التاريخ والأدب علاقة تكاملية
(*) الحاج مصطفى مباكي
من المقرر عند ذوي البصيرة أن العلم بمختلف فنونه لا يتعدى أن يكون ككتلة الكون، تتوسطها المجرات والنجوم، وتلعب كل منها دورها في المحافظة على توازنها، والفنون بمختلف توجهاتها وأشكالها هي التي تمثل المجرات في عالم العلم، فكما نعلم أن كل الاختراعات والاكتشافات المذهلة جاءت نتيجة الجمع بين أنواع مختلفة من العلوم الإنسانية والطبيعية، فكذلك تكون من نافلة القول الدعوة إلى وضع جدار فاصل بين علوم تشترك في محموعة واحدة، كالعلوم الإنسانية مثلا، ناسيًا بذلك الخطوط القوية التي تربط بعضها ببعض، ولعل من ألصق العلاقات بين فن ما ومثيله، هي تلك التي تزاوج بين الأدب بشكل عام والتاريخ في حدوده الواقعي على وجه خاص؛ حيث يشكل الأدب قمة ما يصل إليه الفكر الإبداعي الإنساني وليس التاريخ سوى الاحتفاظ بهذه الفكرة ونتائجها، وقد يكون من المستحيل محاولة الفصل بين هذين الفنين لا رتباطهما الشديد، لكن لا بد من التنبيه أنه سيكون خطأ إذا ظننا أن الأدب هو سرد واستشهاد لا أكثر مستغفلين التحليلي والنقدي الذي قد يعد أنفس ما يتوصل إليه علم الأدب.
ولقوة الشبه بينهما ارتكب خطأ جسيم بحق الأدب ألا وهو تأريخه حسب العصور السياسية ومحاولة الفصل بين خصائص كل عصر بنهايته، مع أن كثيرا من الأحيان كانت الحركة الأدبية هي الفاعلة لا المفعول بها وليس العكس، خاصة عند الشعوب التي تقدر قيمة الحرف, وما أروع الدكتور بكري شيخ أمين حينما كان يناقش فكرة إلصاق الأدب وتأريخه حسب العصور السياسية فقال:(من الذي يعترف أن الأدب ظل السياسة دائما وأنه يقوى بها ويضعف بها ألم يكن في عهد الطوائف قويا وفي العهد الثاني من العصر العباسي كذلك مع أن الحالة السياسية كانت على نقيض ذلك وأن التاريخ السياسي لايمثل تاريخ الشعوب بل هو جزء يساعد على فهم بعض الاتجاهات,وكأننا نعترف بنهاية كل عصر أدبي بالحقبة التاريخية التي يستند إليها مع أن ذلك غير صحييح).
ولسنا نريد بهذا القول إلى تخطئة المنهج التاريخي الذي ألف به كثير من الأدباء كتبهم خاصة في الأدب العربي، ويعرف أكثر بالأدب الوصفي, فهو نوع من كتابة الأدب يعتمد بشكل خاص على علاقة المزاوجة بين العصر وما يتولد عنه من انتماءات تفرز عوامل تكون لبنة تسير عليها الحركة الأدبية فذلك هو ما اشتهر بدراسة تاريخ الأدب الذي الذي أبدع الدكتور محمد الولي حينما يقول فيه محاولا فك اللغز الذي يجمع بينهما فيحلل كلمة تاريخ الأدب ويقول : لها معنيان: “أولهما دراسة العلاقات القائمة بين النصوص الأدبية خلال السيولة الزمنية:كيف تتغير وكيف تتحرك ولماذا تخضع الظاهرة المدروسة دوماً للتغير. وثانيهما يوحي بعلاقات النصوص بسياقاتها التاريخية. إلا أن هذين المنظورين يتكاملان أكثر مما يتعارضان.
