن كل ذلك لم يكن، بل تم التجاهل بكلامه الصريح في ذم وحدة الوجود في كتابه الذي يعتبر من آخر كتبه، ألا وهو  كتاب مقومات التصور الإسلامي، حيث قال فيه سيد رحمه الله: “إن التصور الإسلامي يفصل فصلا تاما بين طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، وبين مقام الألوهية ومقام العبودية، وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية، فهما لا تتمثلان ولا تتداخلان”. وهذا ما جعل أخوه الشقيق الأستاذ محمد قطب رحمه الله يقول في تقديمه لكتاب سيد قطب ذلك: بأن رمي سيد بوحدة الوجود وجعل ذلك شغل الناس الشاغل أمر لا وجود له في الحقيقة([5]).

 وقال العلامة بكر أبو زيد في رده على الشيخ ربيع المدخلي في رميه سيدا بوحدة الوجود: “إن سيدا رحمه الله تعالى قال كلاما متشابها حلق فيه بالأسلوب في تفسير سورتي الحديد والإخلاص، وقد اعتُمد عليه بنسبة القول بوحدة الوجود إليه، وأحسنتم حينما نقلتم قوله في تفسير سورة البقرة من رده الواضح الصريح لفكرة وحدة الوجود ومنه قوله: ومن هنا تنتفي من التفكير الإسلامي الصحيح فكرة وحدة الوجود، وأزيدكم أن في كتابه مقومات التصور الإسلامي  ردًا شافيًا على القائلين بوحدة الوجود، لهذا فنحن نقول غفر الله لسيد كلامه المتشابه الذي جنح فيه بأسلوب وسع فيه العبارة .. . والمتشابه لا يقاوم النص الصريح القاطع من كلامه”([6]).

ومما سبق يتضح أنه يجب على الباحث أن لا يتبنى موقفا تجاه الشخصيات الجدلية قبل أن يكلف نفسه عناء مقابلة ما كُتب عنها، وقيل فيها، والباب – كما قيل – إن لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه.

وأخيرا، يكفي لمسلم أن يرجو لسيد قطب حسن الخاتمة لكونه قُتل ثابتا في موقفه، مطردا في مبادئه، قاصدا بذلك الدفاع عن الإسلام والموت في سبيل هذا الدين، كما يكفي لسيد فخرا أن العلماء الراسخين أمطروا عليه وابلا من الثناءات العطرة، وأبرز أولئك العلامة ابن باز رحمه الله، قال في سيد قطب رحمه الله:  “نُفذ في المذكور “سيد قطب” حكم الإعدام… فرحمة الله عليه وعلى سائر علماء المسلمين، ونرجو أن يكون من الشهداء الأبرار”([7]).

فرحم الله سيدا، وغفر له زلاته، وجزاه عن الإسلام خيرا، وأسكنه الفردوس الأعلى.

 

[1])) انظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (١/ ٥٣١).

[2])) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (١/ ٢٨٦).

[3])) انظر: قاعدة في الجرح والتعديل، للتاج السبكي (ص:٣٧).

[4])) انظر: انظر وصف سيد لتطوراته الفكرية في كتاب مذكرات سائح في الشرق العربي، لأبي الحسن الندوي (ص: ٢٠٠).

[5])) انظر: مقومات التصور الإسلامي، لسيد قطب (ص:٨).

[6])) انظر: الخطاب الذهبي، لبكر أبو زيد (ص:٧).

[7])) انظر: تحفة الإخوان بتراجم بعض الأعيان، لابن باز (ص:٣٩).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.