إن القول: إن الأدب يتغير لأن التاريخ من حوله يتغير، يعتبر التفسير الأكثر شيوعاً. إن آداباً متباينة تقابل لحظات تاريخية متباينة، فإن التاريخ يدل في نفس الآن على دينامية الأدب وعلى سياقه، ولعل من أشهر وأفضل من كتب على ذلك النمط: بروكلمان في كتابه (تاريخ الأدب العربي) وكذلك الأستاذ شوقي ضيف في تلك السلسلة التي بلغت ما يزيد على خمسة عشر كتابا في مختلف العصور الأدبية، وقد استغرق ذلك العمل منه ما يزيد على ثلاثين سنة بالتمام والكمال, إلا أنها مع كل ذلك تبقى كتبا تغني قارئ التاريخ أو المتطفل على مائدة الأدب، لا الذي يحب أن يكون متضلعا فيه. ومن ذلك يتجلى الفرق الكبير الذي قد يغفل عنه الكثيرون حينما يظنون أن المطلوب من الأديب أن يكون على دراية بوقائع الأحداث وما قيل فيها من شعر وغيره فقط لا غير، ناسين مايقوله العلماء بأن علاقتهما علاقة تكاملية لاعلاقة تفاضل كل منهما يعتبر أداة لغيره ومن ثَم ينفصلان، فالمؤرخ يستعمل الشعر وغيره كمرآة لتجلي حقائق العصر الذي يدرسه, ولعل أوضح مثال لذلك: الاستشهادات الكثيرة التي أتى بها ابن هشام في سيرته, فهو إنما يأتي به كمؤرخ يبحث عما يقوي به روايته فلا يجد حرجا في نقله حتى ولو كان ضعيفا فنيا، وبقلب تلك الطريقة ــ الاستشهاد بالتاريخ على الأدب ــ اعتمد الدكتور المرحوم طه حسين في نفي كثير من الشعر الجاهلي إلى حد التشكيك بشخصية امرئ القيس؛ لأن ما يروى من شعره شيء لا يستند على براهين تاريخية ثابتة ممكن أن يعتمد عليها وذلك في كتابه المشهور(قضية الشعر الجاهلي).والأديب في دراسته الأولية لأي قضية أو نص أدبي لا بد أن يستحضر تاريخه والعوامل التي أنتجت هذا النص، حيث إن ذلك هو الذي يجعل القارى متبصرا على المواقع التي قد يتلمس منها روح الأدب، وإلا فمن يفهم شيخ المعرة دون أن يفهم عصره والعصور التي أنتجت تلك الفلسفة العميقة التي تميز بها؟ وكيف يفهم الانسان شيئا من الشعر العباسي وهو جاهل بنوع الحضارة التي كانت طاغية على ذلك العصر؟ وكيف نفهم الثورة الفرنسية من دون النصوص الأدبية التي رافقته؟ وهل يغفر لأحد أن يحلل قول الشابي (إذا الشعب يوما أراد الحياة ## فلا بد أن يستجيب القدر )وهو جاهل بتاريح الحراك الثوري في بلاد القيروان؟ ومن يستطيع أن يفك رموز اليونان أو الكلمات الغريبة المهجورة التي يقال بأن العبقري شكسبير قد اسعلمه في نصوصه إلا الذي ألم باللغات القديمة وخبر أسرارها؟! وهل يستغني المؤرخ عن كل ذلك الشعر إذ أراد تقصي ظاهرة ما في العصور القدامى ؟! فالتاريخ كما يقال يدل في في نفس الآن على دينامية الأدب وسياقه، وبما أننا في هذا الصدد يجب أن نتذكر قول عماد الدين خليل حين يقول ( بأنه لا بد ونحن نستعين بالنص الأدبي أن نحاول التوسط بين الذات والموضوع وبين اللغة الأدبية والوقائع).
ونحن إذ نتكلم هنا نستبعد كل أنواع الدراسات التي أثبت العلم عدم جدواها، إذ أكدت دورة الأيام أنها ليست سوى عاصفة سكنت بعد ويمكن أن نعد منها منهجين ذكرهم الأستاذ شوقي ضيف في كتابه وهما:
1_ منهج يدعو إلى وجوب تطبيق قواعد العلوم التجريبية والطبيعية على الآثار الأدبية ويكون بتعقب شخصيات الأدباء إلى حد وضعهم في فصائل وأسر كما يفعل علماء النبات وكان من أكبر الدعاة إليه سانت بيف
2_منهج استلهم من داروين نظرية التطور فأراد تطبيقه على الأدب بحيث يرى أن كل فن أدبي يتولد من نظيره وكان زعيمه هو برونتير
إذن فمن الخطأ أن نظن أن الدراسة الأدبية لا يتعدى أن نستعمل المنهج التاريخي فيها ونحدد العوامل التي أفرزت النص وأنتجته، ناسين الأدب النقدي والأدب الوصفي وغيره مما يعد لبا وروحا للدراسة الأدبية، حيث أنها تكشف مواطن الجمال وترشف رحيقه ويدرسه كعمل أدبي,
وفي النهاية يحسن القول كما قلنا من قبلنا بأن بين الأدب والتاريخ علاقة تكامل في أن كلا منهما إنتاج بشري، ودراسته نوع من دراسة شخصية الأنسان، فلا يستغني أحدهما عن الآخ, فهما كما يقال: أحدهما سكن جسد الأخر، وساهمت الأسطورة والخيال في تكوينهما كما أن لكل منهما خصوصيات لا يشاركه فيها صاحبه. ورحم الله الجاحظ حين يقول:
( الأديب هو من يأخذ من كل فن طرفا)
(*) كاتب وأديب باحث في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
لا جف قلمك!!!!!